"أهم جانب من الواقع الافتراضي هو الحضور. الحضور في هذا السياق يشمل كلًا من الإشغال المادي والذهني لمساحة افتراضية. كلما زاد الحضور في الواقع الافتراضي، زادت إمكانية أن يفصل الزائر نفسه عن العالم الحقيقي ليتقبل الواقع الافتراضي كواقع جديد". تلك هي العبارة التعريفية التي تفتتح مختبر ومعرض فايوراما الذي اختتمت فعاليات منذ أيام بمؤسسة مدرار؛ قرأتها مرات عديدة بتمعن، لأحاول التقاط المعنى قبل الدخول إلى مساحة غير معتادة لما هو متعارف عليه باعتباره معرض فني.
في الدور الثامن من بناية أنيقة بحي جاردن سيتي، كان النور المتسلل من النوافذ الزجاجية العريضة يغمر المكان الغارق في الأبيض. قوالب بيضاء مستطيلة تعلوها نظارات بيضاء أيضًا، وتحتل كل واحدة منها غرفة فسيحة فارغة. تلك محتويات المعرض، غير أنك سرعان ما تنسى النور ومساحات البياض والفراغ، وكذلك وجودك المادي ذاته بمجرد انتقالك إلى العالم المبهر المختبئ خلف العدسات.
تتحول الغرفة الفارغة إلى بحار زرقاء عميقة وأنت على قمة جسر تتأمل فكرة السقوط بحذر، تحاوطك كائنات أسطورية تتطاير في سماء متداخلة الألوان. يقودني فضول غامر لمواصلة السير والاستكشاف، أمد يدي محاولة لمس واحد من تلك الكائنات الطائرة فيفاجئني حصان أبيض فاتن وسط نافورة كدت أقترب منها حين تحول الفراغ أمامي إلى جدار شائك باللون الأسود والأحمر، "عندما يعترضك جدار شائك، اعلم أنك اقتربت أكثر من اللازم"، هكذا قال لي مرشدي في الرحلة السحرية.
يشبه الأمر حلمًا لذيذًا أو مزعجًا، تتنازعك رغبة في المزيد من الغوص فيه، أو الإفلات منه بالاستيقاظ. لا يتطلب الفرار من ذلك العالم العجيب سوى خلع النظارة لتعود إلى الغرفة البيضاء وأشعة شمس ظهيرة صيفية بالقاهرة تغمر الفراغ. "كلما زاد الحضور، زادت إمكانية أن يفصل الشخص نفسه عن العالم الحقيقي ليتقبل الواقع الافتراضي كواقع جديد". بدأت أفهم العبارة تدريجيًا، بينما أتفقد المزيد بفضول.
اختراق الديوراما
اشتق معرض فايوراما Viorama اسمه من الدمج بين واقع افتراضي Virtual Reality وديوراما Diorama، وتعريفها أقرب لـ"مشهد مجسم ثلاثي الأبعاد بالحجم الكامل أو مصغر، يتم وضعه أحيانًا خلف حاجز زجاجي"، لكن على عكس الديوراما التقليدية التي يقف الجمهور منها موقف المشاهد من مسافة خلف الزجاج، فإنه في ديوراما الواقع الافتراضي أو الـفايوراما مسموح للزائر باختراق الحواجز ليكون جزءًا من المشهد، والتدخل في الأحداث وكأنه في واقع جديد مختلف تمامًا عن واقعه "أن يفصل الشخص نفسه عن العالم الحقيقي ليتقبل الواقع الافتراضي كواقع جديد".
بدأتْ رحلة الإعداد للمعرض الذي انطلق في الأسبوع الثاني من مايو/ أيار، بمجموعة من الأنشطة العملية وسلسلة المحاضرات المفتوحة التي استهدفت مشاركة فنانين وفنانات من مجالات مختلفة في استكشاف عالم الواقع الافتراضي وأدواته السمعية والبصرية وعلاقتها بممارساتهم الفنية، تلا ذلك دعوة مفتوحة لمختبر مدته ستة أسابيع انتهى بتنفيذ مجموعة من المشاريع باستخدام الواقع الافتراضي اختير له ستة مشاركين للعمل كلٌ على تصميم الديوراما الافتراضية الخاصة به، أي تنفيذ قصته الخاصة بأدوات الواقع الافتراضي شرط أن تتخذ من فكرة الديوراما إطارًا للعمل، بمعنى الحفاظ على فكرة المشهد المتكرر ثلاثي الأبعاد محدد الزمان والمكان، كأي ديوراما تقليدية، لكن بمفهوم الواقع الافتراضي حيث يعي الفنان أن "الحضور" المادي والذهني هو وسيلة الزائر لفصل نفسه عن العالم الحقيقي، والانغماس في واقع جديد.
تولى إدارة مختبر ومعرض فايورما الفنان الهولندي دانيال أرنست، الذي يعرف نفسه بـمخرج الواقع الافتراضي، مع ذلك حصل مشروعه أوبرا فرنويه عام 2019 على جائزة سينمائية مرموقة في بلاده، هي جائزة العجل الذهبي من مهرجان أفلام هولندا ليكون بذلك أول فنان واقع افتراضي يحصل على الجائزة في بلاده. وهو مؤشرًا لاتجاه مهرجانات السينما للاعتراف بعالم الواقع الافتراضي وسط برامجها ومسابقاتها.
يقول إرنست في مقاله بنشرة المعرض إن "تعريض مجموعة متنوعة من الفنانين من مختلف المجالات لهذا الوسيط الجديد أمرًا أساسيًا في استيعاب تطور الواقع الافتراضي كوسيط يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور التكنولوجيا نفسها"، لكن ما يحتاجه الواقع الافتراضي بحسب الفنان الهولندي هو "فنانين يمكنهم الجمع بين الجوانب الفنية والتقنية للوسيط. يمكنهم التعبير عن أنفسهم ببلاغة والتجريب بالواقع الافتراضي والتكيف معه".
سايبورج بالداخل
الفنانون الستة المشاركون في المختبر ثم المعرض، ينتمون لمجالات مختلفة في عالم الفنون البصرية، وتعكس مشروعاتهم همومًا فردية وجماعية بعضها يخص الموضوع، وبعضها يتعامل مع الشكل وأسلوب السرد. لكن الثابت في تلك المشاريع أنها مخلصة للوسيط الجديد شكلًا وموضوعًا لا من منطلق الانبهار به، بقدر ما تظهر محاولة جادة لاستكشاف إمكاناته والتفاعل مع ما يتيحه لطرح أساليب سرد بديلة تسعى لاستيعاب الزائر وضمان تفاعله المباشر كجزء أصيل وفاعل من القصة لا كمشاهد سلبي.
على سبيل المثال اختارت ملك ياقوت لـمشروعها في عالم الواقع الافتراضي سكتش لتجربة حلم جمعي غامرة حلمًا جمعيًا تتضارب فيه ذكريات الفردي، والجماعي، السياسي والاقتصادي بحيث ينقل مشاعر الصراع بين الخوف من الوحدة، والتهديد بفقدان الهوية الفردية. وهي معنية في تجربتها الفنية بشكل عام بالبحث ومن ثم يتنوع منتجها الفني ما بين تركيبات نحتية، وأرشيفية، وخرائطية، وأداء فيديو. تخرجت ياقوت من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وحصلت على ماجستير في الفنون العامة والاستراتيجيات الفنية الجديدة من باوهولس، بجامعة فايمار الألمانية.
أما محمد المغربي صاحب مشروع يوجد سايبورج بالداخل، خريج الهندسة المعمارية، فتميل تجربته الفنية للاعتماد على العمارة كمرجع بصري وفلسفي من خلال استخدام وسائط متعددة كالرسم والتصوير والتحريك. ويدور مشروعه في الواقع الافتراضي في عالم كائنات السايبورج الهجينة النصف بشرية نصف آلية ليناقش فرضية أن الكائنات، بما فيها البشرية مبرمجة على إعادة إنتاج ذاتها في نظام مغلق.
خلل ماتريوشكا بدوره مشروع واقع افتراضي تأملي يركز على استعراض تطور التكنولوجيا وكسر الحاجز بين الواقع والواقع الافتراضي. صاحب المشروع زياد أبو غالي يدرس التصميم الإعلامي بكلية العلوم والفنون التطبيقية بالجامعة الألمانية بالقاهرة، وهو فنان وسائط متعددة ومصمم، علاوة على اهتمامه بالصوت والموسيقى وعلاقتهما بالفنون البصرية.
في وهكذا حملنا لحمنا تستكشف دينا جريديني العلاقة بين الجسد المادي والافتراضي، إذ ما هي المساحة التي لا يشغلها الجسد، وكيف يبعدنا عن أو يربطنا بالعالم. وجريديني فنانة بصرية وكاتبة وقيّمة على الفن المصري المعاصر، تتنوع وسائطها الفنية ما بين النص، والفن ثلاثي الأبعاد، والتصوير البياني، وإسقاط الفيديو، والأداء، والتصوير، والأعمال الخشبية، والنحت.
