تأسيس
بدا وكأنه يوم عادي كباقي أيام تلك الفترة المشحونة شديدة الاضطراب. كانت الانتخابات البرلمانية على الأبواب، والساحة تموج بالصراعات والتحالفات بين الفصائل والأحزاب السياسية، والأصوات التي تُجَرِّم وتُخَوِّن من يتخذ من العمل بالسياسة بديلا عن "الثورة"، بينما صدي هتاف "يا مشير إنت الأمير" الذي انطلق في جمعة قندهار منذ عدة أسابيع، لا يزال يدوي في الخلفية.
وقتها، كانت أزمة كنيسة الماريناب قد اندلعت منذ أيام، وتظاهر واعتصمت أمام ماسبيرو أعداد كبيرة قوامها الرئيسي من الأقباط، ليبرهنوا على أن حقوق الأقباط لن تكون نسيًا منسيًا في مصر الثورة، وأن حقوقهم كمواطنين لن تنتقص.
عقب اندلاع الأزمة؛ مَثَّلتُ الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي في مؤتمر صحفي عُقِد في أحد الفنادق، لأتلو بيان الحزب وأوضح موقفه من القضية. وانشغلت مجموعات من الحزب بتقديم الدعم لمتظاهري ومعتصمي ماسبيرو من أغذية وبطاطين وخلافه. إلا أن قيام الأمن المركزي والشرطة العسكرية بفض الإعتصام بالقوة، أثار غضب الأقباط والقوي "المدنية". فانطلقت الدعوة للقيام بمسيرة ضخمة من شبرا وحتي ماسبيرو احتجاجا على هذا الوضع.
ولما كنا نستعد للإنتخابات البرلمانية، فكان من المقرر مساء هذا اليوم أن يُعقد اجتماع للمكتب التنفيذي للحزب، يعقبه اجتماع آخر لأمانة الشؤون السياسية لمناقشة برنامج الحزب وخطابه السياسي وتحركاته خلال الانتخابات. وانتهي اجتماع المكتب التنفيذي مبكرا بعض الشيء، فقررت أنا وعماد جاد الانضمام بعض الوقت لوفد الحزب المشارك في تظاهرة ماسبيرو، على أن نعود للمقر لاحقا.
المشهد الأول: كيرياليسون
تحركت أنا وعماد من مقر الحزب في شارع محمود بسيوني قرب ميدان التحرير، واتجهنا لشارع الجلاء للانضمام للمظاهرة قبل وصولها أمام مبني التليفزيون. كان مشهد المتظاهرين مهيبًا: مجموعات تتراوح في الحجم والعدد تتقاطر بطول شارع الجلاء، يفصل بين كل مجموعة وأخري عشرة أو عشرون مترًا، يرفعون الصلبان وصور السيدة العذراء والسيد المسيح ويهتفون "كير يا ليسون" غالبا، و"يسقط يسقط حكم العسكر" أحيانا. ولفت نظري ارتفاع نسبة السيدات وكبار السن والأطفال بشكل ملحوظ، مقارنة بالتظاهرات الأخرى التي شهدتها.
المشهد الثاني: "يا يسوع يا يسوع.. الحقنا يا يسوع"
وصلنا للناصية المواجهة لمدخل مبني التليفزيون، حيث تجمع عدد من الزملاء تحت لافتة تحمل شعار الحزب بجوار مطعم بابريكا. كان منهم على ما أذكر كامل صالح عضو الهيئة العليا، وهاني نجيب المدير التنفيذي للحزب آنذاك، وعدد آخر من أعضاء الحزب. وأغلقت قوات الجيش طريق الكورنيش باستخدام صفين أو أكثر من الجنود أمام مدخل مبني التليفزيون، على بُعد بضعة أمتار من مكان وقوفنا.
وبإغلاق الطريق وتوالي وصول مجموعات المتظاهرين، زادت كثافة المظاهرة وإن التزم المشاركون بالوقوف قبل صف الجنود الأول بعدة أمتار، مستمرين في هتافات المطالبة بحقوق الأقباط وسقوط حكم العسكر.
بعد وصولنا بعدة دقائق؛ انفتحت صفوف الجنود، واندفع من بينها مجموعة ترتدي الملابس المدنية اعتدت على المتظاهرين مباشرة لترتفع الهتافات الغاضبة ويبدأ بعدها الجنود في الهجوم على المتظاهرين باستخدام الهراوات.
