في يوم 23 أبريل/نيسان من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي للكتاب وهو تاريخ وفاة ثربانتس ووليام شكسبير وغيرهما من أعمدة الأدب العالمي. وفي عام 1995 اختار مؤتمر اليونسكو الذي عُقد في باريس هذا اليوم تقديرًا للكتاب والمبدعين، وتشجيعًا للقراءة بين جميع الناس، وخصوصًا الشباب. إنه يوم للكتاب ولحقوق المؤلف وللقراءة. وبهذه المناسبة ولهذه الذكرى أكتب، مرة ثانية، عن القراءة ومشوارها الممتد ومتعتها، وفي محبتها. والغرض من تلك الكتابة هو مجرد الإشارة والترشيح لبعض عناوين الكتب.
اقرأ أيضا.. في محبة القراءة 1
مدح التواضع وذم الكبر.. أبو القاسم على بن الحسن بن عساكر
ماذا تعلمنا القراءة؟ وماذا يعلمنا العلم بشكل عام؟ في ظني أن القراءة والعلم وتراكم الخبرة من الحياة تعلم، لذي البصيرة المتأمل، أن يكون متواضعًا. فعندما نتعلم خبرة جديدة يجب أن نتذكر أن هذا في معناه أننا كنا نجهل تلك المعلومة وليس ثمة سبب للكبر والحال كذلك.. وكان بعض الشيوخ يقولون لن تنال العلم إلا بالتواضع، وكان ابن المعتز يقول: "المتواضع فى طلاب العلم أكثرهم علمًا، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء"، وقيل إن الشافعي قال: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح". وللتواضع لغة هي التذلل، وتواضع الرجل إذا تذلل وخشع، وأصلها مأخوذ من تواضعت الأرض، وتذلل طالب العلم رفعة له وليس بمعنى الذل المنبوذ أبدًا، وفيها قال النبي في الحديث: "طوبى لمن تواضع في غير مسكنة". وهذا هو المقصود بالتواضع المستحب لعموم الناس، والواجب لطلبة العلم. والتواضع يصدق إن كان عن قدرة، كمِن القوي للضعيف، ومن العالِم لعموم الناس، ومن الغني مع الفقير. وقال الغزالي "إن التواضع هو وسط ما بين طرفين، طرف الكبر وطرف التخاسس والمذلة، وأن كلاهما ذميم وأن خير الأمور أوسطها.. ولا يزول الكبر بالتمني ولكن بقطع أصله وجذره من القلب".
كتب ابن عساكر رسالة في "مدح التواضع وذم الكبر"، وابن عساكر هو أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر (واسم بن عساكر شهرة وليس له من أجداده من كان اسمه كذلك) الدمشقي، وهو صاحب "تاريخ دمشق"، ذلك الكتاب الأشهر في مسيرته. وعلى ذكر التواضع فقد قيل في تواضع الإمام أحمد بن حنبل: "لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلًا إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعَجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لا يتصدر، ويقعد حيث انتهى به المجلس".
ونعود لابن عساكر، فكان أبوه تقيا ورعًا، محبًا للعلم ومجالسة العلماء ورباه على ذلك. أما ابن عساكر نفسه فقد شغل نفسه بالعلم مذاكرة وتحصيلًا، وجعله هدفًا لا يصرفه عنه شيء، ولم يجعله وسيلة لتولي منصب أو طمعًا في مال أو جاه، أعطاه نفسه ولم يبخل عليه بجهد، فكافأه الله سعة في التأليف، وصيتًا لا يزال صداه يتردد حتى الآن، ومكانة في العلم تبوأها في المقدمة بين رجالات العلم في تاريخ الإسلام. ورسالته تقع في أقل من 60 صفحة وهي من نوع المصنفات التي تعرف بالأمالي؛ وتعني الدروس التي يمليها الشيخ على تلاميذ مجلسه.
ويفتتح هذه الرسالة بحديث النبي: "لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من كبر". وأملى على طلبته أن الفضل بن يحيى دخل ذات يوم على أبيه وأنا عنده، وهو يتبختر في مشيته فكره ذلك منه، فقال لي يحيى: "يا أبا عبد الله أتدري ما بقى الحكيم في طرسه؟" (والطرس هو الكتاب الذي يمحوه صاحبه ويعيد كتابته) فقلت: لا، فقال: إن البخل والجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم، فيا لها حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها سيئة غطت على حسنتين كبيرتين".
