يحكي فيلم "بيردي Birdy" ، للمخرج الإنجليزي آلان باركر، حكاية شاب اسمه "بيردي"، يقوم بدوره ماثيو مودين، عنده ولع بأن يطير، فينشئ غيَّة للحمام في بيته العائلي، ليراقب تفاصيله اليومية ويتعلم منه كيف يطير. يسأله صديقه "آل" (نيكولاس كيدج)، عن سبب حبه للحمام، يرد" لأنه يطير.. وهذا يكفي".
يلبس بيردي بدلة من الريش، حتى لا يخاف منه الحمام الذي يلتقطه من تحت جسور وكباري مدينته ليصحبه إلى غيَّته. يريد أن يرى الحياة بعينه ويطير بجانحيه، كما يقول في الفيلم. يتطور حلمه، فيصنع جناحين، يطير بهما لفترة وجيزة ثم يسقط. تثور أمه على سلوكه الذي تجده غريبًا، ولا يميل للفتيات، فتقرر تكسير الغيَّة على أمل أن يستعيد ابنها حياته الطبيعية.
يستبدل بيردي ببغاءً صغيرة، سماها بيرتا، بغيَّة الحمام المفقودة، لتعيش معه في غرفته. يأتي لها بذكر، وتبدأ دورة من دورات الطبيعة والتوالد تشغل حيزًا في عالمه. من كثرة المراقبة والتماهي فيما بينهما، يحل بيردي في جسد بيرتا، كحلول الله في جسد الصوفيين، يتخيل نفسه يطير عبر جسمها، يرى مدينته بعينيها، كأنه إله، يتسامى عن الأرض وشواغلها، لأن هناك ما يشغله في السماء.
أتذكر صديقًا راحلًا كان يطلق الببغاوات، داخل شقته، التي يعيش فيها وحيدًا؛ حرة، طليقة. ربما اختار ذلك، لأنه أصبح لا يتحرك إلا بصعوبة، ربما أعادت له الببغاوات حرية الحركة، بعد أن حلَّ في جسدها عبر تماهيه معها، حتى في صفيره.
يخوض بيردي وصديقه آل حرب فيتنام. يعود آل بحرق في وجهه، أما بيردي فيعود مصابًا بحالة من الصمت، كأنه انفصل تمامًا عن ذلك الواقع المرعب الذي كان سببًا في الحرب، فيتم حجزه في مستشفى للأمراض العقلية، وعبر شباك غرفته كانت عينه مصوبة للسماء، تراقب الطيور التي تحلق حولها، وينعكس ظلها على جسده العاري.
ضيف جديد في حمَّام بيتنا
في الشهر الأخير استقبل حمَّام بيتنا ضيفًا جديدًا. جاءت إحدى الحمامات وبنت عشها في تجويف الهوَّاية القديمة، غير المستعملة، التي تقع أعلى الحائط، وتطل على الحديقة.
عند دخولي الحمام أسمع هديلها المتواتر. في البداية لم ألحظ وجودها، واعتقدت أن ذلك الصوت يأتي من مكان بعيد، وليس على بعد مترين. أشعر بالحمَّام يزداد اتساعه، وينزلق ذائبًا داخل ذلك الصوت. لصوت الحمام صدى يكبِّر المسافة. هذا "البعيد الرحب" أصبح جزءًا من مساحة الحمام، كأنه الموسيقى التصويرية التي تحرر الصورة وتنثرها في فضاء رحب.
هناك مسافات مطوية داخل صوت الحمام، اكتسبها من طيرانه، لقد بلع رمزية المسافات داخل صوته، فأصبحت إحدى طبقاته، التي تأتي بالمسافة صاغرة تحت قدميه، حتى وهو ساكن.
