منذ أيام بينما أتصفح أحد مواقع التواصل، وجدت صورة بديعة للحرس الملكي المصري مصحوبة بتعليق يوضح: "الحرس الملكي المصري الذي رفض إطلاق طلقة واحدة بناء على تعليمات الملك، حتى لا يقال أن الملك فاروق قتل شعبه. ورحل بدون دماء".
لا أدري حقيقة إن كان الملك فاروق قد أصدر مثل هذا الأمر، أو مدى صدق رواية تفضيله حفظ دماء المصريين، ولا حتى إن كان ذلك قرارًا تكتيكيًا أو اضطراريًا تحت ضغط "قوة عظمى"، أو حتى رد فعل ملك عاطفي النزعة مصدوم من تصرف أبنائه الذين -على ما يبدو- لم يكونوا محبين بالقدر الذي توقعه.
لكن ما أعلمه وافترض فيك المعرفة به؛ هو أن الذاكرة الشعبية تتعاطف كثيرًا مع اللطفاء والطيبين والحالمين، تتوارث مآثرهم وتردد حكاياتهم، ليس كدليل على مثاليتهم أو نورانيتهم أو نقاء ضمائرهم، بقدر ما هو توثيق غير مباشر لتصور المجتمع عن الفضيلة والطيبة.
بحسب المعجم الجامع فاسم "طيّب" يقصد به: "كل ما خلا من الأذى والخبث. من تخلّى عن الرذائل وتحلّى بالفضائل. طيب القلب أي طاهر البطن. طيب الخُلق أي حَسَن الطبع. والنفس الطيّبة أي الراضية".
على هذا سأبدأ هنا بتعداد بعض أشهر من لُقّب بالطيّب في صفحات التاريخ.
الملك الصالح
في معظم قصص الطيبين، نجد أن شهرة الحاكم الطيب كانت ترد في معرض حكاية مواقف يتجلّى فيها الإيثار أو البساطة. تلك المواقف في ذاتها لم تكن كافية لوضع حاكم ما في قائمة "الطيبين"، لكنها كانت تؤكد فكرة مسبقة عن شخصية الحاكم وسمعته وأعماله، كما حدث مع الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي حكم مصر في القرن الثالث عشر الميلادي، الذي ورث الحكم عن أخيه الملك العادل، والاخير لم يكن له نصيب من لقبه، إذ كرهه الناس لعدم اهتمامه بشؤون البلاد، وكرهه الأمراء لتفضيله مجموعة منتقاه من اصدقائه وعدم استماعه لنصح سواهم في أمور الحكم. عندما وصل الصالح نجم الدين لمصر؛ كانت سمعته كمحارب شهم وكرجل نجيب قد سبقته، إذ حمل نجم الدين السلاح في عمر اثني عشر ربيعًا، وعندما وقع شقاق بينه وبين أخيه العادل بعدما استولى الأخير على حكم مصر رغم أحقية نجم الدين به؛ قبل الصالح نجم الدين وساطة الخليفة العباسي الذي نصحه بمصالحة أخيه والعدول عن الحرب.
وجنى المصريون ثمرة تفاؤلهم بحكمه، إذ أنه شيد القصور والجسور والمساجد، وأهمها المسجد المسمى باسمه وهو لا يزال قائما حتى اليوم. لكن المشهد التاريخي، واللحظة الفارقة التي يُستطاب ذكرها؛ كانت هي يوم دخوله مصر واستلامه لبيت المال والخزانة التي لم تكن تحوي سوى دينار واحد وألف درهم. ما فعله الصالح كان الأمر الأكثر بديهية، لقد دعا أمراء وأكابر البلد واستجوبهم عن الوضع واتهمهم بالتواطؤ لاستنزاف خزينة الدولة، ثم طالبهم بإعادة كل ما أخذوه.
الخليفة عمر بن عبدالعزيز
وعلى الرغم من أن التاريخ العربي لم يحفل بتسمية زعيم أو حاكم بـ"الطيّب" كما في أوروبا، إلا أنه أضفى على الحكام ألقابًا تتصل بذلك المعنى إن استحقوها. فبمقاربة سريعة نجد أن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، أقرب لوصف الطيب، إذ أنه كان متدينًا ورعًا، في حقبة كان التدين فيها معيار للالتزام الاخلاقي، لكنه اهتم كذلك بشؤون الرعية حيث أعاد الأموال لبيت المال الذي تُنفُق أمواله على الرعية. وأمر بالتخلي عن كل مظاهر الأبهة والبذخ التي كانت تحيط بالخلفاء السابقين عليه من أسرة بني أمية، وشاع أنه استغنى عن العبيد والإماء والخدم والخيول والقصور والملابس المذهبة، ويعد هذا انقلابًا واضحًا على تقاليد عصره.
وبالرجوع سريعاً لأعماله حتى قبل توليه للخلافة؛ نجد أنه حتى الأوامر الحربية لخامس الخلفاء الراشدين -كما يلقبه المؤرخون- كانت تعبر عن اتساقه مع نفسه كخليفة مسلم، يسعى لتوسيع قاعدة أتباع فكرته/أيديولجيته/دينه.
وتميز "أبو حفص" عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، المولود في مدينة حلب في القرن السابع الميلادي بالانقلاب على أسلوب أسلافه من بني أمية، فلم يهتم بولاء رجال الدولة لشخصه قدر اهتمامه بحسن تنفيذهم لمهامهم، وممارساتهم إزاء الرعية. فعزل جميع الولاة الظالمين كأسامة بن زيد التنوخي في مصر، ويزيد بن أبي مسلم. بل إنه عاقب من والوا الظالمين كالحراس والسيّافين. وأحدث إصلاحات واسعة جعلت إيرادات بلاد فارس مثلاً تزداد من 28 مليون درهم لـ124 مليون درهم. وتعهد بالأشغال العامة فبنى القنوات والطرق والاستراحات للمسافرين والمستوصفات الطبية.
داجوبير الأول
هناك أغنية شعبية ساخرة من التراث الفرنسي تعود للقرن الثامن عشر، حقبة الثورة الفرنسية، أما الشخصية الرئيسة للأغنية فتعود لحقبة أقدم بكثير: الملك داجوبير الأول الميروفنجيني، الذي حكم المملكة الفرنسية في القرن السابع الميلادي.
بحسب الأغنية فالملك "الطيب داجوبير" كما تصفه الأغنية شارد الذهن لدرجة أنه يرتدي بنطاله بالمقلوب. وعندما ينبهه لذلك مستشاره الأول النبيل "سان إلوا"، يعدِّل الملك بنطاله مازحًا أو هازئًا. وهكذا تمتد الأغنية عبر 24 مقطع تسخر من جوارب الملك المثقوبة أو جلده المتسخ. قد تبدو الأغنية الآن، في عصرنا هذا، نوعًا من الترفيه المسلي الشعبي؛ لكن في القرن الثامن عشر كانت هذه الأغنية وغيرها تمثل نقدًا سياسيًا لاذعًا للملكية والوصاية الدينية في حقبة ثورية ترفض تأليه الحكام والاصطفاء الإلهي لهم على حساب الشعب. أغنية تستعير شهرة ملك قديم لتسخر من منظومة حالية. ورغم لغة الأغنية اللاذعة؛ إلا أن ما يثير التساؤل: هو وصف الملك داجوبير بالطيب. كيف لك أن تستعمل أغنية ثورية ضد الملكية بينما تسترجع ذكرى ملك طيب؟
يفسر البعض ذلك بأن الملك داجوبير الأول كان ملكًا طيبًا بالفعل، ولكن الطيبة هنا مقصود بها السذاجة، حيث تتواتر حكايات عن أنه كان رجلاً شارد الذهن، يتعثر بسجاجيد قصره ويحدث أن يرتدي ملابسه بالمقلوب كما كتب المؤرخ ولفرام دو ستراسبورج من القرن الثامن الميلادي.
لكن؛ بخلاف الصورة التي رسمها دو ستراسبورج عن الملك داجوبير؛ فإن الحقائق التاريخية ترسم لنا صورة أخرى تماما، فما يبدو من قلة تركيز داجوبير في تعيين موضع قدميه في ردهات قصره؛ لم تمنعه من التمكن من حكمه وتثبيته. فهذا الملك وصل لعرشه بعد فترة من الاقتتال الدموي بين أبناء سلفه الملك كلوفيس الأول، أول ملوك فرنسا، واستطاع استكمال محاولات أبيه كلوتير الثاني لتوحيد المملكة وتوسعتها، فكان له ذلك. كما أنه هو من اختار باريس عاصمة للفرنسيين، مما ترك له في الخيال الشعبي صورة "الملك المؤسس" وموحِّد الأرض.
هناك تفسير آخر لتوصيفه بالطيّب و هو أصل اسمه في اللغة الجاليِّة (أحد جذور الفرنسية). حيث يعني القسم الأول من اسمه "داجو": الطيب أو الجيد. كذلك كان الملك داجوبير قياسًا بمعايير عصره ملكاً جيدًا وعادلاً، تمتع بقدرة على إدارة الأمور بحنكة، واستطاع تنظيم الأمور المالية للمملكة وجعلها أكثر عدالة، وأجبر النبلاء على إحقاق الحق وكافأ من كان منهم نزيهًا. كان داجوبير طيّبًا لأنه كان عمل على إبقاء مملكته موحدة، منظمة وعادلة.
القديس وينسسلاس دوق بوهيميا
احتاج الفرنسيون الثائرون لاستعمال بطل تاريخي لمواجهة الوصاية الدينية والأبوية للملكية والكنيسة الكاثوليكية، لكن الإنجليز على ما يبدو؛ لم يحتاجوا للعودة لتاريخ موغل في القدم، إذ ان أشهر ملك طيب في الذاكرة الشعبية الإنجليزية لم يكن إنجليزيًا البتة برغم أن ذكراه لا تزال تتردد كل عام في حناجر المحتفلين بالميلاد. إنه القديس وينسسلاس الأول دوق بوهيميا الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، وهو الشفيع "القديس" الوطني لجمهورية التشيك.
تقول كلمات الأغنية التي وضعها الكاتب جون ماسون نايل في القرن التاسع عشر معتمدًا على لحن قديم يعود للقرن الثالث عشر، أن الملك الطيب وينسسلاس كان يستعد للعيد، عندما لمح مزارعًا فقيرًا، فسأل عنه وعلم أنه يعيش قرب الجبل على حافة غابة، فما كان من الملك إلا أن قرر الذهاب لبيت المزارع الفقير ليتقاسم معه وليمة العيد. خرج ماشيًا في ليلة عاصفة مثلجة وحين تراجع مساعده، حثه الدوق على تتبع خطاه على مهل، وتقدمه نحو أطراف الغابة.
في قراءة سريعة لسيرة القديس وينسسلاس؛ نجد أن قصته كانت سيرة مثالية عن الفاضلين والمتعبدين.
ولد هذا الأمير في عصر كانت فيه الوثنية لا تزال منتشرة في أوروبا، أمه نفسها كانت أميرة وثنية. لكنه كان متعبدًا منذ طفولته، وعندما استلم مقاليد الحكم؛ عمل كل ما بوسعه لإنقاذ إمارته من شبح الحرب التي كانت تهيمن على المنطقة، حتى ولو كان ذلك على حساب فدية عينية وقد كان ذلك أمرًا نادرًا في ذلك العصر. لكن طيبة وينسسلاس لم تقف عند ورعه الديني وسلميته، بل تعدتها لتحقيق عملية إصلاح واسعة في إمارته، وإدخال تغييرات مهمة في النظام القضائي، حيث قلل من اللجوء لعقوبات الإعدام والتعذيب، وكان هذا تحركًا ثوريًا في تلك الحقبة.
لكن شعبيته كحاكم طيب يكره العداوات والمبارزات، يساعد البائسين ويُحسِن للأرامل والأيتام لم تشفع له عند شقيقه الذي استدرجه في احتفال ديني وقتله ليسلبه الحكم. وهكذا تحول وينسلاس لشهيد مسيحي واعتُمد كقديس في بوهيميا وانجلترا، ونُسجَت حوله القصص الشعبية التي تعدد فضائله وخصاله.
وبالرغم من صعوبة تحديد ما إذا كانت الحكاية المروية في الأغنية صحيحة أم لا، يذكر أن المشي في الصقيع والجليد كان واحدًا من الممارسات التعبدية الشهيرة في القرون الوسطى. وتعطي تلك الأغنية فكرة واضحة عن الصفات المثالية للحاكم الطيب في تلك العصور.