بدأنا في التقهقر والانسحاب مع المتظاهرين في اتجاه عبد المنعم رياض، وفجأة اندفعت مدرعتان وسط المتظاهرين، وبدأتا في مطاردتهم فوق الأرصفة في اتجاه عبد المنعم رياض، والعبور فوق الجزيرة التي تتوسط الطريق للعودة في اتجاه التليفزيون، ثم تعيد الكَرَّة جيئة وذهابا بطول الشارع من مبني التليفزيون لهيلتون رمسيس، وسط ارتفاع صوت المدافع متعددة الطلقات التي كان يطلقها الجنود من فوق المدرعتين.
سادت حالة من الرعب بين المتظاهرين، وتعالت صرخات الهلع لتختلط بأصوات إطلاق المدعات للرصاص وسط استغاثات النساء والأطفال. وكان الفرار من المدرعات والنيران أمرًا شديد الصعوبة، نظرا لكثافة المتظاهرين الذين كانت بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال وكبار السن غير المتمرسين في التظاهر والكر والفر، ولا يتمتعون بالسرعة اللازمة في مثل هذه المواقف.
أذكر أنّي أصبت بحالة من الارتباك لأن إحدى السيدات، ربما في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينات من العمر، كانت تجري أمامي مباشرة وهي تصرخ في رعب "يا يسوع يا يسوع.. انجدنا يا يسوع"، فلم اتمكن من تخطيها خوفًا عليها من أن تدوسها أقدام المتظاهرين.
استمرت المدرعتان في المطاردة المسعورة للمتظاهرين، الذين لجأ بعضهم للدخول في العمارات المطلة على الكورنيش (وهو تصرف ثبت خطأه في ما بعد). واستمر البعض الآخر في الفرار تجاه هيلتون رمسيس وميدان عبد المنعم رياض. بينما استطاع عدد آخر، وأنا منهم، الانعطاف يسارا في شارع ضيق يؤدي للملحق التجاري لهيلتون رمسيس، الذي تجمع أمامه عدد من المتظاهرين ممن نجحوا في الفرار.
- قطع –
المشهد الثالث: أجساد مضرجة بالدماء
بمجرد وصولي أمام الملحق التجاري والتقاط الأنفاس، وجدت عددًا كبيرًا من أجساد القتلى والجرحى محمولة وهي تقطر دما. فهناك من أتي به المتظاهرون جريًا، وهناك من حملوه على الدرَّاجات النارية أملا في إنقاذه، وهناك من تشوهت ملامحه تماما وصار جثة هامدة.
شيئا فشيء؛ تزايدت أعداد الأجساد الدامية المحمولة، وتعالت صرخات من نوع آخر غير تلك التي سمعتها أثناء المطاردة. كانت هذه صرخات الفجيعة في فقد الأهل والأحباب، تتخللها صرخات الاستغاثة بيسوع، وإن كانت أكثر لهفة وطلبا للنجاة وربما استنكارا. بينما استمرت في الخلفية أصوات المذبحة، ليتزايد عدد الأجساد المحمولة إلينا مضرجة بالدماء.
توقف الزمن برهة؛ وأنا اجول ببصري بين القتلى والمصابين والهاربين من المذبحة، حتي التقت عيناي بهاني نجيب الذي كان يجول ببصره هو الآخر في المكان، وينظر إليَّ نظرة تحمل عدم التصديق والأسى والصدمة، وربما كما خيل لي شيء من العتاب. تجمعنا مع باقي زملاء الحزب الموجودين، وكان عليّ العودة لغرفة العمليات في الحزب أنا وعماد جاد، للتشاور مع باقي الزملاء حول الخطوات الواجب اتخاذها.
- قطع –
المشهد الرابع: المواطنون الشرفاء
في الحزب تم الاتفاق على ضرورة إصدار بيان سريع حول المذبحة وتم تكليف محمد نعيم بصياغته. وبينما قامت مجموعة بتنسيق الدعم الطبي والقانوني، قامت مجموعة أخري بالاتصال بوسائل الإعلام والفضائيات. وكان عماد جاد، نظرا لعلاقاته بمختلف وسائل الإعلام والصحف، يبذل جهدا كبيرا في توضيح الحقائق كما رأيناها، ويستشهد بي، ويدعو وسائل الإعلام للحديث معي على أساس أنني مسلم الديانة وكنت شاهدًا على الأحداث، بجانب إجادتي للغة الإنجليزية التي مكنتني من التعامل مع وسائل الإعلام الأجنبية.
