في برنامج تليفزيوني يعود تاريخ عرضه لنهاية الستينات، وعلى دكة واطئة، جلس طفل ضئيل الجسد ذو ملامح لطيفة بصحبة رجل يقاربه في الشبه ناظرًا لكبار النجوم حوله منتظرًا لحظة سيطرته على هذه الآذان التي تحيط به.
عند إعادة عرضها منذ أسابيع على إحدى الفضائيات المتخصصة في عرض البرامج القديمة، بدت الحلقة كحلم سريالي، يدور فيه الكوميديانان الشابان –وقتها- سمير غانم وجورج سيدهم على ضيوفهما في الاستوديو لتقديم الأطعمة والمشروبات. كان الضيوف يومها هم الممثل والمنتج فريد شوقي والمعلق الرياضي محمد لطيف "كابتن لطيف"، والناقد الرياضي نجيب المستكاوي.
تبادل الضيوف ومضيفيهم الحديث عن السينما والكرة، حتى دخل ذلك الطفل الصغير ابن السابعة بصحبة خاله الملحن وعازف العود صلاح الهمشري. جلس الطفل رياض، وما إن بدأ في الغناء حتى تعالت صيحات الاستحسان من أصحاب الشهرة والأسماء الثقيلة الحاضرين في الاستوديو. بعدها سيظل هذا الطفل حديث الصحف والمجلات الفنية باعتباره "الطفل المعجزة رياض الهمشري الذي يحفظ معظم أدوار الشيخ زكريا أحمد".
ظل الملحن الراحل رياض الهمشري "طفلاً معجزة"، بعدما عُرِف بقدرته على غناء ألحان قديمة صعبة حتى على بعض كبار المطربين، واستمرت شهرته كمطرب استثنائي صغير السن حتى اضطر للابتعاد عن الأضواء رغمًا عنه خلال مرحلة المراهقة، حفاظًا على صوته من الأضرار التي قد تلحق به إذا استمر في الغناء في تلك الفترة. ثم التحق بمعهد الموسيقى العربية وتخرج فيه في منتصف الثمانينات ليبدأ مرحلة جديدة سعى فيها لاستعادة شهرته القديمة كمطرب متميز، وقد أضيفت لمواهبه قدرته على التلحين، وبراعته في عزف العود.
بين أهل الطرب
كان رياض الهمشري معتمدًا كمطرب في الإذاعة بالفعل منذ طفولته، التي ظهر خلالها في العديد من الحفلات التي كان ينظمها اتحاد الإذاعة والتلفزيون باسم "أضواء المدينة". وبعد تخرجه عاد رياض لوسط مختلف، عشرات المطربين القريبين منه في العمر كانوا قد بدأوا في الظهور فعلا، بعضهم تكونت لهم قواعد جماهيرية بدأت تترسخ منذ إصداهم لألبوماتهم الأولى في نهاية السبعينات، كعلي الحجار ومحمد منير (والأخير كان له خط موسيقي وغنائي مختلف). وبدا رياض بينهم -على ماله من تاريخ – وافدًا جديدًا يحاول صنع نجوميته من الصفر. لكن طزاجة ألحانه وقدرته على التجديد خلقت له بينهم مكانًا مميزًا، وصار الوافد الجديد من أهل دائرة الشهرة والنجومية، ومساهمًا في صنعها بألحانه التي مثلت لمجايليه بعضًا من أشهر وأنجح أغانيهم. كألحانه لعلي الحجار وأشهرها "انكسر جوانا شيء".
كانت أغنية "انكسر جوانا شيء" لعلي الحجار بمثابة إعلان عن المواهب الفنية المتنوعة لدى رياض. فكان لحنه ملفتًا بتمكنه من التعبير عن معاني الكلمات، وظهرت موهبته في التنقل بين المقامات الموسيقية، وفهمه وإدراكه للإمكانات الصوتية للمطربين الذين يلحن لهم، والذي ظهر في استغلاله لقوة ومساحة صوت علي الحجار ببراعة جعلت الأغنية من كلاسيكيات علي الحجار حتي الآن. كما كانت الأغنية بداية لانطلاق شاعر مختلف هو "بهاء الدين محمد "، وموزع موسيقي يبدأ مشواره في التلحين والتوزيع والموسيقى التصويرية هو "ياسر عبد الرحمن".
