افتتحت إثيوبيا سد النهضة على النيل الأزرق رسميًا الثلاثاء الماضي، بعد 13 عامًا من مفاوضات مع دولتي المصب مصر والسودان لم تُسفر عن اتفاق قانوني عادل ومُلزم لملء وتشغيل السد، في خطوة وصفتها القاهرة في خطاب إلى مجلس الأمن بأنها "أحادية ومخالفة للقانون الدولي".
ورغم تطمينات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بأن السد "لن يكون مهددًا أو سببًا لخوف لدولتي المصب"، أكدت مصر أنها "تحتفظ بحقها في الدفاع عن مصالحها الوجودية في نهر النيل، ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول ما إذا كان تشغيل السد نهاية لأزمة استمرت لسنوات، أم أنه بداية لمرحلة جديدة من الصراع".
13 عامًا من المفاوضات
وضعت إثيوبيا حجر أساس المشروع في أبريل/نيسان 2011، وبدأت الملء الأول في صيف 2020، ثم تشغيل السد، وتوليد الكهرباء لأول مرة عام 2022.
وعلى مدار 13 عامًا، فشلت جولات التفاوض المتكررة في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد الملء والتشغيل، وهو ما دفع القاهرة في 19 ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى إعلان انتهاء المسار التفاوضي، متهمة أديس أبابا بـ"التعنت ورفض الحلول الوسط".
وخلال جولات التفاوض تبادلت مصر وإثيوبيا الاتهامات بشأن أسباب تعثر المباحثات. فالقاهرة اتهمت أديس أبابا بـ"المماطلة" و"فرض سياسة الأمر الواقع" عبر الاستمرار في الملء والتشغيل دون اتفاق، واعتبرت أن ذلك يكشف عن غياب الإرادة السياسية للتوصل إلى تسوية عادلة.
في المقابل، ردت إثيوبيا بأن مصر "متمسكة باتفاقيات قديمة تعود للعهد الاستعماري"، وتطالب بـ"حصة مائية ثابتة" تراها أديس أبابا غير منصفة ولا تعكس واقع النمو السكاني والتنمية في دول المنبع، كما حمّلت إثيوبيا القاهرة مسؤولية "تسييس" الملف و"تدويله"، فيما شددت مصر على أن تمسكها بالمسار الدولي ليس سوى محاولة لردع الإجراءات الأحادية وضمان قواعد قانونية ملزمة لإدارة النهر.
رسائل إثيوبية متناقضة
قبل يومين، افتتحت أديس أبابا السد في احتفالية حضرها رؤساء عدد من دول الجوار، منها جنوب السودان وكينيا والصومال وجيبوتي.
وفي كلمته خلال الافتتاح، شبَّه آبي أحمد الحدث بـ"انتصار العدوة"، في إشارة إلى المعركة التاريخية التي هزمت فيها إثيوبيا الاستعمار الإيطالي عام 1896.
وفي المقابل، وجّه تطمينات إلى مصر والسودان، مؤكدًا أن بلاده "لن تضيع حق الجار، ولا ترغب في الإضرار بالآخرين"، وداعيًا الدولتين للمشاركة في "مشروعات تنموية مشتركة مقبلة".
دفاع عن الوجود
في هذه الأثناء، أعلنت وزارة الخارجية المصرية أنها خاطبت مجلس الأمن لإخطار موقفها الرافض للإجراءات الإثيوبية الأحادية على النيل الأزرق. وأكدت أن هذه الخطوات "باطلة ولا يُعتد بها"، وأن أي تصور بأن القاهرة ستغض الطرف عن مصالحها الوجودية في نهر النيل "محض أوهام".
وشددت مصر على احتفاظها بكافة حقوقها في اتخاذ التدابير المكفولة بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، مُلوحة بخيارات مفتوحة إذا ما استمرت إثيوبيا في فرض الأمر الواقع.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن نهر النيل قضية ترتبط بحياة الشعب المصري وبقائه، كونه يشكل المصدر الرئيسي للمياه في البلاد، بنسبة تتجاوز 98%، مضيفًا أن الحفاظ على هذا المورد الحيوي هو "مسألة وجود".
