داخل صالة متوسطة الحجم في شقة هادئة بحي حلوان جنوب القاهرة بمنتصف التسعينات، وُضِع تلفزيون ملون جديد، جاء مع عودة والدي من رحلة هجرة قصيرة إلي أوروبا. جاء التلفزيون الجديد ليتماشى مع الاختراع الوافد: جهاز الفيديو "في تش اس"، الصديق الوفي لصباحات حلوانية رتيبة.
في فترة الإجازة الدراسية، ومع حر القاهرة الصباحي ومحدودية المدينة ذات الأصول الصناعية؛ تضطر لممارسة طقوس أي عامل مصري عاطل: ترتدي ملابس قطنية خفيفة وتجلس أمام التلفزيون في انتظار نسمة هواء، تستثمر كل أموالك في تأجير أفلام جديدة، حكايات وقصص وتمثيل وديكورات وموسيقى.
ذات يوم لم أملك ما يكفي من الأموال لإيجار فيلم جديد، كنت أبحث في مكتبة الأهل عن أي شيء صالح للمشاهدة وسط شرائط تعودت أن يكتب عليها "ندوة العمل النسائي والجماهيري"، "النقابات العمالية مستقبل جديد" نظرًا لطبيعة عمل أهلي بالعمل العام. كان هناك شريط وحيد يبدو مختلف الطلة، أكثر نظافة ومغلف بإحكام بكارتون مقوى ومكتوب عليه بخط مطبوع "إلي أين؟" المنتج عام 1990. الحالة الصحية للشريط جعلتني أتوسم أن أجد فيه شيء جديد يؤنس وحدتي الصباحية.
في اليوم العالمي للمرأة.. رجال مصر يفخرون بنسائها
بدأت لقطات ما قبل التترات وبدأت معها حركة الكاميرا السلسة في صعيد مصر، متابعة مع عاملات بالزراعة، تتابع بصري يختلف تماما عن ما أشاهده في برامج التلفزيون، وشبيه إلى حد بعيد بتتابع الأفلام الروائية، ولكنه ليس فيلما بالمعنى المعروف بالنسبة لي وقتها. على الشاشة تجلس فلاحة صعيدية على الأرض والكاميرا في مستوى نظرها تتحدث بطلاقة وحرية عن تسرب الفتيات من التعليم، وعن الأوضاع المعيشية في الصعيد ونقص الموراد الاساسية من مياه وصرف صحي. السرد المحكم وطزاجة الصورة ولطافة الشخصيات جعلت الفيلم يمر سريعًا دون لحظة ملل واحدة، وجعلتني فجأة أكتشف عالمًا جديدًا وسينما جديدة. في نهاية الفيلم ظهر اسم المخرجة نبيهة لطفي، فكان التعرف الأول على نبيهة وعلى السينما التسجيلية.
علي مدار شهور عرضت الفيلم ليشاهده أكثر من قريب وصديق، كلما جلسنا في المنزل صباحًا وبعدما ننتهي من كل ألعاب المراهقين، اقترح عليهم الفرجة على هذا الشريط، نشاهد ونتحدث، اتذكر أن صديقًا قال لي وقتها أنه لو كان الأمر بيده لتبنى طفلة من اللواتي يظهرن في الفيلم، وتولى مسؤولية تعليمها.
تمر السنون وينضم لنا أصدقاء جدد، فأختبرهم في البداية بالفرجة على فيلم نبيهة. يشاهدون ويبدون ملاحظات عن شريط الصوت، وعن ضرورة قص صوت السؤال في أوقات للحفاظ على إيقاع الفيلم دون تشويش. سريعًا تعمقت النقاشات بشكل لم أتوقعه أبدًا، وأنا الذي كنت أبحث في البداية عن مجرد شيء لقتل الوقت.