صدرت الأغنية في ألبوم "أنا كنت عيدك" الذي يعود تاريخه للفترة بين 1989 و1991. ورغم أن تاريخ الأغنية متأخر قليلاً على تاريخ عودة رياض الهمشري للساحة؛ إلا أنها شكلت في وقتها انطلاقة جديدة له، بعد ألبومين وعدة ألحان قدمها لعدد من مطربي جيله.
أصدر الهمشري ثلاثة ألبومات غنائية أولها "هاتي" عام 1988، و"حبيبتي" في أوائل التسعينات وكانا من تلحينه بالكامل. ثم جاءت تجربته الثالثة "قربيني" الأكثر تنوعًا في عام 1992.
كان الألبوم من انتاج الشركة الشهيرة جدًا وقتها: "عالم الفن"، واستعان فيه بملحنين آخرين متميزين مثل خليل مصطفي وياسر عبد الرحمن، وموزعين ناجحين في ذلك الوقت منهم حميد الشاعري وطارق مدكور، وآخرين أصحاب رؤية مختلفة مثل عماد الشاروني ويحيي غنام. وعلي الرغم من تنوع الألبوم و نجاحه النسبي مقارنة بألبوميه السابقين؛ إلا أن يبدو أن نجاحه لم يكن مرضيًا مقارنة بنجاح ألحان الهمشري لزملائه من نجوم هذه الفترة، وظلت أنجح أغنياته كمطرب، هي الأغنية التي قدمها للبرنامج الشهير "كلام من دهب" والتي أغراه نجاحها باستكمالها وتقديمها كأغنية مستقلة استنادًا لانتشارها خلال البرنامج.
وتكررت تجربة أغاني البرامج الناجحة مع نفس المخرج التليفزيوني "نبيل عبد النعيم"، بعدما لحَّن الهمشري تتر برنامج "الست دي أمي" التي غناها خالد عجاج، واستكملها رياض وعجاج لاحقًا لتصير واحدة من كلاسيكيات الاحتفال بعيد الأم المصري.
عمرو وفؤاد معا
لم تقف ألحان رياض عند الأغنيات الطربية ذات الكلمات والألحان "الثقيلة" مثل "انكسر جوانا شيء"، و"بافرد ضلوعي" لمدحت صالح، و"روحي وحبيبتي" لإيمان البحر درويش، وغيرها من الألحان التي كادت أن تحوله لملحن كلاسيكي يقدم "أغاني النخبة". فإلى جانب تمكنه ونجاحه في تقديم تلك الأغنيات، قدم الهمشري كذلك طائفة من الأغاني الجماهيرية مع اثنين من كبار مطربي التسعينات هما عمرو دياب ومحمد فؤاد. واستطاع أن يستمر في نجاحه معهما في نفس الوقت، رغم اشتداد المنافسة بينهما. حيث قدم لمحمد فؤاد أغنيات ناجحة مثل "قرب تعالي" و "يا عيني علينا " و "منه يا ليالي". في الوقت الذي لحن فيه لعمرو دياب: "كنا حبايب"و"نفس المكان" و"كان عندك حق" و"هانساك أنا " و"راجعين".
وفي كل تلك الألحان استطاع رياض أن يجمع بين النجاح التجاري وجمال الجملة اللحنية وبعض اللمسات التطريبية التي تناسب المغنيين، ليحقق معادلة نجاح جعلته من أكثر الملحنين طلبًا في التسعينات.
