
يوميات صحفية برلمانية| صرخات الغلاء في القاعة "المحسودة" تُربك الأغلبية وتُحرج الحكومة
في أزمنةٍ مضتْ، كانت جلسة البرلمان تبدأ بالبيانات العاجلة التي يتقدم بها النواب بشأن شكاوى المواطنين أو الدوائر الانتخابية أو القضايا العامة التي طرأت، لكن هذا ليس في عرف المجلس الحالي.
فبعد 48 ساعة على قرار الحكومة رفع سعر المحروقات، الجمعة الماضي، 11 أبريل/نيسان، استأنف مجلس النواب جلسته العامة التي بدأت الأحد وانتهت الثلاثاء، ووضع على جدول أعمالها مناقشة تعديلات قانون المحاكم، والحساب الختامي لموازنة العام الماضي 2024/2023.
بدأ البرلمان جلسته بمتابعة جدول أعماله متجاهلًا عشرات البيانات العاجلة التي تقدَّم بها النواب عقب رفع أسعار الوقود.
الأداة المعطلة
نقل نواب المعارضة في بياناتهم التي تقدموا بها قبل الجلسة أنين المصريين المكتوين بنار الغلاء، فيما عكست بيانات نواب مستقبل وطن محاولات خجولة لاحتواء بعضٍ من مظاهر الأزمة، مطالبين بالرقابة على الأسواق لضبط الأسعار وحماية المستهلكين من الجشع.
البيان العاجل إحدى أدوات الرقابة البرلمانية التي نظمتها المادة 215 من لائحة مجلس النواب، وتجيز للعضو أن يطلب من رئيس المجلس الموافقة على الإدلاء ببيان عاجل يوجه إلى رئيس مجلس الوزراء أو أحد أعضاء الحكومة، عن موضوع غير وارد فى جدول الأعمال، إذا كان من الأمور العامة العاجلة ذات الأهمية. ويقدم الطلب كتابةً متضمنًا بيان الأمور التي يطلب الكلام فيها، ومبرراته قبل بدء الجلسة.
لكن إلقاء البيان العاجل مرهونٌ بإذن رئيس المجلس الذي يدير الجلسة، ولا يجوز أن تجري مناقشة في موضوع البيان، إلا إذا قرر رئيس المجلس ذلك.
نائب الوفد يخرج عن النص
بلا بيانات عاجلة، دخلنا في جدول الأعمال الذي بدا مملًا لصحفية تبحث عن لقطة مختلفة أو زاوية تهم القطاع الأوسع من الجمهور، فالمطروح حينها كان تعديلًا في قانون المحاكم الابتدائية يتيح وجود محكمة ابتدائية في شمال أسيوط وأخرى في جنوب أسيوط وليس محكمة واحدة.
لكن الملل لم يدُم، كسرته كلمة النائب محمد مدينة عضو مجلس النواب عن حزب الوفد، الذي خرج عن مناقشة القانون المطروح وتطرق إلى أزمة الأسعار والوقود. انتهز مدينة فرصة حديثه وشَكر وزارة العدل على مشروع القانون الذي يسهل حق التقاضي على المواطنين، واستدعى أزمة الأسعار بشكل غير مباشر قائلًا "كويس إن فيه وزارة من الوزارات تطبطب على الناس".
انتزع النائب محمد مدينة حقه في الحديث عن زيادة الأسعار ورفض تجاهل الأزمة
ثم قال "الشعب تعب من المحروقات اللي عمالة تزيد كل يوم"، في هذه اللحظة توقعتُ أن يتدخل رئيس المجلس المستشار حنفي جبالي، لتوجيه مدينة ومطالبته الالتزام بموضوع المناقشة، لكنه لم يفعل، بل استكمل النائب "أشكر وزارة العدل التي تطبطب على المواطنين. لا أشكر غيرها اللي عمالة تضرب في الناس".
حديث مدينة الذي لا أتذكر له مواقف معارضة للحكومة أو تدخلات مؤثرة تحت القبة، لا ينفصل عمَّا هو خارج البرلمان، إذ صدر عدد جريدة الوفد المثير للجدل قبل يوم من انعقاد الجلسة، وكأن الزمن عاد سنوات للوراء. فبعكس مواقف الحزب وصحيفته المؤيدة للنظام في السنوات الأخيرة، خرجا هذه المرة معًا عن المألوف.
كسرت كلمات مدينة رتابة الساعة الأولى من الجلسة العامة، وسُجلتْ لتاريخه في المضبطة وفي الصحافة أنه النائب الوحيد الذي انتزع حقه في الحديث عن موضوع يبدو أنه كان يجب أن يبقى خارج دائرة الضوء.
