
يوميات صحفية برلمانية| الإيجار القديم.. أصوات الناس تواجه تعقيدات العدالة
في مشهد لم نعتده، قرر مجلس النواب الاستماع لصوت الناس خلال مناقشته مشروع تعديل قانون الإيجار القديم، وفتح المجال لأصحاب المصلحة من الملاك والمستأجرين للمشاركة في جلستي حوار مجتمعي، لم نصل بعدهما لنقطة اتفاق في هذا الملف المستعصي.
خلال يومي الأحد والاثنين، استضافت اللجنة البرلمانية المشتركة المشكلة لمناقشة مشروع القانون ستة من ممثلي الملاك، ومثلهم من ممثلي المستأجرين، لعرض أفكارهم ورؤاهم، ولكن في ختام الجلسة الثانية الخاصة بالمستأجرين دعا النائب أحمد السجيني، رئيس لجنة الإدارة المحلية، الطرفين لتقديم ما لديهم من مقترحات بصيغة مكتوبة يمكن للنواب مناقشتها.
جلسات الاستماع، لماذا؟
لا يمكن للبرلمان في مثل هذا الملف الشائك استبعاد أصحاب المصلحة من الطرفين خلال المناقشات، حتى وإن كان ما سيقولونه مجرد فضفضة يعبِّر فيها كل طرف عن موقفه من مشروع القانون الذي يرفضانه. فخلف جدران ثلاثة ملايين ونصف المليون وحدة مؤجرة بنظام الإيجار القديم حسب التعداد السكاني لعام 2017، تتراكم مظالم ورثة عبْر عقود، بينما تلوح في الأفق مخاوف حاضرة لا يخفيها الصمت، بل تؤججها حالة الترقب وانعدام الثقة بين الطرفين.
لا يمكن صياغة قانون يمس حياة ملايين من الملاك والمستأجرين دون الإنصات المباشر لمن سيتحمّلون تبعاته
رغم العبثية التي صبغت جلسات الاستماع، وحوَّلتها لمجرد فضفضة وضجيج بلا نتيجة، فقد كانت ضروريةً لإخراج الأصوات من خلف الأبواب المغلقة، ومن خلف شاشات الهواتف وثرثرة السوشيال ميديا إلى مواجهة حقيقية على طاولة النقاش في البرلمان.
لا يمكن صياغة القانون الذي يمس حياة ملايين من الملاك والمستأجرين دون الإنصات المباشر لمَن سيتحمَّلون تبعاته، فكانت الجلسات بمثابة كشف حساب اجتماعي، يُظهر عمق الفجوة بين الطرفين، ويضع النواب أمام مسؤوليتهم في البحث عن حلول عادلة، لا مُرضية فقط.
لكنَّ أي صيغة نهائية لن ترضي الملاك ولا المستأجرين، فمهما اجتهد البرلمان في تحقيق التوازن، ستظل مشاعر الظلم كامنة لدى أحد الطرفين، لأن العدالة بالنسبة للناس في هذا الملف ليست حسابًا دقيقًا بقدر ما هي شعور متجذر، يرى فيه كل طرف أنه يستحق الإنصاف.
انقسام الملاك
اتفق ممثلو الملاك خلال اجتماع مساء الأحد المخصص للاستماع لهم على الاعتراض على مشروع الحكومة ورفضه في صورته الحالية، وتوافقوا على تحرير العقد بعد ثلاث سنوات للوحدات المؤجرة لأغراض السكن، بدلًا من مقترح الحكومة الذي يمنح المستأجرين خمس سنوات قبل فسخ عقودهم.
غير أن الانقسام ظهر واضحًا في الرؤى الخاصة بزيادة القيمة الإيجارية، فاقترح رئيس ائتلاف ملاك الإيجارات القديمة، مصطفى عبد الرحمن عطية 2000 جنيه حدًا أدنى للأجرة في المناطق الشعبية، و4000 جنيه للمناطق المتوسطة، و8000 جنيه للمناطق الراقية.
من جهته، طالب مراد عابدين محمد حسان بتحديد زيادة القيمة الإيجارية بما يُمكِّن المالك من توفير مسكن مماثل في المنطقة نفسها الموجود بها العقار "مش عايزين تحرير علاقة الإيجار، ولكن عايز قيمة الإيجار تكون بنفس القيمة اللي هأجر بيها شقة لابني". بينما اقترح أحمد أبو المعاطي زيادة في الأجرة حسب تاريخ إنشاء المبنى، مع وضع حدين أدنى وأقصى للقيمة الإيجارية.
ممثلو الملاك تعرضوا لانتقادات شديدة على جروبات السوشيال ميديا الخاصة بهم
أما شروق الإسلام عبد الباسط التي جاءت لحضور الاجتماع من الإسكندرية، فلم تكتفِ برفض مشروع الحكومة بل طالبت بحظر النشر في ملف الإيجار القديم لحين إقرار القانون ونشره في الجريدة الرسمية، واعتبرت أن تكرار حالات انهيار العقارات في الإسكندرية سببه الإيجار القديم لعدم صيانة العقارات، فالمالك لا يدفع لأنه يتقاضى مبالغ زهيدة والمستأجر لا يتكفل بها لأنها ليست ملكه.
اللافت أن ممثلي الملاك تعرضوا لانتقادات شديدة على الجروبات الخاصة بهم على السوشيال ميديا، من مستخدمين رأى بعضهم أن مَن تحدثوا لم يعبِّروا عنهم بشكل مناسب.