وفي مارس/آذار 2024 أقر وزير الري هاني سويلم بتأثر مصر بسد النهضة، لكنه أكد أن "الدولة المصرية قدرت تتعامل معاه بتكلفة ما"، مؤكدًا في الوقت ذاته أن "اتفاقية إعلان المبادئ بتقول لو تسبب السد في أضرار لدول المصب، فيه ثمن لازم يندفع، ولازم مصر هتطالب به في يوم من الأيام".
تحذيرات قانونية ودبلوماسية
يرى خبراء في القانون الدولي، تحدثوا لـ المنصة، أن الخطوة الإثيوبية تمثل مخالفة صريحة للقانون الدولي. إذ اعتبر مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير محمد حجازي أن افتتاح السد "عمل أحادي عدائي وغير مسؤول يهدد الأمن الإقليمي".
وشدد أستاذ القانون الدولي محمد مهران على أن اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 تحظر الإجراءات الأحادية المضرة بدول المصب، وتُلزم بالانتفاع المنصف والمعقول، أما نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الإفريقية السفير صلاح حليمة، فاتهم أديس أبابا بممارسة "مراوغة ومماطلة" لفرض هيمنتها على مياه النهر، مشيرًا إلى أن إعلان المبادئ الموقع عام 2015 لم يحترم من جانبها.
مخاوف مصرية
بدوره، أكد مصدر مطلع على ملف سد النهضة بوزارة الري المصرية تمسك القاهرة بإبرام اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد التشغيل وكذلك إعادة الملء، موضحًا أن حالات الجفاف والجفاف الممتد الذي قد يستمر إلى 7 أو 10 سنوات أهم ما يشغل مصر.
وتتركز المخاوف على ما يسمى بـ"الجفاف الصناعي" الذي قد يحدث إذا شرعت إثيوبيا في ملء خزان السد دون تنسيق مع السد العالي، خصوصًا في فترات الجفاف الممتد، حسب المصدر الذي أكد أهمية وجود اتفاق ينظم تبادل بيانات تصريف المياه التي يطلقها السد الإثيوبي يوميًا وآليات لفض المنازعات.
تصعيد أم تعاون
يرى خبراء أن افتتاح السد يفتح الباب أمام "مرحلة جديدة من الصراع وربما التفاوض".
ويعتقد أستاذ تخطيط وإدارة المياه علاء الصادق، أن التوصل إلى اتفاق عادل وملزم يمكن أن يحول السد من مصدر توتر إلى أداة للتعاون الإقليمي.
ويرى السفير محمد حجازي أن التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يحفظ حقوق الدول الثلاث سيمنع انزلاق المنطقة إلى صراع يهدد الأمن والسلم الدوليين، خاصة في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي المرتبطة بأمن الخليج والبحر الأحمر وحركة التجارة والنقل البحري.
في المقابل، حذّر آخرون من أن تجاهل إثيوبيا لاتفاق ملزم قد يجر المنطقة إلى صراع يهدد الأمن والسلم الدوليين، خاصة في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي المرتبط بأمن البحر الأحمر والخليج.
وقال عضو الفريق الإثيوبي في المفاوضات فك أحمد نجاش، إن التوترات ستظل قائمة مع احتمالات نشوب خلافات حول تشغيل السد وتوقيتات وكميات إطلاق المياه.
وزعم نجاش في مقابلة مع "أديس ستاندرد" الإثيوبية قبل أيام أن إصرار القاهرة على اتفاق ملزم يستهدف انتزاع اعتراف بحصة مصر الواردة في اتفاقيات تصفها أديس أبابا بأنها تعود للحقبة الاستعمارية وتمس السيادة، على حد قوله.
أدوات ضغط وخيارات مفتوحة
ويشير مراقبون إلى أن مصر تمتلك أوراق ضغط دبلوماسية واقتصادية، من بينها تحريك الملف في المؤسسات الدولية والإقليمية، والتنسيق مع شركاء إقليميين مثل السعودية والإمارات وتركيا، كما تظل إمكانية اللجوء إلى وسيط دولي مثل الولايات المتحدة مطروحة، شريطة وجود ضمانات لجدية المسار.
وفي حين لا يستبعد مهران وحليمة اللجوء إلى الحل العسكري كخيار أخير، حال استنفاد جميع الطرق السلمية، استنادًا إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تكفل حق الدفاع الشرعي عن النفس، تتبنى القاهرة حتى الآن خطابًا يوازن بين التحذير والتأكيد على التمسك بالحلول الدبلوماسية.