وبينما نحن في الحزب؛ بدأت الأخبار ترد إلينا عن حجم المذبحة وملابساتها، فعلمنا أن عدد القتلى والجرحى كبير، وأن التليفزيون المصري طالب "المواطنين الشرفاء" بالنزول لحماية جيشهم من الأقباط، لتبدأ ليلة سوداء من العنف الطائفي الأهلي بتحريض أجهزة الدولة العسكرية والإعلامية، وتبرهن السلطة الحاكمة على استعدادها للتضحية بالمجتمع نفسه إن استدعي الأمر.
بدأت عصابات المواطنين الشرفاء تجوب الشوارع بحثا عن الأقباط، أو على الأقل محالهم التجارية، أو تلك التي يُشتَبه في كونها مملوكة لأقباط، مثل محلات المجوهرات والخمور. وسمعنا أصوات تلك العصابات في الشوارع المجاورة لمقر الحزب في شارع محمود بسيوني. وبخفوت الأصوات، غادرت الحزب برفقة محمد نعيم وكامل صالح لتوصيل كامل إلى منزله في المهندسين، ثم الاتجاه نحو مصر الجديدة.
- قطع –
المشهد الخامس: ما العمل؟
في طريقنا لاستقلال السيارة من ميدان عبد المنعم رياض، استوقفنا أحد "الصبية الشرفاء" ليسألنا عن المحلات المملوكة للمسيحيين في الشارع. وقرر كامل عندها أن يدخل في حوار سياسي مع الصبي الشريف عن سبب اعتدائه على محلات الأقباط. فما كان مني إلا أن قاطعته بحسم "ياللا يا كامل علشان نروحك ونروح إحنا كمان"، وجذبته من ذراعه واتجنا للسيارة التي كنت متأكدًا أنني سأجدها حُطاما في ساحة الإنتظار بعد أحداث الليلة، إلا أنني وجدتها سليمة باستثناء إصابة زجاجها الأمامي.
بعد أن أوصلنا كامل إلى منزله، اتجهنا إلى مصر الجديدة عبر كوبري أكتوبر. وفي الطريق، وجدنا هرجًا ومرجًا أمام المستشفي القبطي بغمرة، التي تم نقل المصابين اليها. نظرت إلى محمد نعيم وقلت له "دلوقتي الموقف كالتالي؛ إنت عندك سلطة عسكرية تقدر تتعشى بتلاتين أربعين بني آدم وبعدين تروح بالليل تنام عادي". فرد نعيم قائلًا "آه.. والخوف إن لو الموضوع عدّا؛ ممكن التلاتين أربعين دول يبقوا تلتمية ربعمية بعد كده". ولأني لم أستطع تحمل المزيد من الكآبة ردَّيت قائلا: "ياساتر عليك.. ده إنت إنسان سوداوي وكئيب يا أخي"، فرد نعيم ساخرا: "حقك عليا.. حاول تستحملني".
- قطع -
المشهد السادس: أما بعد
- المكان: مقر الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي بشارع محمود بسيوني.
- الزمان: بعد مرور عام أو أكثر على مذبحة ماسبيرو.
- المناسبة: اجتماع المكتب التنفيذي للحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي.
- عماد جاد متحدثا بلهجة حاسمة "لا..لا.. اللي حصل في ماسبيرو كان إن مجند بيسوق المدرعة فقد السيطرة على أعصابه، فالأمور تصاعدت وخرجت عن السيطرة".
تتر النهاية
- عماد جاد حاليا (عام 2016) نائب في البرلمان، وعضو المكتب السياسي لحزب المصريين الأحرار. وكان شريكًا في إحدى القنوات الفضائية المملوكة للواء سامح سيف اليزل رحمه الله، والذي كان أول من اتهم متظاهري وشهداء ماسبيرو أنهم كانوا مسلحين، وأنهم هم الذين اعتدوا على قوات الجيش.
- هاني نجيب حاليا نائب في البرلمان وقيادي بحزب المصريين الأحرار وكان شريكًا في نفس القناة.
- كامل صالح تقدم مؤخرًا بإستقالته من منصبه كنائب لرئيس الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي للشئون المالية والإدارية، وجمَّد فعليا نشاطه الحزبي.
- محمد نعيم توقف عن ممارسة السياسة بشكل تنظيمي بعد 30 يونيو، وانحصر نشاطه في الشأن العام بالكتابة في هوامش تضيق يوم بعد يوم.
- كاتب هذه الشهادة تقدِّم باستقالته من الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي في ديسمبر 2014.