عبد الوهاب الأسواني (1934 - 2019) روائي وقاص، خصب الموهبة، استطاع لفت أنظار الكبار في الحركة الثقافية في سنوات الستينيات والسبعينيات، مثل نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف السباعي، وكانت أولى رواياته سلمى الأسوانية بمثابة فتح أدبي وثقافي وسياسي، لأنها عرَّفت أدباء ومثقفي مصر والوطن العربي بطبيعة "أسوان العربية"، بعد أن اهتم العالم المتحضر والهيئات الدولية بأسوان "النوبية"، بالتزامن مع تحويل مجرى نهر النيل وبناء السد العالي، وتهجير أهالي النوبة من قراهم القديمة الواقعة خلف السد، إلى منطقة وادي كوم أمبو، واهتمام منظمة اليونسكو وإشرافها على نقل الآثار الغارقة من موقعها الأصلي.
وفي تلك الحقبة لم تكن "أسوان العربية" وجماعات "الغجر" و"المساليب" التي تعيش في ذات النطاق الجغرافي، معروفة للمشتغلين بالإبداع وإنتاج الأفكار، وكان الناس لا يعرفون عنها غير أنها تقع على طريق تجارى يربط بين مصر والسودان، وأنها مصدر الإبل والبلح.
سلمى الأسوانية
جاءت سلمى الأسوانية لتقدم عوالم القبائل العربية، مثل الجعافرة والأنصار، التي تعيش في دراو وإدفو وكوم أمبو. وعبد الوهاب الأسواني ينتمى إلى قبيلة الخزرج الأنصارية، التي تعيش في جزيرة المنصورية في قلب النيل، وكانت تتبع دراو إداريًا، ثم انتقلت تبعيتها إلى مركز كوم أمبو، واحتوت الرواية عناصر الفولكلور العربي الصحراوي المختلط بالفولكلور السوداني والنوبي، مع الوضع في الاعتبار أن هذه القبائل العربية، حريصة على التمسك بثقافتها العربية المعبَّر عنها بعشق الفروسية، وقول الشعر الشفاهي، والتضامن القبلي وتوفير الأمن الاجتماعي للمنتمين للقبيلة.
وطرحت الرواية قضية الصراع بين التقدم والتخلف، التي كانت تشغل السلطة الناصرية والتحالف الطبقي الحاكم "العمال والفلاحون والرأسمالية الوطنية والجنود"، فكان ذلك التحالف الحاكم يسعى لتحقيق نهضة صناعية، تجعل الفرد حرًا متمتعًا بعوائد عَرقه وعمله، وتخرجه من سطوة التراتب الاجتماعي الذي كان سائدًا في الحقبة الملكية (ثنائية الفلاح والإقطاعي).
وطرحت الرواية تلك القضية من خلال قصة الراوي مصطفي، الشاب المتعلم المثقف المقيم في مدينة الإسكندرية، الذي انتقل بعيدًا عن القبيلة في أسوان منذ طفولته، بقرار من والده بعد وقوع معركة بين قبيلته وأخرى معادية لها، فخاف أبوه عليه فأوفده إلى الإسكندرية وأقام عند صديق لأبيه، فارتقى ثقافيًا ومعرفيًا، ثم وقع حادث كبير مزلزل للقبيلة، وهو طلاق سلمى، ابنة عم مصطفي في اليوم التالي لزفافها يوم الصباحية، فانتشر الخبر، ونهش الناس عرضَها وعرضَ القبيلة، وصارت حكايتها خبرًا يتناقله العربان في النجوع كلها، فما كان من والد مصطفي غير استدعاء ولده، وتكليفه بالزواج الفوري من سلمى ابنة عمه، إنقاذًا لشرفها وشرف القبيلة.
