بقدر الغياب الكبير للحركة الطلابية عن العمل السياسي والطلابي في الجامعات المصرية طوال السنوات الفائتة نستطيع إدراك غلظة الحصار الغاشم الذي فرضته السلطة الحالية على المجال العام.
صوت الطلاب الغائب عن المشهد طوال السنوات الماضية هو الانتقاص الأهم من المستقبل، وهو التجفيف الأقسى لمنابع إحدى أهم مدارس العمل السياسي المصري؛ التي كانت تنتج القادة السياسيين والمهتمين بالشأن العام، بل وكل المبدعين والمثقفين.
حصار وملاحقات قضائية وقمع بوليسي شديد أسكت صوت الشباب النبيل الذي لم يصمت أبدًا على مدار تاريخنا الحديث اشتباكًا مع كل القضايا والأحداث.
تاريخيًا كانت الحركة الطلابية المصرية جزءًا أصيلًا من نضال المصريين من أجل الاستقلال والدستور ومقاومة الاستعمار والدفاع عن الحريات العامة، حدث ذلك في كل مراحل التاريخ الحديث بأجيال آمنت بحق البلد وأهلها في مستقبل أفضل.
وخلال ثورة يناير الخالدة ارتفع صوت طلاب مصر في ميادين التحرير انتماءً للثورة ودفاعًا عن الشعب، وكان الحضور الطلابي خلال 18 يومًا هم الأعظم في عمر البلد عاليًا وخفاقًا ومسموعًا، وكان الحضور نبيلًا وجادًا ومتألقًا، وكأنه التتويج المستحق لكفاح أجيال من المصريين من جامعات كانت صاحبة الصوت الأبرز والأكثر إيمانًا بحق مصر في الحرية والكرامة.
مشاركة الحركة الطلابية في ثورة يناير لم تكن منقطعة الصلة بما قبلها، ففي السنوات الأخيرة قبل رحيل نظام مبارك كانت الجامعات ساحةً مفتوحةً للتظاهر والجدل العام في كل القضايا، وطنية وقومية، في انتظار لحظة آتية لا محالة.
في كل القضايا الكبرى قالت الحركة الطلابية رأيها ودفعت الأثمان راضية مرضية، ويمكن القول بأن مظاهرات طلبة الجامعات عام 1968 بعد أحكام الطيران التي صدرت على "قادة الهزيمة" احتجاجًا على أنها لا تتناسب وحجم الكارثة، كانت سببًا رئيسيًا في إعادة محاكمة أولئك القادة من جديد، وإلغاء الأحكام التي اعتبرها الطلاب هزلية وشكلية.
ولعل فترة سبعينيات القرن الماضي كانت واحدة من المراحل التاريخية الأهم في سجل الحركة، ففي أعقاب رحيل عبد الناصر وصعود السادات إلى سدة الحكم، بدأ الصدام عنيفًا بين الطلاب والنظام الجديد، وكان العامان 1971 و1972 هما الأكثر حدة، بعد أن أعلن السادات أن 1971 سيكون عام الحسم ولكنه لم يلتزم بما وعد، وبعدها في 1972 تهرب أيضًا من قرار الحرب معتبرًا أنه "عام الضباب السياسي".
اشتدت ضغوط طلبة الجامعات وقتها على السلطة من أجل بدء الحرب وتحرير سيناء، إزاء ما اعتبروه هروبًا من معركة التحرير، وانفجرت الجامعات بالمظاهرات التي تطالب بتحرير الأرض وترفض مناورات الرئيس وتنصله من وعود التحرير.
وفي النصف الثاني من السبعينيات، في أعقاب حرب أكتوبر، لم تكن المواجهة بين السادات والحركة الطلابية أقل حدة. وقتها كان اليسار بجناحيه؛ الماركسي والناصري، صاحب الشعبية الأكبر والصوت الأعلى وسط صفوف الحركة الطلابية، وبدأت المواجهات بعد انتقادات حادة من الطلاب للنظام في أعقاب الانفتاح الاقتصادي، ثم ازدادت حدة المواجهات مع تراجع مستويات المعيشة وصعود رجال أعمال فاسدين على حساب الغالبية من الفقراء الذين خاضوا هم وأبناؤهم الحرب ليجني غيرهم ثمار ما زرعوا.
ثم وصلت ذروة الخلافات والقطيعة بين الطلاب والنظام في مظاهرات 18 و19 يناير 1977، احتجاجًا على الغلاء والفساد وتردي مستويات المعيشة، تلك المظاهرات التي سماها الطلاب انتفاضة الخبز وأطلق عليها نظام السادات زورًا "انتفاضة الحرامية".