وحدة المستأجرين
بخلاف الملاك، ظهر المستأجرون في مساء اجتماع مساء الأحد أكثر قدرة على صياغة أفكارهم، غالبيتهم محامون استطاعوا تقديم عروضٍ قانونية والحديث باستفاضة عن أحكام المحكمة الدستورية المتعددة، وخاض أحدهم نقاشًا متخصصًا مع المستشار محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والقانونية، بشأن طبيعة العقود.
لم يخل الاجتماع من بعض المناوشات بين النواب وممثلي المستأجرين
أجمع ممثلو المستأجرين على رفض تحرير العلاقة الإيجارية متمسكين بحكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 2002، الذي يكفل حق الجيل الأول من أبناء المستأجر الأصلي في امتداد العقد لهم، محذرين من تجاوز هذا الحكم بما يهدد السِلم الاجتماعي.
لكن لم يخلُ الاجتماع من بعض المناوشات بين النواب وممثلي المستأجرين، فخلال كلمته شبَّه المحامي جورج مكرم تحرير العلاقة الإيجارية بعد خمس سنوات بالإخلاء القسري، وهو ما تصدى له رئيس لجنة الإسكان النائب محمد الفيومي، الذي حذف الكلمة من المضبطة، مؤكدًا رفض هذه العبارات في مجلس النواب.
أما مؤسس اتحاد مستأجري مصر، شريف الجعار، فقاطعه النواب اعتراضًا على الآية القرآنية التي استهل بها كلمته "وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖمَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ".
ورغم أن الإسقاط لا يبدو موفقًا، فإنه قد يُغتفر في سياق أقل توترًا. لكن أجواء الشحن والانفعال المصاحبة للمشروع ضيَّقت صدور الجميع، وجعلتهم مستعدين للاشتباك أكثر من استعدادهم للفهم أو التهدئة.
ومع ذلك صمد الجعار أمام مقاطعات النواب واستكمل كلمته مدافعًا عن حقوق المستأجرين بموجب الأحكام الدستورية، وما دفعوه من "خلوات" كبيرة مقابل عقود الإيجار "المستأجر دفع دم قلبه في بداية حياته ما اجيش النهارده أعمله صندوق وأقوله هدعمك".
أما المحامي ميشيل حليم فركز على تأثير التعديلات على السِلْم الاجتماعي، ودعا لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان لإعداد دراسة عن "حالة الشارع الأمنية" في ظل هذه التعديلات.
الأماكن التجارية.. القضية المنسية
خلال الفترة الماضية، انصب كان التركيز الأكبر على الحق في السكن وقيمته، والخوف من تشريد ملايين المواطنين، على حساب بعد آخر في مشروع القانون، يتعلق بالأماكن المؤجرة للأغراض غير السكنية.
لكن وجود طارق مصلح ضمن ممثلي المستأجرين ألقى الضوء على جانب آخر يتعلق بالاقتصاد والاستثمار والبطالة، فالرجل الستيني الذي انضم لأصحاب المعاشات، استثمر أمواله في التجارة من خلال محلات استأجرها بنظام الإيجار القديم في وسط البلد "معايا عقود (..) ولم أستثمر في أي مكان غير المحلات اللي بشغَّل فيها ناس".
اختار مصلح التجارة "بدلًا من شراء فيلل في مارينا" كما يقول، مضيفًا "عندي 4 محلات وعندي موظفين وقاعد مكان أبويا (في محل) منذ 1964 ولو اتطردت أعمل إيه؟".
لم تفصح الحكومة عن خطتها حال تنفيذ رؤيتها، لم توضح ماذا ستفعل مع مصلح وغيره من أصحاب المحلات الذين بنوا استثماراتهم في منظومة قانونية تنطبق على غالبية المحال في وسط البلد وشبرا والمنيل والزمالك وغيرها من المناطق القديمة.
كشف مصلح أنه يلعب دورين في هذا الاجتماع، فهو ليس مجرد مستأجر "أنا مالك عمارة بناها والدي في المهندسين، أبويا اشترى أرض في المهندسين بـ7139 جنيه سنة 1971، بنينا عمارة، خدنا من الدولة حديد مدعم بـ90 جنيه، وأسمنت مدعم بـ17 جنيه، الحكومة قالت الشقة تتأجر بـ42 جنيه، والناس جت وسكنت"، يقر مصلح "خدتوا خلوات؟ آه خدنا خلوات 7500 جنيه".
من موقع المالك يتحدث مصلح عن مستأجري عمارته بتقدير "واحدة جوزها كان أستاذ في الجامعة وهي بنت ناس هانم وعاملة شقتها جميلة"، يستنكر "آجي أقولها تعالي أطردك؟"، طلب مصلح النظر للموقف بروح القانون "أقول الحقيقة بما يرضي الله ومش باقي كثير على العمر".
صفق المشاركون في الاجتماع لمخلص الذي كان أصدق الأصوات. لم يتحدث عن الأحكام الدستورية والمواد القانونية والثغرات التشريعية، لكنه فقط كان صوت الناس. ربما مصلح ليس الطرف الأضعف، لكنه كان صادقًا كاشفًا لمزيد من عقبات الملف المستعصي.
يستكمل مجلس النواب مساره في جلسات الحوار المجتمعي ويستمع في الاجتماعات اللاحقة لعدد من المحافظين، بعدما أتاح مساحة للمناقشة المفتوحة حول ملفات شائكة تؤثر على شريحة كبيرة من المجتمع المصري، بينما ينتظر طارق وغيره من المستأجرين قرارًا تشريعيًا ينحاز ولو مؤقتًا للطرف الأضعف.