حضر مصطفي إلى القرية، وجرى الحوار بينه وبين أهله ورفض، الشاب المثقف، القيام بهذه المهمة القبلية، لأنه كان في حياته الإسكندرية، التقى نادية المثقفة التي تشاهد عروض المسرح وتسمع الموسيقى وتهتم بالشعر والرواية، وبينها وبين مصطفي قصة حب، وتفجرت المعركة بين المثقف القادم من الشمال المتقدم والقبيلة التي تنام على تراث قديم، وهنا قدم، الكاتب عبدالوهاب الأسواني، التفاصيل التي تشكل مجتمع الرواية، والتي من أهمها أنماط التكافل القبلي، واتحاد القبيلة في تنظيم واحد جامع، مقره الخيمة، وهو اسم قديم مشتق من تراث البداوة، ويطلق على دار المناسبات التي تجتمع فيها القبيلة وتحتفل بأفراحها وتستقبل ضيوفها وتقيم شعائر الحزن على موتاها، وكذلك الاحتفال بمولد الجد الأعلى ولي الله الشيخ عامر، وهو الولي الذي لا يستطيع شاب مقبل على الزواج إتمام حفل زفافه من دون زيارته ضمن وفد يضم أبناء قبيلته وتقديم هدية له، على هيئة قمح وشموع توقد في المقام الخاص به.
وظهرت خصائص المجتمع البدوي الكامنة، ومن أهمها تقديم الذكر على الأنثى وإخضاعها له، فهو يحميها، ويهبها مفاتيح أنوثتها، وشرفها معلق بشرفه، ولو انحرفت عن السياق الاجتماعي المرسوم لها، ضاعت هيبة القبيلة التي تنتمى إليها ولو عابت فالقتل هو مصيرها المحتوم، ومن ضمن المشاهد الدالة التي طرحتها الرواية، مشهد طرد والدة مصطفي من بيت الأسرة، إمعانًا في الضغط النفسي على الشاب الرافض تحقيق مطلب الوالد المتمثل في الزواج من سلمى المطلقة، وخضوع كل النساء في مجتمع الرواية لمشيئة الرجال، حماة الأعراض، والفرسان الأماجد.
ومن المهم هنا القول إن رواية سلمى الأسوانية فازت بالجائزة الأولى ضمن مسابقة، على المستوى العربي، نظمتها وزارة الثقافة، وكانت لجنة التحكيم مشكلة من يحيى حقي ودكتور حسين فوزي ودكتورة سهير القلماوي، ووقعت بين أعضاء اللجنة أزمة فكرية بسبب موضوع هذه الرواية، فالكاتب يحيى حقي دافع عنها واعتبرها رواية كاشفة معبرة عن ثقافة مصرية مجهولة، والدكتور حسين فوزي اعتبرها رواية متخلفة تعبر عن مجتمع بدوي، وهو المثقف الذي تشاركه حياته زوجة أوربية، وله عقيدة تقوم على تقديس كل ما هو فرعوني وقبطي واعتبار العرب غزاة حطموا ما تبقى من كرامة مصر وثقافتها بعد أن أنهك الرومان أهلها بالقتل والسطو على خيرات بلادهم.
أما الدكتورة سهير القلماوي، فانحازت للرواية، وهي التي حصلت على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية بجامعة فؤاد الأول تحت رعاية أستاذها دكتور طه حسين وكان موضوعها يتناول ألف ليلة وليلة، الكتاب الأشهر في الثقافة العربية، وكانت، دكتورة سهير، تشغل موقع رئيس هيئة الكتاب، فأصدرت قرارها بطباعة سلمى الأسوانية دون التقيد بخطة النشر المعدة سلفًا، وقرأ نجيب محفوظ الرواية، وأعجبته واندهش لتفاصيل عالمها والمجتمع الذي تقدمه، وتحمس صلاح أبوسيف والسيناريست محسن زايد فقررا تحويلها إلى فيلم سينمائي، وبالفعل سافرا ومعهما كاتب الرواية إلى قرية المنصورية وعاينا المواقع والناس، ولأسباب إنتاجية لم يستكمل المشروع، لكن الإذاعة المصرية جعلتها في حلقات إذاعية مسلسلة، لاقت نجاحًا جماهيريًا.