سامي الدروبي وإحسان بيات الدروبي
هذا التواضع الذي صنف فيه ابن عساكر كتابه وأماليه على طلابه، نستطيع أن نجده سلوكًا وتطبيقًا عند كاتب ومترجم ومفكر كبير من عصرنا وهو المترجم السوري الراحل سامي الدروبي. وقد كتبت ذات مرة في مكان آخر عن كتاب زوجته السيدة إحسان بيات الدروبي والذي كان بعنوان "سامي الدروبي"، وفي كتابها هذا تذكر قصة تعارفهما وطلبه للزواج منها فتقول إنه في 7 أبريل/نيسان 1954 كان أول لقاء في حرم الجامعة، ووقع ما يُسَمّى بالحب من أول نظرة ولم تمضِ أربعة أيام حتى فاتحها بطلب يدها، وحدث أن قرأ الفاتحة معها في الحرم الجامعي. تذكر إحسان في كتابها: "لعله كان أسرع قرار اُتُّخِذَ في قضية زواج قُدِّرَ له فيما بعد أن يكون ناجحًا كل النجاح". وقبل أن تقوم بإبلاغ العائلة، توجَّهَتْ إلى منزل صديقتها ونسيبتها ألفة الإدلبي لتخبرها، فباركت لها هذه الخطوبة وهنأتها على جرأتها، وقالت لها: "يا ابنتي الزواج شيء شخصي جدًا، ويعود قبل كل شيء إلى قناعة الزوجين ببعضهما". وأُعلنت في اليوم التالي خطوبة الأستاذ سامي الدروبي على الطالبة الإذاعية إحسان بيات. بعد الخطوبة طلب منها الاستقالة من عملها الإذاعي للتفرغ كسكرتيرة له، وكان له ما أراد. وكان أول عمل مشترك بينهما ترجمة كتاب "مذلون مهانون" لدوستويفسكي. كان يمسك النص الفرنسي بيده ويُملي عليها بالعربية فتكتب وكانت هذه الطريقة في العمل توفر الكثير من الوقت، وكان قبل ذلك ترجم قصة "نيتوتشكا" لدوستويفسكي.
في رأي سامي الدروبي ورؤيته لمهمة وأدب المترجم ما يدل على شخصية غاية في التواضع رغم كل العظمة، درس في التواضع الكبير من شخص ذي قامة عالية. فكان يرى "أن الترجمة قبل كل شيء، إحساس بالمسؤولية تجاه الكلمة التي أترجم بها، إحساس بالمسؤولية مقرون بالواجب يتجاوز حدود الأنا في مستوى أوسع للـ(نحن). وبالتالي، هل يصبّ هذا العمل في مصلحة وخدمة الـ(نحن) وهنا المسؤولية، أم في مصلحة وخدمة الأنا وهنا الأنانية، والشعور بالفوقية، وحب الظهور، والكبرياء، والادّعاء الكاذب، والأقنعة المخيفة. وبالتالي، فالترجمة قبل كل شيء، تعني التواضع، لأنه وبدون التواضع ليس بوسعي أن أقدِّر عظمة القيمة المختبئة في العمل الذي أترجمه، هذا من جهة، وبدون التواضع ليس بوسعي احترام الآخر الذي أترجم له هذه القيمة الإبداعية أو الحضارية أو الجمال، فإن كنت متواضعًا لنحَرْتُ أنانيتي وأظهرت الآخر المبدِع إلى الآخر القارئ، أما أنا فأكون قد تواريتُ في عدمي الخاص، في إحساسي بالخجل من أنني لا شيء، ولست شيئًا، ولن أكون يومًا شيئًا ما".
عائشة عبد الرحمن مع أبي العلاء المعري
فى 25 مايو/آيار عام 1998 نشرت الدكتورة عائشة عبد الرحمن مقالها فى الأهرام وكان عن ولاّدة بنت المستكفى والشاعر الوزير ابن زيدون، وصدّرت تلك المقالة الطريفة - ضمن مقالاتها عن تلك الملهمة وهذا الشاعر - برسالة من زميلها الأديب والكاتب ثروت أباظة، وكتب لها: "تفضلت الأستاذة الدكتورة.. بهذه الصفحات لتكون بداية تجديد فى الصفحة الأدبية على أمل كريم منها أن يتبع ما كتبته بمثل يسيل فى مجراه ويسير على هداه ونسيت أستاذتنا الدكتورة أنه ليس فى العالم العربى إلا عائشة عبد الرحمن واحدة وأن الجدول الذى يصفق فيه أدبها، يمتنع على أدب غيره أن يدلف إليه". وكلمات هذه الرسالة الرقيقة يمكن أن تصف كل كتابة بنت الشاطيء، لا كتابتها عن ولادة فقط، وإنما أيضًا عن أبي العلاء المعري، وعن سيدات بيت النبوة، وتفسيرها للقرآن، كما يمكن أن تنطبق على قصة حياتها وعلاقتها بالشيخ أمين الخولى والتي كتبتها في كتابها "على الجسر". لكني هنا سأكتفي بكتابها عن أبي العلاء. وقد ناقشت في عام 1950 رسالتها لنيل درجة الدكتوراة بموضوع بحث عن رسالة "الغفران، دراسة نقدية".
