ملامحها وهيئتها تنبئ للوهلة الأولى عن كونها "ست بيت" بلا مشاغل، تنحسر تفاصيل حياتها داخل جدران أربعة. لكن إذا تابعت خطواتها بين بيتها الكائن بحارة صغيرة متفرعة من شارع التُرَب (المقابر) بالوايلي، حتى دكانها الصغير الكائن بنفس الشارع، ورأيتها تجلس إلى أدواتها وأوراقها الملونة، ستشهد تراجع تلك الملامح الوادعة تحت غلاف من التركيز الشديد، بينما تلف أصابعها أوراق الزينة، وتربطها بسرعة ومهارة، قبل أن تعود البسمة لملامحها وهي تناول تلك الأوراق الملونة، أو واحدة من طائراتها الورقية إلى طفل جاءها ساعيًا ليشتري زينة رمضان، أو طائرة ورقية من "أم أمير"، التي صارت لسبب لا تعرفه: "أم بطة".
في جلوسها بين أكياس البلاستيك الملونة التي ستتحول بفضل يديها الخبيرتين إلى أحبال من الزينة البراقة، تمتد في الشوارع والحارات بين الشرفات ابتهاجًا بمقدم رمضان؛ تتبادل السيدة التي تخطو بتمهل إلى عامها الستين، أحاديثًا مشاكسة مع زبائنها الصغار من محبي طائراتها الورقية، الذين جعلوا شهرتها تتخطى شارع سيد الحلو الشهير بشارع التُرَب، إلى مناطق بعيدة تصل حتى منطقة باب البحر في رمسيس، على مشارف وسط القاهرة.
هيئتها الوادعة ليست خادعة على الإطلاق، فـ"بطة شحاته بشاي"- التي غير الأطفال اسم شهرتها من أم أمير إلى "أم بطة بتاعة الطيارات"، كانت حتى أعوام قليلة مضت ربة منزل، لكن وفاة زوجها الذي كان يعمل بإحدى المطابع القريبة، وابتعاد أبنائها الثلاثة عن البيت للزواج أو الهجرة، دفعاها إلى التفكير في إدارة دُكَّان صغير ورثته عن أبيها: "بابا كان كاتبلي دُكان يراضيني بيه زي اخواتي الصبيان، وجبت مكنة أوفر وعراوي، لكن قعدت سنة من غير مكسب فبعتهم برخص التراب".
بعد تخليها عن الحياكة يأسًا؛ فتحت الصدفة له بابًا جديدًا للرزق: "لقيت حتة زينة مرمية في الشارع ومعقودة بخيط، فقلت اسأل بتيجي منين، وعرفت إنها من باب البحر، وسألت على المكان لحد ما وصلت، وبقيت دلوقتي مشهورة وسط البياعين هناك، كلهم عارفين أم أمير".
تحب أم بطة عمل زينة رمضان: "طول السنة بشتغل علشان الشهر ده. بيخلص شهر رمضان، اشتري أتواب من تاني، واقصقص الزينة وأنا ورزقي ومقدرتي. وبشيلها في شيكارة لحد السنة الجاية". "رمضان وشعبان عندي أحلى شهرين أنا باحب شهر رمضان". ورغم ذلك لا تخلو المنافسة بينها وبين جيرانها العاملين في صناعة الزينة الرمضانية من مضايقات طائفية بسبب كونها مسيحية الديانة: "فيه بياعين بيقولوا على الزينة: هي كانت حاجتها علشان تبيعها؟ لكن الناس بتسيبهم وتجيلي، ومابيفرقش معاهم الكلام ده".
قبل الزينات الرمضانية، كان لأم بطة حكاية مع الطائرات الورقية التي ذاع صيتها بسبب صناعتها: "في يوم شوفت ولد بيعمل ديل طيارة بطريقة غلط، فلقتني باعلمه يعملها صح، وكمان عملت له جناحاتها. قلت أجرّب والفكرة جاتلي من عند ربنا، واتعلمت من نفسي أعمل كل حاجات الطيارة (السبعاوية والجناح والديل)، واللي يخسر يخسر مش مشكلة، ما كل شغلانة فيها كده".