هذه الحركة الطلابية المتجذرة في تاريخ البلد لا يمكن أن تموت مهما اشتد القمع وزاد الحصار
تلك الفترة الثرية من تاريخ الحركة الطلابية هي التي أخرجت أندية الفكر الاشتراكي والناصري في الجامعات، وخلدت أسماءً لا زالت تمارس دورها السياسي حتى اليوم، أسماء مثل حمدين صباحي، وأحمد بهاء شعبان، وعبد المنعم أبو الفتوح، وأحمد عبد الله رزة، وكمال أبو عيطة، ومحمد السعيد إدريس، وغيرهم ممن خلّدت أسماءهم في سجل الحركة الطلابية وهم يناضلون دفاعًا عن الشعب، ويتغنون مع الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم "رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني".
بعد وصول حسني مبارك للحكم عقب اغتيال السادات، كانت الحركة الطلابية لا زالت في مجدها وقوتها. امتد نضال الطلاب من عام 1987 دعمًا للانتفاضة الأولى، ثم في المظاهرات المناهضة للعدوان الأمريكي على العراق عام 1991 لرفض مشاركة مصر في الحرب، ثم في الانتفاضة الثانية عام 2000 بعد اقتحام شارون للمسجد الأقصى، ثم في مظاهرات دعم الشعب الفلسطيني في عام 2002، وغيرها من صور التضامن مع القضايا العربية التي كان صوت طلاب مصر هو الأنبل والأروع في التعبير عنها.
وفي أعقاب مظاهرات 30 يونيو 2013، وبعد رحيل الإخوان المسلمين عن الحكم، سادت حالة من الصدام وصلت إلى درجة العنف بين الطلاب المنتسبين للتيار الإسلامي وأجهزة الأمن، حدث ذلك في معظم الجامعات تقريبًا، وخاصة الأزهر والقاهرة وعين شمس.
كانت اللحظة تعبيرًا عن حدة الصراع السياسي المشتعل في المجتمع، ولكن يبدو أن ذلك العنف كان السبب في مصادرة العمل السياسي والطلابي على السواء.
فرضت أجهزة الأمن حصارًا قاسيًا على الطلاب، وألقت القبض على المئات من المنتمين للتيار الإسلامي، ومنعت كل صوت طلابي أيا كانت مطالبه، وطنية أو قومية أو طلابية، بل باتت الاتحادات الطلابية مجرد "صورة" لا تقدم ولا تؤخر بعد أن عينت أجهزة الأمن اتحادات موالية لها، وصادرت على فرص كل انتخابات حقيقية، فضلًا عن منع المظاهرات السلمية، وهي التي ميزت الحركة الطلابية طوال تاريخها.
بعد الحصار الكبير الذي تلا الصدام المستمر من 2013 وحتى 2015 يبقى السؤال: هل كانت مصادرة الصوت الطلابي بالكامل وقمع حركة الطلاب إجمالًا لمدة تزيد عن ست سنوات خيارات صائبة؟
الإجابة أن ما حدث كان خطأً كبيرًا ليس هناك ما يبرره، فلا الحصار يصب في خانة مستقبل البلد وتقدمها، ولا 2022 تشبه 2013 بحسابات السياسة وصراعات القوى المتنافسة. ورغم أن كبار المسؤولين في السلطة الحالية يتحدثون دائمًا عن الاستقرار الذي عاد إلى المجتمع، ما زالت الحركة الطلابية محاصرة وسجينة، فلا نشاط سياسي واضح، ولا انتخابات طلابية حقيقية، ولا نشاط طلابي يمكن اعتباره جزءًا من النشاط الذي عرفناه على مدى عشرات السنين.
في التأريخ للحركة الطلابية ودورها في تاريخ مصر الحديث نحتاج إلى مجلدات، فهي الحركة الشابة التي كانت دائمًا في القلب من كل المعارك السياسية والوطنية، وصوت الشعب الذي لا تسمح له الأنظمة بالهمس، ومدرسة "الكادر" التي تنتج المثقفين والمهتمين بالعمل العام وتصدرهم إلى المجتمع لتشارك في بناء المستقبل.
وفي حصار حركة الطلاب طوال السنوات الفائتة خصم مباشر من المستقبل ذاته، فلا صوت سياسي شاب، ولا كادر جديد، ولا قضية، ولا جدل عام. ومع ذلك فإن تلك الحركة الطلابية المتجذرة في تاريخ البلد لا يمكن أن تموت مهما اشتد القمع. ولعلها فترة سكون مؤقتة تعود بعدها حركة طلاب مصر قوية عفية، تعبر عن ضمير الشعب، وتهتف للحرية وللغد، وتعيد التغني على ألحان الشيخ وكلمات نجم "رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني".