وافق مجلس النواب المصري، الشهر الماضي، على قرار رئاسي يعتبر العديد من الأراضي التي كان النوبيون يطالبون بحق العودة إليها "مناطق عسكرية"، وهذه الأراضي المتضمنة في القرار 444 تمثل مساحات شاسعة على طول الحدود المصرية، وتضم 16 قرية نوبية.
في هذا المقال المنشور بموقع أوبن ديموكراسي تناقش ماجا جنمير، الباحثة في كلية الحقوق بجامعة بيرجن في النرويج، والباحثة الزائرة في معهد عصام فارس في الجامعة الأمريكية، تداعيات هذا القرار، وأثره على النوبيين.
ماجا جنمير
ترجمة عن أوبن ديموكراسي
في الشهر الماضي، تظاهر عشرات من النوبيين أمام معبد أبو سمبل بصعيد مصر احتجاجًا على قرار برلماني يمنعهم من العودة إلى القرى الواقعة على ضفاف النيل، والتي هُجّروا منها قسريًا منذ أكثر من نصف قرن. ويعتبر القرار الأخير انتكاسة في أوساط المجتمع النوبي، الذي أُثمرت تحركاته أخيرًا بأن ذكر الدستور المصري لعام 2014 كلمة "النوبة" بوضوح لأول مرة، والنص على عودة النوبيين إليها خلال عشرة أعوام.
ولكن تحويل هذه الاستحقاقات الدستورية إلى مكاسب على أرض الواقع صار محل شك بسبب تزايد عسكرة المجتمع المصري وتقلص المساحة السياسية في أعقاب تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة البلاد في عام 2014. واستاء العديد من النوبيين من القرار الذي أصدره السيسي باعتبار العديد من القرى التي يطالبون بالعودة إليها "مناطق عسكرية". وتعتبر موافقة البرلمان عليه بمثابة ضربة واضحة لقضية حقوق النوبيين في مصر. ورغم المحاولات المستمرة من جانب الحكومة لإحباط الأصوات المطالبة بمناقشة علنية لحقوق النوبيين، إلا إن التطورات في السنوات الأخيرة أصبحت لافتة للنظر.
النوبيون يحملون هوية عرقية متميزة عن الشعوب العربية، ويُعتبرون أحفاد حضارة تحاكي في قدمها مصر القديمة. فامتدت القرى النوبية المأهولة بالسكان على طول ضفاف نهر النيل من أسوان في جنوب مصر إلى شمال السودان لآلاف السنوات. وبعد تقسيم مصر والسودان في عام 1899، ثم بناء سلسلة من السدود، وغرق الأراضي النوبية بسبب الفيضانات خلال أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه، بدأ اقتلاع جذور النوبيين في مصر، باستثناء قطاع صغير منهم لا يزالوا يعيشون على طول نهر النيل. والآن تقع النوبة المصرية القديمة تحت بحيرة ناصر، التي أنشأها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي في إطار جهود تحديث مصر.