ورسالة الغفران هي أحد أهم وأصعب أعمال أبي العلاء؛ غير أن هذه الباحثة الجادة ظلت قائمة على تحقيق وبحث ودرس الغفران وغيرها (أضافت فصل عن رسالة الصاهل والشاحج في طبعات متقدمة لرسالتها الأصلية للدكتوراة) وقد أخرجت تحقيقًا مهمًا بعد سبع سنوات من الدرس، وصدر في سلسلة الذخائر بدار المعارف. أما رسالتها فكانت دراسة نقدية عن نص رسالة الغفران. وقد ناقشها وأجازها بدرجة ممتاز، عميد الأدب ودارس أبي العلاء، الدكتور طه حسين. وكان في تلك المناقشة أيضا الكاتب والمفكر الكبير أحمد أمين. وفيما بعد كتبت الدكتور عائشة كتابًا بسيطًا وتعريفيًا عن أبي العلاء لتقدمه للقاريء العادي في السلسلة الشهيرة والمفيدة والمهمة التي كانت تصدرها "وزارة الثقافة والإرشاد القومي" و "المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر" وهي سلسلة "أعلام العرب" (وأتمنى أن أجد فرصة للكتابة عن هذه السلسلة وعن بعض عناوينها المهمة التي قرأتها وتعلمت منها ومازلت، وأيضا السلسلة التي قام بكتابتها سليمان فياض وصدرت عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، عن "علماء العرب")
غير أن معرفة ودراسة ومعرفة بنت الشاطئ لأبي العلاء تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد كتاب تعريفي بسيط؛ فأنجزت كتابها "مع أبي العلاء المعري.. في رحلة حياته" وفاء للشاعر والفيلسوف بالأساس، أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري. وهي نفسها أشارت لهذا فقالت "قدمت أبا العلاء في (سلسلة أعلام العرب) على رجاء العودة إليه، لأقدمه في طبعة منهجية حرة، غير مقيدة بسلاسل أو حلقات، وهذه هي محاولتي هنا، بعد طول صحبة لأبي العلاء في تراثه، وتخصص في تحقيقه ودراسته، راجية أن يطمئن القاريء إلى أنني في ترجمتي لأبي العلاء، اعتمد أصالة على ما تم لي من فهم لشخصيته، واستقراء لمصادر دراسته فيما وصل إلينا من آثاره، ثم في أقول مؤرخيه". وبنت الشاطيء في دراستها وكتابتها عن أبي العلاء، تثبت أنها باحثة جيدة وعظيمة وتلميذة نجيبة لطه حسين المتنور وأيضا لزوجها وأستاذها وشيخها، أمين الخولي، فطه حسين في "صوت أبي العلاء" و"مع أبي العلاء في سجنه" كان مدافعًا عن أبي العلاء وناقدًا له، وكذلك جاءت رسالة بنت الشاطيء وبحوثها فيما بعد. رغم كل ما لاقاه أبو العلاء من تكفير وهجوم عليه كونه أعمل عقله واجتهد. وكانت وصيته التي بقيت وتبقى لنا وغيرنا هي في قوله: "أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ ، فكلّ عقلٍ نبي" وليس غيره.
وفي الختام أود أن أتركك يا صديقي القارئ العزيز مع بعض مقتطفات من رسائل المفكر الإيطالي الكبير جرامشي من السجن..
رسائل السجن لأنطونيو جرامشي
جرامشي هو المفكر الإيطالي الكبير والمناضل الماركسي كذلك. تظل "كراسات السجن" هي عمله واسهامه النظري المهم في النظرية الماركسية، وفيها أفكاره المهمة عن دور الحزب السياسي والمجتمع المدني والعلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية من منظور اجتهاده داخل النظرية الماركسية. لقد كانت كراسات السجن كما كتب هو بمثابة "بؤرة حياتي الداخلية". لكن هذه الرسائل التي كتبها إلى أمه هي جانب آخر من جوانب هذا الإنسان العظيم، والمناضل الصلب والمثال.. يقول لأمه في إحدى الرسائل: "في العمق، وبطريقة أو بأخرى، أنا مَن أراد هذا السجن وهذه المحاكمة، بما أني لم أتراجع أبدًا عن آرائي التي من أجلها أنا مستعد للتضحية بحياتي وليس فقط البقاء في السجن. وبالنتيجة، لن أكون إلا فرحًا ومرتاحًا من نفسي". فكل اختيار تتبعه عواقب.. نقبلها باطمئنان وراحة بال وضمير. ثم يظل يخبر أمه بأنه رغم كل تلك الظروف القاسية، على يقين ورضا تام بصواب اختياره وانحيازه السياسي والفكري والاجتماعي، لصالح الإنسان والأفكار الاشتراكية والفلاحين والطبقة العاملة "فكّري أنني مطمئن تمامًا، ومتيقّن أن هذه القضية ستؤول إلى نهاية جيدة وسريعة". ويطلب منها في إحدى رسائله وكان يوقع لها باسمه الذي كانت تدلله به "نينو".. "ولنلخص ما قلته: أنا بصحة جيدة ولست مكتئبًا. أقدم جميع أشكال التهنئة بمناسبة عيد ميلادك القادم أرسلي إلى صورة جميلة لك، لكن التقطيها كما لو كنت في البيت ودون فخفخة، أليس كذلك؟ ودون تأنق زائد. أقبلك بقوة. نينو".