لكن أحمد نادر في مشروعه آبنوس يحاول من خلال الواقع الافتراضي استكشاف تجربة محاكاة قصة من حكايات ألف ليلة وليلة، سردت وخزنت في الذاكرة، فما الطرق البديلة لروايتها وكيف نختبر طرق جديدة لفهم حواسنا وفقًا لقواعد القصة. نادر هو فنان وسائط متعددة خريج كلية الفنون الجميلة، يهتم بخلق مساحة ومسافة تبدو وكأنها عالم مألوف، بينما هي مبهمة تدعو لإعادة استكشاف الواقع والذات.
في مشروعها بنك الحظ تتناول آية طارق، من خلال الواقع الافتراضي سردية لاعب واحد، يلعب ضد النظام، ولا يفوز أبدًا. حيث تحول تجربة لعبة بنك الحظ المصرية التقليدية إلى الواقع الافتراضي، وتحدث قواعد اللعبة وأوامر الكروت لتقليد عالمنا المالي والاجتماعي. آية طارق مصورة وفنانة شارع ورسامة ويشمل منتجها الفني أفلام روائية وتعاونيات فنية، بينما يعد التجريب في مقدمة مساعيها الفنية من خلال وسائط متعددة من بينها الواقع الافتراضي.
بمجرد الانتهاء من زيارة العمل الأخير، ستراوغك رغبة في إعادة الرحلة والبدء من جديد، لعلك تجرب إشارة مختلفة بيديك الممدودتين فتستكشف مسارًا آخر للمشهد، أو لعلك تسير خطوتين أو تدور برأسك في اتجاه آخر فيفاجئك عنصرًا جديدًا.
تكمن متعة المشاركة في السرد، رغم الخيارات المعدة مسبقًا بأنها تحررك من خبرة التلقي السلبي أو حتى التفاعل فقط بالخيال كما في عالم السينما أو التلفزيون. تتجاوز المتعة حدود انبهار النظرة الأولى إلى التفكير في العمل الفني من موقعك كشريك في السرد يتمتع بقدر كبير من الحرية، لكن نادية غانم المخرجة السينمائية، ومديرة ستوديو مدرار، وهي أحد الفاعلين في مختبر فايوراما تحذرني من الاستغراق في الفكرة.
حقيقة مراوغة
في الواقع الافتراضي تختفي المسافة بين الزائر والعمل الفني فتخزن الذاكرة البشرية المعلومات لا كتجربة مشاهدة، بل كتجربة معايشة حقيقية مرت بها بالفعل "مثلًا لا يعرض لك الفيلم الافتراضي الوثائقي أحداث ومشاهد من الحرب في سوريا، بل بمجرد أن تضع النظارة على عينيك أنت هناك في ساحة المعركة، وهنا تثار تساؤلات مختلفة حول ادعاء نقل الحقيقة ومسافة المخرج من الأحداث وما الذي يرغب في تخزينه في ذاكرتك ويتحول إلى وعيك"، تقول نادية راغب، مديرة ستوديو مدرار، لذا كان لابد أن تتضمن فعاليات المختبر، حسبها، فعاليات تركز أخلاقيات الواقع الافتراضي، الذي "لا يقتصر فقط على صناعة قصص خيالية".
لكن فيكتوريا كورناكيا تشير إلى جانب آخر في تجربة الواقع الافتراضي تتيح مساحة أوسع من الحرية للجماعات والأقليات غير المستوعبة اجتماعيًا وثقافيًا لخلق عالم بديل في الواقع الافتراضي. تقول للمنصة "في واحدة من المحاضرات ناقشنا الإمكانات التي يتيحها الواقع الافتراضي لخلق عالم أكثر عدلًا وتسامحًا مع التنوع وتعدد الهويات لا يحققه الواقع الفعلي".
وهو ما يراه محمد علام، مدير ومؤسس مدرار، قضايا جدلية صاحبت أيضًا ظهور منصات التواصل الاجتماعي وإتاحتها خلق شخصية موازية لتلك الموجودة في العالم الواقعي. يقول للمنصة "تطرح تلك المخاوف والمسائل الجدلية مع كل ظهور لوسيط جديد، وفي عصرنا الحالي عادة ما يكون وسيطًا إلكترونيًا".
خطوة للأمام. . ثلاث خطوات
لا زالت تكنولوجيا الواقع الافتراضي محدودة الاستخدام في مصر خاصة في المجال الفني بالمقارنة بتطبيقاته التقنية في مجالات الطب والهندسة والصيدلة.
