برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
مقر صندوق النقد الدولي، أرشيفية

إلى أين وصلت بنا روشتة صندوق النقد الدولي؟!

منشور الأحد 13 أبريل 2025

علاقة مصر بصندوق النقد الدولي إنْ بدأت بالانضمام لعضويته في الأربعينيات، فإن حقبة السبعينيات شهدت الانطلاقة الحقيقية لها، بالأخص بعد الانفتاح الاقتصادي، والشروع في تنفيذ برنامج الصندوق برفع الدعم الذي فجّر انتفاضة الخبز 1977.

من بعدها مرت العلاقة بمراحل مختلفة سواء قبل حرب الخليج أو ما تلاها، وخلال سيطرة وحكم لجنة سياسات الحزب الوطني ووزارتي أحمد نظيف، حتى المرحلة الأخيرة التي بدأت في 2016، ويمكننا فهم تصوراتها الأساسية من خطاب النوايا الذي قدمته مصر للصندوق الصادر بقرار رئيس الجمهورية رقم 108 لسنة 2017، والذي تضمن تعهداتها للنقد الدولي.

خلال كل تلك التجارب، رسمت ملامح أساسية حول تصورات صندوق النقد الدولي لما يسمه بالإصلاح الاقتصادي، وهي تصورات أضرت أكثر مما نفعت، أو هكذا تخبرنا تجربتنا الطويلة مع هذه المؤسسة الدولية.

روشتة واحدة لكل الدول

يضع الصندوق خطةً لدمج كل الدول التي تلجأ إليه طلبًا للاقتراض تحت نظام اقتصادي واحد، تكون بمثابة "روشتة العلاج" من وجهة نظره، يطلق عليها اسم برنامج الإصلاح الاقتصادي.

هذه الوصفة ثابتةً لكل الدول المدينة، من الأرجنتين إلى مصر وباكستان، ومن الأكوادور وكولومبيا إلى جنوب إفريقيا ونيجيريا، رغم اختلاف الأوضاع الاقتصادية ومستوى التطور الاقتصادي.

يرغب الصندوق في تهيئة أسواق الدول المستدينة  لاستقبال الفوائض المالية العالمية 

هناك شواهد تاريخية قوية على المشكلات التي تخلّفها هذه "الروشتة"، وربما تكون التجربة الماليزية الأبرز، فبعد الأزمة المالية الآسيوية في 1998 رفضت تنفيذ تعليمات الصندوق، فنجت ورفعت معدلات نموها، بينما سقطت باقي النمور الآسيوية في شبكة صيد الصندوق.

قد يسأل البعض ما الهدف من فرض "روشتة" الصندوق؟! الإجابة ببساطة أن الصندوق يرغب في تهيئة أسواق الدول المستدينة لاستقبال جانب من الفوائض المالية العالمية التي تبحث عن مساحات جديدة تستثمر فيها. هذا الانفتاح يؤدي للمزيد من الخضوع للرأسمالية العالمية، وإفقار السكان والحد من فرص الاكتفاء الذاتي واستنزاف الموارد الطبيعية والتفاوت الكبير في توزيع الثروة والدخل.

أثر الصندوق على مصر

بالنظر لتاريخ مصر مع الصندوق، يمكن إيجاز ما خَلَّفَه من آثار مدمرة على قطاعات من الاقتصاد في النقاط التالية:

1. تحرير الزراعة المصرية، بإلغاء الدورة الزراعية وعدم إلزام الفلاحين بزراعة محاصيل محددة، وتحرير العلاقة الإيجارية للأرض، وتحرير سوق الزراعة من بذور وتقاوٍ وأسمدة ومبيدات وإلغاء الإرشاد الزراعي، أدى ذلك للانتقاص من السيادة الغذائية والميل لزراعة حاصلات مثل الفراولة والكنتالوب مع استيراد احتياجاتنا من القمح والذرة.  2. تحرير الصناعة، بانسحاب الدولة وإطلاق يد القطاع الخاص. كان يفترض أن يؤدي ذلك لتعميق الصناعة لكن عمليًا لا تزال صناعاتنا تعتمد بشكل كبير على استيراد مكونات الإنتاج والمنتجات النهائية، مثلًا نستورد 90% من زيوت الطعام و85% من مكونات الأدوية.

3- خصخصة البنوك الوطنية، وتحفيز  القطاع المصرفي على الاستثمار في الدين العام بفائدة مرتفعة تكبد الموازنة تكلفة كبيرة، مع تحرير سعر الصرف. 4- توجيه الدولة لتحرير أسعار  الخدمات العامة مثل الكهرباء والوقود وتحويلها إلى سلع لا يحصل عليها إلا من يملك ثمنها، وضغط الإنفاق على الأجور وتقليص عدد موظفي الحكومة، وتقليص مخصصات الدعم وترك السلع الأساسية للأسواق الحرة. وقد رأينا كيف تطور هذا الفكر في وقتنا الراهن مع تحرير أسعار خدمات مثل الأحوال المدنية والمرور والشهر العقاري. 5- تم فتح الباب لتملك الأجانب للأراضي، وقانون الأراضي الصحراوية، وأصبحنا نعتمد على شركة إماراتية في توشكي لزراعة القمح و شركة أخرى إماراتية لزراعة سكر البنجر في ملوي بمحافظة المنيا.

