صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي بواسطة chatgpt
نظم المعلومات الجغرافية توثق جرائم الاحتلال الإسرائيلي

ذاكرة زمنية جغرافية تتحدى النسيان.. GIS يوثِّق الإبادة في غزة

منشور الأحد 13 أبريل 2025

منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم، وصل عدد الضحايا في غزة إلى 50,144 قتيلًا. واقعيًا، من الصعب الوقوف عند عدد نهائي للقتلى في أحداث نعايشها لحظيًا، فقد يرتفع العدد بين كتابة هذه السطور ونشرها. المشهد في غزة أكبر من أن تحصره الأرقام، والمأساة تتجاوز حدود الزمن والمكان.

أنتمي إلى جيل تربى على أن فلسطين ليست مجرد قضية سياسية، بل معركة وجود ومصير. جيل وعى منذ بداياته أن العدوان على فلسطين هو عدوان على كل فرد منّا. كُتبت آلاف المقالات عن خذلان الأنظمة العربية، وعن آلة الاحتلال العسكرية الوحشية، لكن قلّما وجدنا من يسأل: ماذا عن بعد الحرب؟ الحرب ستنتهي يومًا ما، فهل سننسى ما جرى؟ هل ستمضي الجرائم بلا حساب كما في المرات السابقة؟

من خبرتي العملية في نظم المعلومات الجغرافية/GIS، هذا المجال قادرٌ على لعب دور مهم في إدانة الاحتلال بعد انتهاء الحرب، فهو شاهد على ما حدث وما زال يحدث في غزة. يمكننا توظيف أدوات نظم المعلومات والذكاء الاصطناعي لتصبح ذاكرةً توثق هذه الأحداث المأساوية بدقةٍ، وتحفظها من النسيان.

ما هي نظم المعلومات الجغرافية؟

GIS اختصارٌ لـGeographic Information System الذي تُعرّفه شركة ESRI، وهي من أبرز الشركات في هذا المجال، بأنه "نظام مُصمم لجمع وتخزين وتحليل وإدارة وعرض البيانات الجغرافية".

وحسب مؤسسة Forensic Architecture، التي تتخذ من لندن مقرًا لها وتُعنى بقضايا حقوق الإنسان واستخدام التقنيات الحديثة أداةً لإدانة الاعتداءات الصهيونية، فنظم المعلومات الجغرافية تُستخدم "لتتبع الأنماط الزمنية والمكانية لأحداث العنف والدمار، حيث تُدمج الصور الفضائية مع البيانات الميدانية لتكوين تقارير دقيقة عن هذه الأحداث".

ببساطة، يُمكن تعريف نظم المعلومات الجغرافية بأنها تقنية تدمج الخرائط والمعلومات الميدانية، مما يسمح بإدارتها وتحليلها بشكل فعال. وتستخدم في ذلك العديد من البرامج والتقنيات، مثل الصور الفضائية التي تلتقط عبر الأقمار الاصطناعية.

نظم المعلومات الجغرافية أداة دعم إنساني

تُستخدم نظم المعلومات الجغرافية على نطاق واسع في المجال الإنساني، خصوصًا في دعم المتضررين من النزاعات والكوارث. على سبيل المثال، تلجأ وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لهذه التقنية في قطاع غزة لتوفير الخدمات التعليمية لأكثر من 280 ألف طالب وطالبة في نحو 270 مدرسة، إضافة إلى إنشاء أكثر من 22 مركزًا صحيًا منذ تأسيسها عام 1950.

بواسطة تقنية نظم المعلومات الجغرافية، تحدد الأونروا المناطق التي تعرضت لهجمات الاحتلال الإسرائيلي، ما يسهل توجيه المساعدات للمناطق الأكثر احتياجًا. كما تُستخدم الخرائط والمنصات القائمة على هذه التقنية لتحديد المناطق الأكثر تعرضًا للمخاطر، والمواقع الأكثر أمانًا لإقامة المخيمات للنازحين.

الخرائط التفاعلية الخاصة بالأونروا توضح الخدمات المُقدمة داخل قطاع غزة

كما هو موضح في الصورة، تتخذ نظمُ المعلومات الجغرافية أداةً من قِبل الأونروا، وذلك من خلال تمثيل البيانات على الخريطة. ستجد عددًا من المُخيمات التي ساهمت الأونروا في تجهيزها وتطويرها لاستقبال اللاجئين، وتحديد ما ينقص تلك المُخيمات من الرعاية الصحية والتعليم والغذاء. وكل ذلك من خلال أدوات تجمع المعلومات وتعرضها وتحللها على تلك الخرائط.

كذلك، تستخدم منظمة هيومن رايتس ووتش/Human Rights Watch هذه التقنية لتوعية الجمهور بحقيقة نظام الفصل العنصري/الأبارتهايد الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية. واستطاعت المنظمة من خلال نظم المعلومات الجغرافية، ليس فقط عرض البيانات والمعلومات، بل سرد قصص السكان وإيصال صورة واضحة عن حجم المعاناة والقهر الذي يعيشه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.

الصورة توضح كيف يتم دمج فصل الفلسطينيين عبر سياسات ممنهجة تقيّد حقوقهم في الأرض والتنقل.

يُظهر تقرير بعنوان تجاوزوا الحد/A Threshold Crossed بوضوحٍ كيف أن Human Rights Watch استخدمت نظم المعلومات الجغرافية بطريقةٍ تتجاوز جمع البيانات وعرضها، لتحولها إلى وسيلة لسرد قصة الاحتلال ونقل الصورة الكاملة لحجم الظلم والمعاناة التي يكابدها الشعب الفلسطيني منذ نشأة ذلك الكيان.

مرئية فضائية لمستوطنة أريئيل الإسرائيلية الواقعة بين قرية مردة الفلسطينية (في الأسفل) وسلفيت (في الأعلى) في الضفة الغربية المحتلة

المعلومات الجغرافية ذاكرةً للحرب وأداةً للمُساءلة

 يظل هناك سؤال جوهري؛ كيف يمكن أن تكون هذه التقنية ذاكرةً حيةً للحرب، تحمل في طياتها إدانةً مستمرةً للاحتلال الإسرائيلي بعد انتهاء العدوان؟

العديد من المؤسسات تعمل بالفعل في هذا الاتجاه، من بينها مؤسسة Forensic Architecture ومؤسسة الجزيرة للإعلام والمركز الإسرائيلي للمعلومات عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، وبِتْسِيلِم/B’Tselem، وهي منظمة يسارية إسرائيلية تضم عددًا من الحقوقيين والصحفيين الفلسطينيين الذين يسجلون جرائم الاحتلال بالصوت والصورة والخرائط.

مثلًا، أطلقت مؤسسة Forensic Architecture قاعدة بيانات على شكل منصة تفاعلية تعرض خريطة لقطاع غزة وسجلًا زمنيًا للأحداث الممتدة من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى 19 يناير/كانون الثاني 2025. تشكل هذه المنصة سجلًا حيًا لجرائم الاحتلال، يتجاوز قدرة أي قاعدة بيانات تقليدية أو ذاكرة الإنسان.

قاعدة البيانات الخاصة بالحالات والمُنشآت التي تعرضت لاستهداف طيران جيش الاحتلال منذ بداية الحرب إلى 2025

عند استعراض قاعدة البيانات، تظهر على يسار الخريطة طبقات/Layers تعرض المواقع المستهدفة من مبانٍ وطرقٍ ومخيمات، بينما تتضمن الجهة اليمنى قاعدة بيانات تفصيلية عن الحالات والعائلات والمباني والطرق التي تعرضت للهجمات الإسرائيلية.

في أسفل الشاشة، هناك شريط زمني لتسلسل الأحداث من 2023 حتى 2025، وتحتوي كل حالة على مصدرها، سواء من السوشيال ميديا أو التقارير الميدانية، بالإضافة إلى وصف سبب الدمار وإحداثيات الموقع الجغرافي/coordinate system.

صورة توضح المصدر الخاص بكل حالة على يمين الخريطة وبالأسفل الشريط الزمني لرصد الحالات منذ أكتوبر 2023م إلى يناير 2025

فريق Al Jazeera Labs، مؤسسة الجزيرة للإعلام، هو الآخر تعاون في عام 2009 مع مطوري برمجية أوشاهيدي/Ushahidi، وهي منصة مفتوحة المصدر صُممت لجمع المعلومات من الجمهور وعرضها على خرائط تفاعلية، لاستخدام منصتها في توثيق الأحداث في غزة.

خريطة قطاع غزة التي أنشأتها شبكة الجزيرة للإعلام مُعتمدة على منصة Ushahidi للتفاعل بشكل مُباشر ولحظي مع ما كان يحدث الحرب على غزة عام 2009

كانت هذه أول مرة تُستخدم فيها Ushahidi باللغة العربية، حيث اعتمدت على نظام تحديد المواقع لعرض التقارير الميدانية على خريطة تفاعلية. وتم استقبال البيانات عبر الرسائل النصية ووسائل التواصل الاجتماعي، ما سمح للجمهور بالإبلاغ عن الأحداث لحظة بلحظة، دون الحاجة إلى وسطاء إعلاميين تقليديين.

أما مؤسسة بِتْسِيلِم، فتُعد واحدةً من أكثر المنظمات تأثيرًا وتفاعلًا في هذا المجال، إذ تعتمد في عملها على ربط تقنيات نظم المعلومات الجغرافية بتقنيات أخرى لإعداد البيانات وتمثيلها على الخرائط بطريقة تفصيلية، إلى جانب إعداد تقارير صحفية آنية تكشف وحشية الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك فظاعة أوضاع السجون التي تحتجز آلاف الفلسطينيين.

أصدرت المؤسسة تقريرًا بعنوان أهلًا بكم في جهنم/Welcome to Hell، تناول الظروف القاسية واللاإنسانية في معتقل سديه تيمان/Sde Teman الإسرائيلي، الذي يُستخدم مركز احتجاز مؤقت لأهالي غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.

يوثق هذا التقرير شهادات حية عن التعذيب الجسدي والنفسي والتجويع والإذلال وانعدام الرعاية الطبية، ويكشف كيف أن هذا السجن ليس سوى جزء من منظومة أوسع من العنف المنهجي الممارس ضد الفلسطينيين.

وفي مشروعها سُد وفرّق/Conquer and Divide، أنشأت المنظمة اليسارية الإسرائيلية بِتْسِيلِم خريطة تفاعلية لفلسطين التاريخية، تهدف من خلالها إلى فضح سياسات الاحتلال في تقسيم وتفتيت الشعب الفلسطيني الذي يزيد تعداده عن سبعة ملايين نسمة.

تُظهر الخريطة كيف أقام الاحتلال جدران الفصل والحواجز بين المدن الفلسطينية، وشيّد المستوطنات غير القانونية على أراضي الفلسطينيين، وزرع الحواجز الأمنية في الضفة الغربية وعلى حدود غزة في محاولة لإحكام السيطرة على تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، وكأنهم يعيشون في سجن مفتوح.

صورة للخريطة التفاعلية على منصة B’Tselem والتي تبدأ بسرد القصة منذ عام 1967

تسعى بِتْسِيلِم من خلال هذا المشروع إلى توثيق كافة جرائم الاحتلال منذ نكسة 1967 حتى اليوم، عبر رواية توعوية مدعومة بالخرائط التي تُظهر تسلسل الأحداث والتطورات. يمكن للمستخدم عبر هذه الخريطة أن يكون في قلب المشهد، متابعًا كيف يواصل الاحتلال تنفيذ مخططاته لتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية.

خريطة توضح مجهودات الاحتلال البائسة منذ حرب 2009 حتى عام 2014 لبناء المستوطنات على أطراف قطاع غزة وحصاره

كما تحوي الخريطة مواقع جميع نقاط التفتيش والحواجز التي أقامها الاحتلال، إلى جانب المستوطنات المبنية على أراضي الفلسطينيين، والمناطق التي تسعى إسرائيل للسيطرة عليها في غزة ومحيطها بعد انتهاء الحرب. كما يمكن للمستخدم استعراض سجل مرئي موثّق لانتهاكات الاحتلال وسرقة الأراضي الفلسطينية.

يمكن بالضغط على Explore map استكشاف الخريطة التفصيلية المُضاف إليها مرئية فضائية أقرب إلى الواقع

ذاكرة لا تموت

إذا كانت كثير من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بمذابحه وحروبه سقطتْ من الذاكرة العريية وافتقدت التوثيق والحفظ لمجرد اعتمادها على الذاكرة البشرية، فالحاجة اليوم ضروريةٌ لتسجيل كل شيء بأدوات تكنولوجية حديثة تحفظ الذاكرة الجمعية، فلا تصبح عرضةً للنسيان أو التحريف.

وعلى الرغم من أن معظم الأدوات المستخدمة في نظم المعلومات الجغرافية وتقنيات الذكاء الاصطناعي مملوكة لشركات تدعم الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن هناك مؤسسات تعمل بجدية للحفاظ على الحقيقة، بعيدًا عن المصالح السياسية والاقتصادية فلا يُطوى سجل المعاناة الفلسطينية في طيّات النسيان.