لا أؤمن كثيرا بالصدف، ولذلك أن يكون لنبيهة الفضل في معرفتي الأولى أنا والأصدقاء بالسينما الجديدة لم يكن صدفة، فنبيهة لطفي المخرجة اللبنانية؛ فُصِلت من الجامعة الأمريكية ببيروت في ١٩٥٥ لاشتراكها في مظاهرات مناهضة للولايات المتحدة وضد حلف بغداد. وعندما قرر عبد الناصر استضافة الطلاب المفصولين بالقاهرة، اختارت نبيهة الالتحاق بالدفعة الأولى بالمعهد العالي للسينما في مصر ١٩٦٠، وتخرجت فيه عام ١٩٦٤، لتكون من أوائل السينمائيات الذي أخرجهم لنا المعهد. وبعد عام واحد من هزيمة ١٩٦٧، ساهمت نبيهة في تأسيس جماعة السينما الجديدة، قبل أن تنضم لمركز الفيلم التجريبي الذي أسسه شادي عبد السلام، وتخرج فيلمها الأول من إنتاج المركز "صلاة من وحي مصر القديمة" ١٩٧١.. أبدا لم تكن صدفة أن يزرع الرواد وعي جديد؛ في عقل مراهق في التسعينات.
كبرت، وشاهدت أكثر وزاد هوسي بالسينما وبحكي القصص، وظللت مفتونا بالصدق الذي تتحدث به الشخصية أمام الكاميرا في الأفلام التسجيلية، وظل همي كتسجيلي هو البحث الدائم عن أبطال مشابهين لأبطال سينما نبيهة لطفي. ظللت أتنقل في المهرجانات أبحث عن مزيد من سحر نبيهة. كلما دخلت قاعة لمشاهدة عرض سينمائي في أي مهرجان أو ملتقى أوحتى نقاش صغير، تجد سيدة كبيرة بلكنة مميزة، ترتدي شالاً يدويًا مشغولاً، تجلس في هدوء في ركن تستمتع بالمشاهدة، وبعدها تتناقش. كانت نبيهة لطفي نفسها حاضرة دائما قبل الجميع، تبادلت معها الابتسامات في أوقات، واستغللت معرفتي القديمة بأختها التسجيلية عرب لطفي للسلام عليها في أوقات أخرى. حضورها المعتاد أصبح مصدرًا للألفة داخل قاعات العرض الباردة شبه الفارغة.
في الأيام الأخيرة من دورة مهرجان القاهرة السينمائي لعام ٢٠١٤، كانت نبيهة على العهد تحضر وتنتقل ببطء بين القاعات، كانت تحفظ طريقها جيدا للإنتقال بين مسرح الهناجر الذي كان يعرض أفلامًا حازت جوائز عالمية في برنامج "مهرجان المهرجانات"، وبين المسرح الكبير الذي يعرض أفلام المسابقة الرسمية. في الطريق وأثناء مررونا جميعا من البوابة الإلكترونية التي تكشف عن المعادن، مع فتح الأمن لمنفذ صغير للمرور للتفتيش والتأكد من خلونا من القنابل وبواقي العملات النقدية، تعثرت قدم نبيهة وسط البوابة وسقطت على الأرض، لا تستطيع التحرك تتألم غير قادرة، تحرك الطابور سريعا لمساعدتها، حاولت زميلتنا المصورة نهي الأستاذ الاطمئنان سريعًا علي جسد نبيهة، فلم تكن قادرة علي تحريك ذراعها، انتظرنا عربة إسعاف وظللت أنا -كالعادة- ألعن الظروف التي تصيب امرأة من رواد السينما والنقد العرب في بوابة أو حاجز أمني في مهرجان سينمائي مصري. مشهد كامل في مصريته، يليق بالأجواء الكئيبة التي كانت تسيطر علينا بعد انحسار موجة الثورة.
بعد ثلاثة أيام جاء موعد فيلم الختام، ووسط قاعة ضخمة ممتلئة عن آخرها بالنساء والرجال والشباب لمشاهدة الفيلم اليوناني "انجلترا الصغيرة" في مفاجأة غير معتادة؛ عادت نبيهة لتدخل القاعة وذراعها مربوط بشاش أبيض لتحضر فيلم الختام. عادت مبتسمة بعد أن هجرت الوحدة قاعات السينما وأصبح لها ألف رفيق.
نبيهة لطفي (1937 - 2015)
أنت أيضًا مدعو للكتابة عن صاحبة انجاز مهني أو حقوقي أو إنساني. انشئ حسابًا على المنصة وسجل فخرك بامرأة ملهمة.