من بين المؤسسات المتخصصة في المجال في مصر 412 Labs والمدرسة الإبداعية بالقاهرة، وتعمل الأولى على تقديم ورش تدريبية على تقنيات الواقع الافتراضي، بالإضافة إلى إنتاج محتوى تسويقي افتراضي في مجالات الطب، والهندسة، والصيدلة، وتسويق السيارات. أما المدرسة الإبداعية فتأسست بالتعاون مع جامعة رايرسون الكندية المتخصصة في مجال الإعلام والاتصال وتهدف إلى نقل تكنولوجيا الواقع الافتراضي إلى النشء من خلال منهج لطلاب المدرسة يجمع بين التكنولوجيا والإبداع. وكلا المؤسستان شركاء لمدرار في تنفيذ مختبر فايوراما من الناحية التقنية.
لكن على مستوى التطبيقات الفنية يشير علام إلى أن عدد محدود جدًا من الفنانين البصريين المصريين تواصل مع تقنيات الواقع الافتراضي، غير أن ياسمين العياط الفنانة المصرية الأمريكية التي تعيش في الولايات المتحدة، حققت نجاحًا لافتًا في تكنولوجيا العالم الافتراضي من خلال إخراج أفلام وثائقية وأعمال فنية حازت نجاحًا عالميًا، بالإضافة إلى تأسيس شركة إنتاج سكاتر، وهي شركة برمجيات وترفيه تعتمد على الواقع الافتراضي.
حاز فيلم ياسمين Zero Days VR في 2017 على جائزة إيمي كما افتتح عروضه في مهرجان صندانس السينمائي المرموق، وهو فيلم تسجيلي بتقنيات الواقع الافتراضي. أما فيلمها التسجيلي الافتراضي Blackout فافتتح عروضه في مهرجان تريبيكا السينمائي 2017. شاركت ياسمين أيضًا في إخراج فيلم تسجيلي افتراضي عن ثورة 2011 بعنوان 18 يومًا في مصر 18 Days In Egypt. مع ذلك لا تعتبر العياط جزءًا من المشهد الفني المصري، لكن أفلامها عرضت في إطار فعاليات مختبر فايوراما، كما تمت استضافتها في جلسة نقاشية مع جمهور المختبر من خلال الإنترنت.
هناك أيضًا مهرجان كايروترونيكا الذي يقدم طيفًا واسعًا من تطبيقات الديجيتال وتقنيات الواقع الافتراضي في العالم من خلال مهرجان دولي في القاهرة بالإضافة إلى مجموعة من الورش التدريبية التي بدأها مؤخرًا. لكن كايروترونيكا بحسب علام، لم ينتج حتى الآن محتوي فني افتراضي مصري، كما أنه معني أكثر بعرض أعمال عالمية على الجمهور المصري.
Blackout Official Trailer from Scatter on Vimeo.
علموا أولادكم الديجيتال
لا يرى علام أن التواصل مع عالم الواقع الافتراضي في مجال الفن رفاهية، بقدر ما هو ضرورة "أهم شركات إنتاج نظارات الواقع الافتراضي في العالم الآن هي فيسبوك التي تعمل على أن يكون الواقع الافتراضي هو البديل المستقبل للشاشات، وهو ما يعني أننا أمام واقع مهول فخلال فترة قصيرة سيصبح الواقع الافتراضي جزءًا من الحياة اليومية للناس في العالم وفي جميع المجالات بما فيها الفنون البصرية والأفلام. إذ لا يتجاوز سعر نظارة الواقع الافتراضي الغير احترافية 100 جنيه مصري".
ويستعير محمد علام نصيحة يقول إنها طالما تتردد على لسان رواد الأعمال في العالم الآن، حيث ينصحون الأسر بالاهتمام بتعليم أبنائهم لغات البرمجة بنفس قدر الاهتمام بالقراءة والكتابة، "هذا الدور أكبر بكثير إمكانات مبادرة بحجم مدرار. سبل المعرفة التقنية متاحة بكثافة على الإنترنت ويمكن للأفراد اكتسابها بشكل فردي. لكن في الوقت نفسه هناك حاجة كبرى لإدراك المؤسسات الكبرى الحكومية والخاصة في مصر لأهمية الانفتاح على لغة المستقبل".
في المقال الذي كتبه تقديمًا للمعرض، يقول المخرج دانيال إرنست إن "الواقع الافتراضي وسيط لا يزال في مهده لكنه سيصبح شيئًا منفردًا في مرحلة ما. سيستغرق ذلك وقتًا ربما سنوات أو حتى عقود والكثير من التجريب من كل مكان وكل شخص"، غير أن الذين صعودا السلم إلى الطابق الثامن في جاردن سيتي، يغمرهم الضوء المنبعث من النوافذ العتيقة، ربما لا يزالون منغمسين منذ ذلك الحين في العوالم التي امتلأ بها المعرض، يخوضون غمار بحار زرقاء عميقة بينما تحيط بهم كائنات أسطورية تتطاير في سماء متداخلة الألوان.