الصندوق بعد 2016 

دفعت الموجة الثانية من اتفاقاتنا مع الصندوق، التي شملت قروضًا بنحو 27 مليار دولار * بين 2016 - 2025، نحو تطبيق حزمة من التشريعات كانت لها آثار اجتماعية واسعة، تشمل قانون القيمة المضافة، والخدمة المدنية، والتصرف في الأراضي المملوكة للدولة، وقانون إنشاء صندوق مصر السيادي.

ارتفعت الديون الخارجية من 55.7 مليار دولار إلى 155.2 مليار دولار

ادعى الصندوق أن سياساته ستؤدي لتخفيض عجز الموازنة والميزان التجاري، والحد من الديون، وتحسين أداء المالية، والوصول إلى سعر صرف حقيقي، وبالاعتماد على البيانات الحكومية التي تنشرها وزارة المالية، سواء تقارير الموازنة العامة للدولة أو التقارير الاقتصادية الشهرية، سنعرف إلى أين وصلت بنا روشتة صندوق النقد الدولي، وهل حققت ما وعدت به أم لا؟! نفذت مصر كل طلبات الصندوق وسارت على "الروشتة" من حيث خصخصة الشركات العامة وبيع الشركات الرابحة وإطلاق يد القطاع الخاص، وفتح الأبواب للبنوك الأجنبية وبيع بنوك الدولة، وكل ذلك تنفيذًا لما تعهدت به للصندوق في خطاب النوايا عام 2016، وإليكم نتيجة هذه السياسات:

أولًا: الديون

في بداية برنامج الصندوق كانت الديون المحلية لا تتجاوز 2.4 تريليون جنيه وصلت إلى 12.5 تريليون جنيه، أما الديون الخارجية فارتفعت من 55.7 مليار دولار إلى 155.2 مليار دولار. هل يمكن اعتبار ذلك نجاحًا للبرنامج؟

كانت مصر تسدد أقساط وفوائد ديون قيمتها 502 مليار جنيه في 2016، وهي تمثل 43.7% من استخدامات الموازنة، لكنها ارتفعت بل قفزت إلى 3440.6 مليار جنيه في موازنة 2024/2025 لتمثل 62.1% من استخدامات الموازنة.

ثانيًا: عجز حساب المعاملات الجارية**

خفض العجز في ميزان المدفوعات كان أحد أهداف روشتة الصندوق، لكن الحقيقة أن العجز يزداد، وارتفع عجز ميزان العمليات الجارية من 15.6 مليار دولار في عام 2016/2017 إلى 20.8 مليار دولار عام 2023/2024 من واقع تقارير البنك المركزي المصري عن حالة ميزان المدفوعات. وخلال آخر سنتين ارتفع عجز الميزان التجاري من 31.2 مليار دولار إلى 39.6 مليار دولار في 2023/2024.

ظلت مصر تسدد ديون وفوائد الخديو إسماعيل لأكثر من سبعين عامًا والآن التاريخ يعيد نفسه 

 

أما بخصوص سعر صرف الجنيه مقابل الدولار فقد كان بنحو تسعة جنيهات/دولار في عام 2016 ووصلنا في 2024 إلى سعر يتجاوز 51 جنيهًا/ للدولار، أي انخفاض خمسة أضعاف السعر في بداية البرنامج، وهو ما يشكل عبئًا كبيرًا على الاقتصاد المصري لتوفير الدولارات اللازمة لسداد الأقساط وفوائد الديون من ناحية، والاستيراد في ظل تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي وتناقص قيمة الصادرات من ناحية أخرى. من العرض السابق يتضح لنا أن وصفة صندوق النقد الدولي قادت مصر للمزيد من الديون والتبعية وارتفاع معدلات الفقر وزيادة الفجوة بين المليارديرات والمليونيرات، والفقراء فقرًا مدقعًا.

ولا يزال اللجوء لقروض جديدة لسداد أقساط وفوائد الديون القديمة، عرضًا مستمرًا، وهو ما حدث مع كل الدول التي نفذت توصيات الصندوق من الأرجنتين إلى باكستان وجنوب إفريقيا.

سددت مصر آخر أقساط ديون وفوائد الخديو إسماعيل في عام 1943 في عهد الحكومة الوفدية آنذاك، أي أن البلاد ظلت تسدد الديون التي بلغت 91 مليون جنيه إسترليني عند إعفاء إسماعيل من الحكم لأكثر من سبعين عامًا! وها هو التاريخ يعيد نفسه، لكن المرة الأولى كانت مأساة والثانية مسخرة.


*خلال الفترة من 2016-2022 أبرمت مصر اتفاقات قروض مع صندوق النقد الدولي بقيمة 20 مليار دولار، ثم تمت زيادة قيمة القرض الأخير بخمسة مليارات دولار في 2024 ثم تم الاتفاق على قرض جديد في 2025 بقيمة 1.3 مليار دولار.

** عجز حساب المعاملات الجارية هو جزء من ميزان المدفوعات يعكس علاقة الاقتصاد المصري بالعالم الخارجي، مثل حصيلة الصادرات والواردات المصرية أو الخدمات المصدرة والمستوردة من الخارج.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.