حلقات سلمى الأسوانية الإذاعية
لكن ما يهمنا، من الوجهة الإبداعية، أن رواية سلمى الأسوانية كانت خريطة عمل أو رسم كروكي لعالم عبد الوهاب الأسواني الروائي، وفي رواياته التالية اللسان المر، أخبار الدراويش، كرم العنب، النمل الأبيض واصل ما بدأه، فقدم تفاصيل ذلك العالم الخصب، وكانت الموضوعات الأكثر وضوحًا فيه هي العلاقة الجدلية بين المرأة والقبيلة وحلم الثورة، وفي رواياته كانت رؤاه تنضج، وحرفيته الكتابية تزداد دقة وتقدما، الأمر الذي جعله محل تقدير نجيب محفوظ و يحيى حقي، رغم التناقض بين أسلوبيهما الإبداعي، لكنهما اتفقا على محبة وتقدير منجزه، فالكاتب يحيى حقي لا يتقيد باللغة الفصحى، ونجيب محفوظ لم يستخدم كلمة عامية واحدة، في كل رواياته وقصصه.
وعبد الوهاب الأسواني التزم منهج يحيى حقي فقدم الثقافة الشعبية في أسوان العربية، من عادات ومعتقدات وثقافة مادية وأدب وموسيقى ورقص شعبي، هذا من حيث الجوهر أو الموضوع، والتزم بالعربية الفصحى كما التزم بها أستاذه محفوظ، وبذلك يكون جمع بين الرائدين واحتفظ بخصوصية عالمه الروائي المختلف، عن بقية العوالم التي كانت مطروحة من خلال تجارب مجايليه البارزين عبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبد الله وخيرى شلبي وغيرهم.
شمروخ صاحب اللسان المر
وفي روايته القصيرة اللسان المرُّ تمثيل صادق لما ذكرناه بخصوص القبيلة والمرأة والثورة، والبطل في هذه الرواية، رجل اسمه شمروخ، والشمروخ هو من الأسماء التي يطلقها العربان في مجتمع الرواية على العصا، والعصا، أداة العربي التي لا يستغنى عنها، والجاحظ له مقالة عن العصا التي سخر منها غير العرب في عصره، واعتبروها مدعاة للنيل من العربي، ومازالت العصا من ضمن أدوات العرب في الصعيد، وشمروخ هو عصا القبيلة في رواية اللسان المر، فهو تاجر غنى تجارته في البلح والإبل، ويعشق القبيلة ويزهو بلقب شيخ العرب، ولديه خصائص شيخ القبيلة من حيث العطف على الفقراء والدفاع عن تاريخ القبيلة لكنه جارح القول في العتاب والعراك والتذكير بالخطايا فأطلق عليه الناس لقب صاحب اللسان المر، وحدث، في الرواية، أن عشقت الفتاة بتول المنتمية لقبيلة شمروخ، الفتى معوض المنتمي لقبيلة أخرى في النجع ذاته، وحدث أن ذهبا، العاشق والعاشقة، للمشاركة في احتفال القبائل بليلة مولد الشيخ عامر، وهنا نترك عبدالوهاب الأسواني ليرسم لنا ما كان:
شق معوض الزحام إلى أن وصل إلى الدرب الذي يقع شرق مقام الشيخ عامر.. الصحراء الواسعة أمام المقام امتلأت بفرسان القرى، يتسابقون بخيولهم، تجمعات كثيرة تناثرت في الصحراء، بعضهم يقيم مولدًا تقرأ فيه مدائح الرسول، وبعضها حلقات ذكر، وبعضها حلقات للشباب يغنون ويرقصون، وعشرات الشوادر والخيام وعشش البوص امتلأت بالحمص والحلوى والفول السوداني، وفي أقصى الزحام، في عمق الصحراء، أقام الخدم الرقيق السابق خيامهم لبيع البوظة والخمور الرخيصة.