كشف الحساب
البند الثاني في جدول الأعمال كان الحساب الختامي للموازنة العامة للعام المالي السابق، الذي يعكس نتاج سياسات الحكومة وأوجه الإنفاق والصرف ومعدلات العجز والديون. الحساب الختامي كشف حساب حقيقي للانحيازات السياسية والاقتصادية للحكومة، وأيضًا تعاملها مع مختلف مؤسسات الدولة، سواء البرلمان أو الجهاز المركزي للمحاسبات.
لمجلس النواب دورٌ في مراقبة الإنفاق الحكومي، يستعين في أداء عمله بالجهاز المركزي للمحاسبات الذي يراقب إنفاق مؤسسات الدولة ويعد تقاريره التي يقدمها للبرلمان، وكل منهما يقدم توصيات في نهاية كل حساب ختامي للحكومة، ليُعينها على ضبط الإنفاق وترشيده وتخطي المخالفات ومعالجة المشكلات التي تحدث في بعض الحالات نتيجة سوء الإدارة.
الحكومة لا تكفُّ عن الاقتراض وفي الوقت نفسه تعطل تنفيذ مشروعات فيدفع المواطن فاتورة تكاسلها
الطريف أن توصيات الجهاز المركزي والبرلمان تكاد تتكرر كل عام في الحساب الختامي، وفي كل مرة تكرر الحكومة تعهدها بتنفيذ التوصيات.
على سبيل المثال، يشتركُ تقرير لجنة الخطة والموازنة لكشف حساب العام المالي 2023/2024 مع العام السابق له في عدة ملاحظات، في مقدمتها عدم صرف القروض والمنح في المخصصات الموجهة لها، وتأخير تنفيذ بعض المشروعات ما أدى لدفع غرامات نتيجة لهذا التأخير.
أكاد لا أفهم أو لا أستطيع تفسير وشرح عدد من التوصيات، لكن هذه التوصية المتكررة تجلعني أستشيط غضبًا من هذه الحكومة التي لا تكف عن الاقتراض وفي الوقت نفسه تعطل تنفيذ مشروعات، فيدفع المواطن فاتورة تكاسلها.
صرخات الغلاء
ربما لم يجد النواب فرصةً للتعبير عن معاناة الناس من ارتفاع الأسعار من خلال إلقاء البيانات العاجلة في بداية الجلسة، لكن مناقشة الحساب الختامي وأداء الحكومة المالي أتاحت لهم فرصةً لتمرير رسائلهم النقدية تحت قبة البرلمان، والتعبير عن الغضب الشعبي من السياسات الاقتصادية التي تحمِّل المواطنين أعباءً متزايدةً.
60 في المائة من استخدامات الموازنة لسداد أعباء الديون
كانت البدايةُ برفض النائب المستقل ضياء الدين داود للحساب الختامي، قائلًا "لن أخالف ضميري. أرفض الحساب الختامي، وأضع شهادتي أمام الله". حاوَل داود خلال الـ120 ثانية المخصصة له توضيح خطورة الموافقة على الحساب الختامي "الدين العام الحكومي إجمالًا 11 ألفًا و457 مليارًا، مقابل 8609 مليارات في 30 يونيو/حزيران 2023 بزيادة 2848 مليار بزيادة 33.1%"، مؤكدًا أن هذه الأرقام ترتَّب عليها "إرهاق المصريين بما جعلهم يشعرون أن لا حماية لهم من أحد".
ولفت إلى أن "أعباء الدين 60.3% من إجمالي الاستخدامات"، وقال "البلد دي 60% من استخدامات موازنتها لسداد أعباء الدين".
لحِقَه في الرفض والحديث عن معاناة المواطنين، النائب عبد المنعم إمام، الذي طالب بتغيير الحكومة بدلًا من البحث عن مخارج للأزمات من جيوب المصريين، وقال "الحكومة ترى الشعب ATM كل ما تفشل يدفع".
امتد رفض الحساب الختامي إلى أميرة العادلي ومحمد عبد العزيز عضوي المجلس عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، وهو الأمر الذي تكرر خلال السنوات السابقة من قبل عضو التنسيقية، بينما وافق أعضاء آخرون من ضمنهم النائبة رشا كليب التي شكرت الحكومة على جهدها في الحد من آثار الأزمة الاقتصادية.