ربما كان يتحدث معي، بذلك الهديل المكتوم، ربما اعتاد عليَّ، وعلى الصوت الذي أطلقه من فمي محاولًا تقليده. بالتأكيد هناك شفرة نشأت لذلك التواصل اليومي بيننا. في الصباح أجد عيدان القش الذي يأتي به من الخارج، تنزلق من فتحات الهواية العرضية وتتناثر على أرضية الحمام.
طال زمن مكوث الحمامة داخل تلك الكوة، ما يفوق الزمن المعتاد لفقس البيض. احترتُ هل هي أنثى أم ذكر. كنت أحادثها بالصيغتين معًا.
انتظرنا سماع صوت الصغار، وبداية تشكل تلك العائلة. ربما آثرت تلك الحمامة، سواء كانت ذكرًا أم أنثى، اللجوء الفردي لهذا المكان الآمن، دون أي خطط مستقبلية، سوى العيش مع هذه العائلة الصغيرة، لتضيف لنا خبرة المسافات الطويلة التي اختزنتها داخل هديلها المتواتر. يومًا ما ستأخذ معها مسافاتها وترحل بحثًا عن مكان جديد وعائلة جديدة، فلاحق لنا في بيت المسافات الذي تحمله في صوتها، لأننا لم نتعب فيه، ولكن لن أنسى شعوري، عندما كنت أسمع صوت هديلها، كانت جدران الحمَّام تذوب، وتظهر من خلفها تلك الفضاءات الطازجة في الخارج.
الأصوات نماذج مصغرة من الطبيعة
في عام 2014، في فترة من فترات حياتي الصعبة، أقمت في غرفة العناية المركزة، بإحدى المستشفيات الخاصة، لمدة أسبوعين تقريبًا. جاء صديق لي بجهاز مسجل عليه سور قرآنية بصوت المقرئ الشيخ مصطفى إسماعيل. كان يتصاعد في خلفية صوته العذب، صوت هديل حمام، تنفتح وراءه سماوات مسالمة، فأطير بروحي عاليًا، مثل بيردي، بجانحي الحمام وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل، بينما جسدي مقيد في السرير بأنابيب التغذية والدم والمحاليل.
كان صوت الهديل المكتوم للحمام مع صوت القراءة يبعثان في نفسي طمأنينة عضوية، مثل أنبوب المخدر تمامًا، الذي أخذه مساءً، وهو يسري في جسدي، يجعلني بين النوم واليقظة. يتسع حجم السرير ويذوب في أحشاء تلك الطبيعة البعيدة، كأنها حاضرة داخل ذلك الصوت. ربما الأصوات نماذج مصغرة من الطبيعة.
أيضًا كنت أطير لذلك البيت الذي شيده في خيالي صوت الهديل مع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، تخيلت إحدى البلكونات المحاطة بالخشب المشبك، حيث يعيش الحمام. الغريب أنني تخيلت أيضًا نقوش بلاط تلك البلكونة، كانت عبارة عن مربعات موزاييك صغيرة تتوزع بين الأبيض والأزرق. سرعان ما تذكرت بلاط حمام بيتنا القديم، له النقوش نفسها. ربما كنت أبحث عن بيتنا القديم الذي يسكن داخل صوت الهديل، والشيخ معًا.
عبودية الحمام
قابلت علي يونس، أحد هواة تربية الحمام، منذ عشرين سنة تقريبًا في شارع إسطاسي في المنشية. جلست معه، وحكى لي حكاية عبوديته للحمام، وشغفه به منذ طفولته، وتعلقه بغيَّة الحمام لجارهم في السكن. حاول أن يقلد جاره، ومن شباك غرفته لوح للحمام براية حمراء صغيرة، وللصدفة، استجاب زوج منهم لتلك الإشارات الودودة، ودخل إلى غرفته. أصر أبوه أن يخبر جارهم بما فعله ابنه، فما كان من الجار إلا أن أهدى الزوج للصبي الصغير، وكانت بداية رأسماله في هذا الحب الذي سيتحول إلى عبودية.