وبعد هذا الرسم لمسرح الأحداث، ينقلنا الكاتب إلى تفاصيل الحدث المركزي، فيخبرنا أن معوض وبتول أصبحا في بيت امرأة تسمى كهرمان، كانت عبدة وتحررت، وكانت تخدم في بيت أسرة معوض:
جلست كهرمان على البرش عند أقدامهما، تعب من الإناء، وتبتسم في وجهيهما في ضراعة، وقامت بصعوبة، وملأت الإناء من جديد، وعند عودتها لمحت يد معوض تحيط بكتف بتول، لكنها رأتهما يفزعان عند رؤيتها.. جلست كهرمان تشرب في شراهة، وتوجه إليهما نظرات مشحونة بحنان غريب، ملأت الإناء لمعوض، فهز رأسه رافضًا، فقالت ضارعة:
- وحياة الله يا حبيب..
شرب معوض، حتى احمرت عيناه، وأشارت كهرمانا إلى باب حجرة قائلة:
- إجلسا فيها يا عمدة
نظر إليها في دهشة فقالت متوسلة:
- إعمل معروف يا حبيب. إن كان لي خاطر عندك يا عمدة، هي خطيبتك وأنت خطيبها..
ووقع معوض وبتول في المحظور، وفقدت بتول غشاء بكارتها، وتاج عفتها، وراحت السكرة وجاءت الفكرة، وانقلب الفرح إلى غم وحزن ورعب من القادم، وعاد العاشقان إلى النجع، يحملان عارهما، ولمن لا يعرف معنى كارثة فقدان البكارة، نقول له إن هذه الكارثة، تمثل القتل المعنوي لأسرة الفتاة "الخاطية"، والقبيلة لا ترضى عن أسرتها إلا بتقديمها قربانًا، لشرف القبيلة الضائع، بل إن قتل "الخاطية" لا يكون بالسلاح الناري، بل بالسكين، كما تذبح الشاة، إيغالًا في تحقيرها، ومنعا لها من العزة، وزيادة في الكتمان، فالقتل بالسكين لا يحدث جلبة، كالقتل بالبندقية، ثم يتصالح المجتمع مع القبيلة التي شهدت هذه الكارثة، عقب قتل العايبة أو الخاطية ولأن بتول تعرف هذا كله، عاشت أياما حزينة ذابلة هي إلى الموت أقرب منها إلى الحياة:
بتول، تحولت إلى بلهاء، مخلوق ذاهل، ثلاثة أيام قضتها لا تخرج من البيت، تجلس في حجرة داخلية، وجهها للجدار، لإطعام ولا شراب، خلال الأيام الثلاثة، أمها تجلس بالقرب منها تبكي في صمت، ولا تشرب غير الماء، وأطفالها الخمسة ينظرون إليها في دهشة، وفي صباح اليوم الرابع، أمالتها على صدرها وفتحت فمها بالقوة وسكبت فيه كوبا من الشاي باللبن وأخرجتها إلى فناء البيت.
وكان والد بتول من البخلاء الذين لا يقام لهم وزن معنوي في القبيلة، ولجأت أم بتول لحامي زمام القبيلة شمروخ صاحب اللسان المر، فعمل عمله ووضع خطة إنقاذ، متخطيًا الأعراف الطبيعية، واضعًا هدفًا وحيدًا أمام عينيه، وهو إنقاذ شرف القبيلة، وجمع بين معوض العاشق، والمأذون والشهود، وأرسل رسوله إلى إسنا التابعة لمحافظة قنا وأحضر الفرقة الموسيقية والغوازي، وخطف والد بتول الذي كان معارضًا الزواج، ولم يكن يدرك أبعاد الكارثة التي حلت بابنته بتول.