في القرون اللاحقة طرأ تغيير على الأسباب الداعية لاعتبار ملكًا ما "طيبًا". فلم يعد الأمر مقتصرًا على لطافة الطبع أو الورع الديني والحس الإنساني؛ بل أصبحت المعايير تعتمد على تحقيق الانتعاش الاقتصادي أو الزعامة القومية، ولدينا هنا مثالين: الملك ريناتو الأول ملك نابولي في القرن الخامس عشر، الذي حلّ الرخاء في عهده بعد أزمات عاصفة سببها الطاعون الأسود والأثار المدمرة لحرب المئة عام. وفيليب الطيب، أو فيليب الثالث حاكم هولندا البورجندية في القرن الخامس عشر، الذي اكتسب تسميته على ما يبدو بسبب مسامحته السريعة وتعلقه بالحياة ومتعها وفنونها، وكذلك لعداوته الشديدة للمد التركي، وهو الأمر الذي كان يجعل أي زعيم يبدو كبطل القومي.
البابا الطيب
في العصر الحديث، وبعد ذبول النزعة القومية في أوروبا وانحسار السيطرة على المستعمرات، وما تلاهما من إنهاك اقتصادي وفكري بسبب حربين عالميتين، ظهر أنجلو جونكايي الكاهن الإيطالي بمظهره الريفي البسيط وابتسامته الطفولية وروحه الودودة؛ وبدا ملاذًا هادئًا للهروب من أثار الكابوس الفاشيستي الذي أنهك إيطاليا بأحلام الزعامة والاستعلاء على الآخر. قُدّر لهذا الرجل البسيط ابن المزارع الأجير القادم من مدينة صغيرة في شمال إيطاليا، أن يصل لأعلى رتبة دينية في أوروبا. أنجلو الذي اتخذ اسم يوحنا الثالث والعشرين بعد رسامته بابا للكنيسة الكاثوليكية؛ كان ينتظر أن يكون مجرد بابا لمرحلة انتقالية، بعد فترة حكم طويلة للبابا بندكيت الثاني عشر. لكن يوحنا الثالث والعشرين بهدوئه وبساطته وإصراره، ترك في تلك الفترة أثرا لازال صداه يتردد حتى اليوم.
لقد قام هذا الرجل الذي قضى أقصر مدة بابوية في القرن العشرين، بإدخال إصلاحات على المنظومة الدينية المتزمتة. وكان يستمد قوته من الرعية، عقد البابا يوحنا الثالث والعشرين اجتماعًا طارئًا دعا إليه كل أساقفة العالم الكاثوليك، وعشية الاجتماع؛ خرج للشرفة وخطب في الناس المجتمعة تحت ضوء القمر، يحدثهم عن عزمه إجراء إصلاحات مهمة قائلاً: "أتوجه لكم كأخ". بعد تلك الجملة؛ صنع البابا يوحنا أكثر المشاهد رومانسية في تاريخ البابوية، عندما ذهب لسجن روما الكبير، والتقى بالمساجين، في مخالفة صريحة للتقاليد البابوية: "ليس بإمكانكم أن تأتوا إليّ، لذلك جئت أنا إليكم".
بفضله لم يعد الأساقفة يتلون الصلاة باللاتينية القديمة، بل باللغات الحية. وعندما حدثت أزمة الصواريخ التي هددت بحرب نووية عالمية (1962)؛ قدم خطابًا للتصالح بين القوتين العظميين. وعند وفاته بسبب إصابته بسرطان المعدة؛ لم يترك لإخوته سوى ميراثًا ضئيلاً يعادل عشرين دولارًا.
لا يتحدد تعريف "الشخص الطيّب" بتقلده أخلاقًا مسالمة فحسب؛ بل تنعكس الطيبة في اتساق تصرفاته مع رؤيته لما يجب أن تكون عليه الأمور. وهو بالتحديد ما يميز الحكام المشهورين بالطيبة، الذين انقلبوا على تقاليد من سبقوهم، ورفضوا ممارسات باذخة تهدف لتمييزهم عن الرعية، أو قاموا بإصلاحات واسعة، أو رفضوا الدخول في نزاعات دموية لا طائل منها سوى البحث عن زعامة واهية. أو بادروا لاستصدار قوانين أقل عنفا وأكثر تسامحًا.
وبقدر ما يتم اتهام الرعية بالجهل وعدم إدراك حقيقة الأوضاع؛ بقدر ما يثبت التاريخ الشعبي أن الناس يستطيعون التفريق جيدًا ولو بعد حين بين من يحمل رؤية إنسانية للمجتمع، ومن يستعمل المجتمع وثرواته لنزواته في التسلط والهيمنة.