بعد فترة وجيزة من بناء السد العالي، شرعت السلطات المصرية في تنفيذ برنامج لإعادة توطين قسري لما يقرب من 50 ألف نوبي في مجتمعات جديدة بُنيت خصيصًا لهذا الغرض في جنوب مصر. وبناء عليه، يمكن تصور أن هذا التوطين الإجباري في ستينيات القرن الماضي تسبب في اضطرابات سياسية واجتماعية على نطاق واسع في المجتمع النوبي، ولكن تم قمع أي محاولات لحشد جماعي ضد هذه السياسات. وتمادت الحكومة المصرية حتى وصل الأمر أنها أنكرت وجود أي أقليات في البلاد. ومنذ نزوح النوبيين تم تهميشهم بشكل منهجي سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
في مقال بحثي جديد، كنت استعرضت تطور نضال النوبيين في مصر منذ عام 2005، وأن أصواتهم علت للمطالبة بالتغيير واستطاعوا أن يحشدوا لقضيتهم، رغم المخاطر الجلية التي يتعرضون لها، وكيف غيّروا من أنشطتهم وإستراتجياتهم من أجل المطالبة بالعودة إلى أرض الأجداد. وفي حين أن معظم النوبيين اعتبروا لفترة طويلة أن الحشد لقضيتهم من قبيل المخاطرة الكبيرة، تزايدت أعداد النوبيين الذين أدركوا أن الوضع الراهن يشكل تهديدًا أعمق على وجود جماعتهم، وبناء عليه تنامى الحشد لقضيتهم على نحو غير مسبوق. بعد أزمة الخبز في مصر عام 2008، ظهرت عدة حركات نوبية شابة. ورغم أن هذا الجيل الأصغر لم يزر النوبة القديمة، إلا أنه أكثر انخراطًا في العمل السياسي. تعززت هذه التحركات بعد ثورة يناير التي أثمرت جهود النشطاء المصريين فيها إلى الإطاحة بنظام مبارك.
سعى النشطاء النوبيون للاستفادة من الفرص غير المسبوقة الناتجة عن تغيرات السياسة الداخلية في مصر؛ سارعوا إلى تنظيم صفوفهم في الأشهر التي تلت الثورة مباشرة، ولكن النوبيين اُستبعدوا بصفة جماعية من عملية صياغة أول دستور بعد الثورة في عام 2012. وفي تلك الأثناء، كانت جماعات حقوقية نوبية مثل الرابطة النوبية المصرية للمحامين قد وضعت مشروع قانون يضمن للنوبيين حق العودة إلى أراضيهم.
خلال فترة تولي محمد مرسي رئاسة مصر (يونيو/حزيران 2012- يوليو/تموز 2013)، تفاقمت مظالم النوبيين. في يناير/كانون الثاني 2013، نظمت 60 مجموعة نوبية احتجاجًا أمام البرلمان المصري للمطالبة بوضع حد لتهميشهم والسماح لهم بالعودة إلى أراضيهم. وأعتقد أن الحشد المستمر من جانب المجتمع النوبي قد أتى بثماره أخيرًا في الدستور الصادر في عام 2014، بالإشارة إلى حقهم في العودة لأرض الأجداد.
بعد عزل مرسي في يوليو 2013، بدأت إجراءات اعتماد دستور جديد، وكانت هذه المرة الأولى التي يُمثَّل النوبيون كجماعة في عملية صياغة الدستور، وكانت مشاركتهم ناجحة إذ ذُكرت كلمة النوبة للمرة الأولى صراحة، وأرست المادة 236 من الدستور المصري حقهم في العودة إلى أراضيهم.
بعد انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2014، شكلت وزارة العدالة الانتقالية المصرية لجنة إعادة تأهيل وإعمار النوبة، وتختص هذه اللجنة بتنفيذ الأحكام الدستورية المتعلقة بالنوبة من خلال صياغة قانون محدد يتضمن عملية العودة إلي أراضيهم. ولتحقيق هذا الغرض، أعدت اللجنة ثلاثة مشاريع قوانين وآخرها قُدِّم إلى مجلس الوزراء في فبراير/شباط 2015.
وبالانتقال إلي التطور الأخير، توجد مخاوف حقيقية من ألا تترجم الاستحقاقات الدستورية ومسودات قوانين لجنة إعمار النوبة إلى خطوات ملموسة على أرض الواقع، فأصبحت المكاسب الأخيرة التي أحرزها النوبيون مهددة بالخطر، جراء العسكرة المتزايدة للمجتمع المصري، وتقلص فضاء المجتمع المدني والعمل السياسي بشكل عام، وفي ضوء المرسوم الرئاسي الجديد الذي يقوّض بشكل صارخ عمل الناشطين النوبيين يشكك كثيرون في الموافقة على مسودة قانون لجنة الإعمار الأخيرة.