كاماننا
خلال التسعينات كذلك؛ استمر نجاح رياض الهمشري، وتعددت معه أصوات المطربين الذين قدم لهم ألحانه مثل أنغام وعلاء عبد الخالق وإيهاب توفيق. لكنه كان علي موعد مع مرحلة جديدة من النجاح، عندما قدم لحنًا تسبب في نجاح الفيلم الذي قلب موازين السينما المصرية: "اسماعيلية رايح جاي". فقد كان رياض الهمشري هو ملحِّن أغنية "كامننا" لمحمد فؤاد ومحمد هنيدي، والتي تميزت بلحن رشيق مناسب لصوت محمد فؤاد مع الاستفادة من صوت هنيدي المميز في إلقاء الكلمات بطريقة منغمة بمصاحبة الموسيقى.
أصبح رياض بعدها قاسمًا مشتركًا في تقديم أغنيات الأفلام التي تلت نجاح هذا الفيلم، وسلمت السينما المصرية ليد جيل جديد من الكوميديانات، ظللوا مسيطرين عليها لبضع سنوات تلت. فلحَّن الهمشري أغنيات أفلام مثل "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، و"همام في أمستردام".
لم ينطفئ إبداع الهمشري مع قدوم الألفية الجديدة، علي الرغم من ظهور جيل جديد من الملحنين اعتمد علي استخدام الجيتار في التلحين مثل عمرو مصطفي ومحمد رحيم، إلا أن الهمشري ظل محتفظا بنجاحه، فساهم بلحن في ألبوم "تامر وشيرين " وأغنية "بعتلي نظرة" لأنغام عام 1999، و"ياهوو" لحكيم 2000.
و يمكننا أن نلاحظ موهبة رياض الهمشري وقدرته على التجديد باستعراض أغنيتين من أنجح أغانيه في عامي 2000 و2003، وهما مختلفتان بشكل يصعب معه أن نصدق أنهما لنفس الملحن.
في لحن بسيط من مقام الكرد، لحن الهمشري أغنية "ناري نارين" عام 2000. ومقام الكرد هو مقام مشترك بين الموسيقى العربية والهندية، مما شجع هشام عباس والموزع طارق مدكور علي توزيع الأغنية بايقاعات هندية. ثم جاءت فكرة تحويل الأغنية لدويتو مع مغنية هندية وإخراجها في الهند، لتصبح واحدة من أنجح الأغاني وأكثرها اختلافًا في الصورة والموسيقى، مع وجود جملة موسيقية سهلة تصلح لتطويرها والاستمتاع بها، بغض النظر عن جنسية المستمع.
بعدها بثلاث سنوات؛ وفي استغلال ناجح لقدرات شيرين الطربية والصوتية؛ قدَّم رياض الهمشري لها لحنًا من مقام الهزام، وهو مقام تم نسيانه مع مرور الزمن ربما لصعوبته وعدم تمكن العديد من الأصوات من أدائه. من أشهر أغاني هذا المقام "فات الميعاد" و"الورد جميل".
في أغنية "جرح تاني" التي أعادت تقديم شيرين بعد ألبومها الناجح مع تامر حسني؛ يتنقل رياض الهمشري بين مقامي الهزام والبياتي في سلاسة، مستغلاً صوتًا متمكنًا مثل شيرين، ليقدم أغنية ساهمت في تأكيد نجاحها وقدراتها التطريبية.
استمر رياض الهمشري في الإبداع علي الرغم من خروجه من القاهرة واستقراره في بيروت عام 2002، بعد صدور حكم قضائي بحبسه في قضيتي تزوير وإثبات نسب. وتوفي بأزمة قلبية مفاجئة عام 2007 في بيروت، عن 48 عامًا. ليخسر الفن ملحنًا ومغنيًا وعازفا للعود من طراز خاص.
لم يمنح "السوق الفني" لرياض الهمشري نجومية الغناء، علي الرغم من تمتعه بموهبة الصوت والحضور. لكنه منحه نجومية الملحن لمدة 20 عامًا، استطاع خلالها ورغم عمره القصير أن يصنع بصمة موسيقية لا تنسى.