رغم ارتفاع احتياطات النقد الأجنبي إلى أعلى مستوى في تاريخها، وارتفاع الأصول الأجنبية للقطاع المصرفي خلال الأشهر الأخيرة، قال مصرفيون لـ المنصة إن البنك المركزي لا يزال يشترط على البنوك أخذ موافقته قبل تمويل استيراد حزمة من السلع.
وتأتي الممارسات غير المعلنة داخل القطاع المصرفي بالتضييق على الاستيراد في ظل مخاوف من استنزاف الموارد الدولارية، كما يقول خبراء لـ المنصة، ما قد يضطر البلاد لخفض عنيف في قيمة العملة المحلية أمام الدولار، التزامًا بشروط صندوق النقد الدولي بالحفاظ على سعر صرف مرن.
تقليد من أيام الأزمة
وقال مصدر مطلع في إدارة الائتمان بأحد البنوك الخاصة، لـ المنصة، طلب عدم نشر اسمه، إن البنك المركزي يشترط على البنوك الحكومية والخاصة ضرورة إبلاغه قبل قبول أي عملية استيرادية تخص حزمة من السلع.
وكانت تقارير صحفية رصدت بدء قيود "المركزي" هذه خلال فترة تصاعد أزمة شح النقد الأجنبي خلال العامين الماضيين، وكذلك أنه أصبح أكثر تشددًا بشأن السماح بالاستيراد، رغم تحسن مؤشرات توافر العملة الصعبة منذ مارس/آذار الماضي، بعد صفقة رأس الحكمة.
وكانت شعبة المستلزمات الطبية شكت خلال الأسابيع الماضية من تعطل شحنات لها بسبب تعليمات شفاهية من البنك المركزي، قبل أن يتم تيسير وارداتها في وقت لاحق.
وأوضح المصدر المصرفي أن قائمة السلع التي يشترط المركزي الموافقة عليها تشمل السيارات كاملة الصنع، والموبايلات وكمالياتها، والفواكة الطازجة والخضر والنباتات، والبذور الغذائية، والكاكاو، واللؤلؤ والمجوهرات، والتلفزيونات والأجهزة الكهربائية، ولعب الأطفال، والملابس الجاهزة، والمعدات الثقيلة مثل اللوادر والأوناش والبلدوزرات، والمفروشات والأثاث، والإطارات المستعملة، إضافة إلى قطع غيار السيارات، والأجهزة الطبية مرتفعة التكلفة.
مصرفي ثانٍ في بنك خاص قال لـ المنصة إن القيود الاستيرادية تنصب بالأساس على سلع لا يمثل منعها أزمة كبيرة "التعليمات تتعلق بالأساس بالسلع غير الأساسية، منها الأجهزة الطبية، للتحوط من الأسعار المرتفعة بالعملة الأجنبية التي تشكل عبئًا على القطاع المصرفي".
وفرة أم نقص للعملة الصعبة؟
أرجع خبراء الممارسات التقييدية للاستيراد رغم تحسن المؤشرات الكلية لمصر إلى وضع النقد الأجنبي في البلاد، باعتباره لا يزال يتسم بالهشاشة.
وقال عضو مجلس إدارة بنك خاص بالقطاع المصرفي المصري لـ المنصة، إن مصر تعاني نقصًا في مصادر الدولار المستدامة "ما يزيد من الضغط على العملة الصعبة ويجعل هناك حاجة إلى توفير الدولار للاحتياجات الأساسية".
وكانت مصر تلقت دفعة كبيرة من الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين المحلية منذ مارس الماضي، بعد أن سمح البنك المركزي في هذا الشهر بارتفاع سعر الصرف الرسمي للدولار، ما يمثل تصحيحًا لقيمة الجنيه، الذي رأت مؤسسات دولية أنه مقوم بأكبر من قيمته.
لكن في مقابل التدفق الكبير للأموال الساخنة، تراجعت إيرادات قناة السويس بقوة بسبب الاضطرابات المستمرة في البحر الأحمر، وتكبدت البلاد تكلفة كبيرة لاستيراد الغاز المسال للسيطرة على أزمة انقطاعات الكهرباء.
وكان ميزان المدفوعات عن تسعة أشهر من العام المالي 2023-2024 أظهر تراجعًا قويًا في الصادرات البترولية، وإيرادات قناة السويس، حيث سجلت الأخيرة انخفاضًا بـ57.2% خلال الربع الأول من العام الجاري بسبب اضطرابات البحر الأحمر المستمرة بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
ويضيف عضو مجلس الإدراة بالبنك أن ضغوط الطلب على الدولار تدفع البنك المركزي لتجديد تقييد بعض السلع الكمالية وإضافة سلع أخرى إليها، للمساهمة في ترشيد استهلاك الدولار والسيطرة على الموازين الخارجية.
وكانت ضغوط الطلب على العملة الصعبة تسببت خلال الأيام الماضية في ارتفاع الدولار لأعلى مستوى له منذ مارس، وقال مصدر حكومي في تصريحات سابقة لـ المنصة إن الدولة تعهدت للصندوق الشهر الماضي بالالتزام بسعر مرن للصرف، ما قد يرفع سعر العملة الأمريكية لمستويات فوق الـ50 جنيهًا في المدى المتوسط.
ما رأي الصندوق؟
لم يكشف صندوق النقد الدولي بعد عن تفاصيل المراجعة الثالثة لبرنامجه التمويلي لمصر الذي أبرمه في ديسمبر/كانون الأول 2022، لكنه كان يؤكد في وثيقة المراجعة الأولى والثانية على ضرورة الالتزام بسعر الصرف المرن واستجابة البنوك للطلب المتراكم على العملة الصعبة.
ويقول الخبير المصرفي هاني أبو الفتوح لـ المنصة إن استمرار تقييد حزمة من السلع "يعد التفافًا على الاتفاق مع صندوق النقد".
ويضيف أن هذه الممارسات لم تسهم بعد في خلق سوق سوداء للعملة الصعبة لأن "المركزي يشترط موافقته على استيراد مجموعة السلع المشار إليها حتى لو العميل يمتلك السيولة الكافية لاستيرادها.
"مصر تواجه تحديات بشأن تغطية فجوة التمويل الدولارية، من الطبيعي أن تكون البلاد أكثر تقشفًا في الاستيراد"، كما يقول الخبير المصرفي محمد أنيس لـ المنصة.
ويرى أنيس أن الحزمة التي يفرض المركزي رقابة على استيرادها لا يساهم الحد منها في رفع الضغوط الاقتصادية "ليست من السلع الأساسية أو التي تتأثر بها الأنشطة الصناعية المحلية".
وسبق أن أكد خبراء لـ المنصة أن الضغوط التضخمية الناتجة عن الإجراءات الإصلاحية المطلوبة بمقتضى الاتفاق مع صندوق النقد الأجنبي تمثل ضغطًا على قيمة الجنيه، في وقت تعكس فيه حركة التجارة استمرار ندرة الدولار، وإن كان بوتيرة أقل حدة من الأزمة السابقة، ورجح بعضهم أن يتراجع الجنيه أمام الدولار إلى مستوى 58-59 جنيهًا في عام 2026.