في شقة بسيطة بحارة متفرعة من شارع الترب ومجاورة للمحل؛ تنفرد أم بطة بالخيط والورق والبوص وأكياس البلاستيك لساعات، تبدأ في الصباح الباكر وتمتد حتى ما بعد منتصف الليل، ولا يقطعها إلا ساعات بيع المنتجات. جدول يومي أكسبها الالتزام به مهارة تستعرضها بتصنيع الطائرات ولف الزينات بخفة وفي دقائق معدودات، يتخللها شرح بسيط: "بافتح البوصة، وألفها بالخيط وبعدين أكيسها (أضع حولها الكيس البلاستيكي) وأظبطها". ثم تضحك قائلة: "أنا قعدت سنة باتعلم فيها"
تشرح صانعة الزينة ماهية خاماتها التي تشبه في بريقها أوراق السوليفان: "اسمها ورق بصمة، ده بواقي التيكت اللي بيتطبع على الملابس، المصانع بدل ما يرموه بيلفوه على بكر وبيتباع جملة، بجيبها أتواب بالكيلو وأعمل منها شراشيب.. مابقتش تاخد في إيدي 10 دقايق، والـ50 أو الـ100 متر زينة بياخدوا مني يوم".
"الزينة كلها واحد، بس فرقها ألوان".. تقول أم بطة التي قد تلجأ للصيني، أو منتجات مصانع منطقة الأزهر تلبية لاختلاف الأذواق: "باشتري الزينة القماش وورق السمبوكسات والسبعات البلاستيك جاهزة من الموسكي. فيها 2 جنيه مكسب، علشان فيه زباين بيسألوني عليها". وتكرر الفعل نفسه مع الطائرت الورقية التي يزداد الإقبال عليها في مطلع إجازة نهاية العام الدراسي: "فيه عيال بتحب المنظر فبشتريلهم الطيارات الصيني، وبتعمل مصاريفها برضه الحمدلله. واليدوي بتكلفني [سعر] جملة البوصة بجنيه والكيس بنص وبلفها باتنين جنيه. فببيعها بتلاتة جنيه ونص".
المال مهم لسيدة تتحمل مسؤولية نفسها دون مساعدات باستثناء معاش يضيع في سداد إيجار شقتها، لكنها تتناسى كل هذا وتبتسم لفصال الأطفال الذي تستجيب له بعد مشاكسة وتضيف إليه هدايا صغيرة تمنحها لزبائنها قصار القامة: "أنا ماشية بالبركة ومابعرفش آخر النهار بعت بكام وكسبت كام وخسرت إيه، أصل ماحدش هيحاسب ورايا، والأطفال لاهياني؛ فمابدقش معاهم في السعر، هو شهر أنا وهما فرحانين بيه. بحب الأطفال وببقى عايزة أراضيهم".
تصر أم بطة على الإقامة بمفردها رافضة أي صُحبة: "أصل الحرية حلوة، وحتى فيه جيران بيقولولي أنتي لسه صغيرة ماتشوفي حد يونسك، أقولهم لأ أنا متجوزة ولادي، ولو كل يوم أتجوز مش هلاقي زي ويليام، كان طيب وبتاع ربنا". أحلانها تتلخص في رضا الرب وسعادة الأولاد: "كل اللي في نفسي إني اشوف ابني اللي في أمريكا، وأروح القدس".
أمام المحل تتعالى أصوات المطالبين بأمتار كثيرة من الزينات، لتحسم أم بطة الأمر برفض قاطع لبيع أكثر من 50 متر زينة كحد أقصى لكل مشتري: "لازم أراضي الكل، واحد ياخد 100 متر وغيره جاي من مدينة نصر وسايب شارع سيد الحلو كله وجاي لأم بطة ويرجع كده؟! أنا أزعل. ما أنا ممكن أبيعها كلها، لكن أنا شارية زبون بيحترمني. يعني ماعنديش يافطة ومحلي على قدي إنما السيرة الحلوة دي من عند ربنا".