ربما أهداه الجار زوج الحمام، وهو يعلم تمامًا خطورة هديته، التي ستحتاج لتربية النفس أولًا قبل تربية الحمام، وربما هذا ما قصده الجار الطيب.
تذبذبت علاقته بالحمام خلال حياته، ما بين الحب والكراهية. كانت الكراهية على قدر المحبة، بيضاء وشفافة، وذات ريش كثيف. كان يلجأ إليها في اللحظة التي يشعر فيها بأنه أصبح عبدًا للحمام، وأنه وحده وتفاصيل عالمه الكثيرة، يسيطران على حياته، وعلى كل اهتماماته.
ربما أيقظ الحمام فيه، كطفل، حلمه بالطيران، وفي الوقت نفسه أيقظ السجن المجازي، الذي يتخفى وراءه. مع الزمن، اختفى حلم الطيران، داخل حلم العبودية والاستسلام.
كان يصل بالغيَّة إلى مئتي زوج من الحمام، وفي لحظة يقرر أن يتخلى عنها كلها، فيقوم ببيعها، بالخسارة، لأن روحه كانت في الكفة الأخرى من الميزان. كان السبب وراء قراره بالتخلي، ابنه الذي تعلق بدوره بالحمام.
بعد أن كبر الأولاد، أعاد علي يونس بناء الغيَّة من جديد، ووصل بها إلى رقم كبير، فاق الأولى، ثم تكرر بيعها بالخسارة، كأنه يمرن نفسه على التخلي، وكأن الحمام هو كيس الملاكمة الذي يتدرب عليه. عبر تلك الثنائية، الاكتناز ثم التخلي، أصبحت الحرية التي تتحسس ذاته في غاية العمق، أن تخضع كاملًا لعبودية كائن آحر، مثل الحمام.
خطورة الحمام، كما قال، إنه يحتاج لرعاية كاملة، تجعلك تقترب جدًا من تفاصيل حياته، حتى تدخل في تفاصيل حياتك، وتتماهى الحياتان دون حدود.
يشبِّه علي يونس الحمام بالأفيون، فالذي يحب الحمام يصبح مدمنًا له. في أي كارثة ألمت بحياته، أو بعد عودته من يوم مرهق في العمل، كان يبحث عن الأفيون، فيصعد إلى سطح البيت، حيث الغية، ويجلس هناك حتى يحل المساء، ليعود لنفسه صفاؤها.
تلك المسافات التي قطعها الحمام، بالنيابة عنه، وخزَّنها في صوته ورفرفته، وسكناته، كان يشبهها بالمياه التي تتسرب داخل نفسه بهدوء.
الصوت الذي أدمنه علي يونس، هو الصوت نفسه، الذي بعث في أوصالي الطمأنينة في المستشفى.
الحمام والطهرانية
عندما فكرت في اختراع شخصية، في روايتي الأولى، لها روح نقية، بيضاء وشفافة، ثمثل عصر الأربعينيات، قفز إلى ذهني مباشرة شخصيتين: علي يونس وبيردي. أصبح الاثنان متحدين في جسد أحد أبطال الرواية، الذي أجَّر لفترة مؤقتة شقة صغيرة على سطح بيت العائلة. اخترته غير متزوج، وقد تعدى الأربعين، ليعبر عن تلك الروح الأنثوية التي تمثلها علاقته العميقة بالحمام.
كان اختياري لشخص بتلك المواصفات، شيء قريب من طهرانية بيت العائلة، والعصر معًا. ولكن وراء ذلك الحب للحمام، هناك شك عظيم، وهو ما يمثله سلوك ذلك الرجل من إحساسه بالعبودية أو السجن، وتخليه كاملًا عن الغيَّة.
كل طهرانية، في ذلك العصر، كانت تطفو فوق بحيرة من الشك، أو الرغبات المكتومة، أو الخوف من الحياة. وهي إحدى الرؤى الأساسية التي كنت أقيِّم بها حياة أجداد العائلة، والعصر، في روايتي الأولى.