مخالفات دستورية
خلال المناقشات ظهرت بعض المخالفات الدستورية التي ارتكبتها الحكومة خلال العام المالي 2023/ 2024. النائب إيهاب منصور، رئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، كشف عن مخالفة الحكومة للمادة 35 من الدستور الخاصة بصرف تعويضات لأصحاب المباني التي تم نزع ملكيتها.
وقال منصور إن هذه المادة تنص على صرف التعويضات مقدمًا، مشيرًا إلى أن تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات أثبت مخالفة الحكومة للنص، وطالب بمحاسبتها.
كما أشار النائب محمد عطية الفيومي، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الحرية المصري، إلى مخالفة دستورية أخرى تتعلق بعدم الالتزام بالنسب الدستورية للإنفاق على التعليم والصحة.
الفيومي غير المحسوب على المعارضة سجَّل معارضته الأولى لسياسات الحكومة في الاقتراض، وهو يحذِّر من تراكم الديون، معتبرًا أن دور البرلمان حاليًا أن "يِقيد اللمبة الحمرا للحكومة"، مشيرًا إلى أن "الدين العام وصل أكثر من 11 ونص تريليون، بزيادة عن العام السابق 3 تريليون جنيه"، وقدم الفيومي حسبةً مرعبةً في كلمته "كل مواطن مصري مديون بـ105 آلاف جنيه، الطفل اللي هيتولد دلوقتي مديون بـ105 آلاف جنيه".
فوزي يلجأ للمضبطة
للمرة الأولى منذ توليه وزارة الشؤون النيابية والتواصل السياسي، يلجأ المستشار محمود فوزي إلى طلب الحذف من المضبطة. لم يمرر فوزي كلمة النائب الوفدي محمد عبد العليم داود الذي طالب بمحاسبة جنائية للحكومة بموجب الحساب الختامي، دون وقفة للدفاع عن أداء الحكومة وشكر الأغلبية وطلب حذف العبارة من المضبطة، ثم زاد عليها "باب النائب العام مفتوح".
النائب الذي لوَّح بالتقديم باستجواب للحكومة وسحب الثقة منها، انتفضت الأغلبية ضد كلمته ممثلة في عدد من النواب، منهم النائب عاطف ناصر والنائب إيهاب الطماوي، اللذان انفعلا وتحركا من مكانيهما وسط ترقب وصمت زعيم الأغلبية النائب عبد الهادي القصبي.
أما فوزي المعروف بدبلوماسيته الشديدة وعلاقاته الوطيدة بالجميع وتقدير نواب المعارضة له، فقرر الرد على داود وطلب حذف الكلمة من المضبطة، ووجه الشكر للأغلبية مرتين خلال الجلسة العامة، الاثنين، مشيدًا بالأداء الذي تخللته انتقادات موضوعية رغم تأييد الأغلبية لسياسات الحكومة.
بدت الأغلبية والموالاة مرتبكةً في مناقشات الحساب الختامي، تضطر للموافقة ومع ذلك لا يمكنها الصمت على ما وثقه تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات من مخالفات، في ظل حسابات الشارع المعقدة مع اقتراب الانتخابات وفاتورة الصمت التي سيدفعها نواب المقاعد الفردي من أصوات الناس.
هناك بعض الأصوات في صفوف الأغلبية والموالاة، ظهرت منفصلة عن الناس، ومتماهية مع الدولة تمامًا مثل النائب محمد الحسيني عضو المجلس عن حزب مستقبل وطن الذي جاء دوره في الحديث بعد رفض ضياء الدين داود، وأكد على دعم الدولة المصرية في مرحلة الخطر دون التطرق لأي سياسات أو مناقشة أرقام أو توصيات. بينما توقفت عدد من الأصوات الأخرى، مثل النائب أشرف حاتم رئيس لجنة الشؤون الصحية وعضو المجلس عن حزب مستقبل وطن أمام عدم تطبيق توصيات البرلمان والجهاز المركزي للمحاسبات عن الحسابات الختامية السابقة، وانتقدوا عدم الاستفادة من القروض والمنح على الوجه الأمثل، وعدم تنفيذ بعض المشروعات رغم توفير مخصصاتها.
كالمعتاد مرَّ الحساب الختامي السنوي مثل سابقيه، واعتبر جبالي في كلمته بنهاية جلسة الاثنين أن القاعة محسودة و"عين الحسد أصابت الجميع"، لكن ما لن يمر ولن يكون سهلًا التريليوينات الهائلة المتراكمة ديونًا يومًا بعد يوم، وموازنة جديدة يبشر بها وزير المالية، أحمد كجوك تحت شعار النمو والاستقرار بينما رئيس الوزراء بنفسه يصارحنا "ما حدش عارف بكره فيه إيه".