كان محمد السوالمي، والد بتول، يقضى حاجته في الخلاء عندما فوجئ بكف غليظة تمتد من خلفه لتغلق فمه، تبين في الظلام ملامح شمروخ الغاضبة، تنظر إليه في قسوة، ويد تطبق على فمه، ويد أخرى تدور حول فخذيه، وهو مكور في صدر الرجل، يسير به في الظلام كأنه طفل في حضن أمه، فوجئ بنفسه يُسحق على الأرض في قسوة، وتنهال عليه اللكمات، ويوثق في عمامته، ويربط بجزء فصل عنها، ثم فتح عينيه بصعوبة شديدة، بعد وقت لا يدريه، ليجد نفسه في إحدى حجرات بيت شمروخ الداخلية وفوقه تقف زوجته الوسطى، وفي يدها مصباح غازي، وصوت شمروخ يهدر لها:
- طلاق ثلاثة.. لو عرف أحد، أضربك بالرصاص!
وأنقذ شمروخ سمعة وشرف القبيلة، ونجحت خطته، لكنه انتهى به الأمر إلى السجن، عقب موت محمد السوالمي، والد بتول، في بيته متأثرا بما جرى له من الخطف والترويع والإهانة، وفرحت القبيلة بالزعيم المنقذ، وعاشت مرفوعة الرأس بين القبائل، وفي هذه الرواية قصد، عبدالوهاب الأسواني، إظهار فكرة الاستبداد، التي تجعل الفرد مجرد أداة، لتحقيق حلم قومي، وكانت تلك الفكرة ردًا على ظاهرة الزعماء العسكريين الذين خرجوا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية في المنطقة العربية، رافعين رايات الأحلام القومية عبد الناصر وعبد الكريم قاسم ومعمر القذافي وجعفر نميري، وفشلوا في تحقيق هذه الأحلام لأنهم كانوا مستبدين، يمثلون امتدادًا للسابقين ستالين وهتلر وموسوليني.
ورواية اللسان المر صدرت عن دار المعارف القاهرية، ومعها رواية أخرى قصيرة اسمها ابتسامة غير مفهومة، وأعجبت المخرجة علوية زكي باللسان المر، فخاطبت عبد الوهاب الأسواني لتحويلها إلى مسلسل تليفزيوني، وبالفعل أعد، الكاتب، السيناريو، وقام ببطولتها أحمد زكي ومديحة حمدي وأحمد أباظة وزوزو نبيل، وكانت تلك الحلقات أولى بطولات أحمد زكي التليفزيونية، وغنى تتر المقدمة المطرب محمد منير وكانت تلك أولى أغنياته التليفزيونية، وأذيع المسلسل في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، ولقي نجاحًا جماهيريًا واسعًا.
مسلسل اللسان المر
"النمل الأبيض" ضد الانفتاح الساداتي
رواية النمل الأبيض تمثل طفرة في أسلوب عبد الوهاب الأسواني، من حيث معاودة النظر في مجتمعه القبائلي ورصد تطوره الاقتصادي والاجتماعي، ومن حيث البناء أو الأسلوب، فهو أقام مقابلة تاريخية بين لحظتين تاريخيتين، مفصليتين في التاريخ العربي، اللحظة الأولى، لحظة هزيمة الإسلام الثوري الذي تبناه بنو هاشم وعلي بن أبي طالب وأولاده، الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية ونسلهم، وانتصار الإسلام الأموي، الذي تبناه عثمان بن عفان ومعاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص.
وكانت ذروة الصراع بين النموذجين، في مقتل عثمان بن عفان في المدينة المنورة على أيدى الثوار القادمين من الحجاز والشام والعراق ومصر، ثم مذبحة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن على ومعه سبعون من آل البيت النبوي، ومطاردة شيعة علي في الأمصار العربية والإسلامية عمومًا، أما اللحظة الثانية فهي لحظة موت عبد الناصر المفاجئ في 28 سبتمبر/ أيلول 1970، وتولي السادات حكم مصر، ثم تمكنه من الانفراد بالسلطة، بعد قضائه على رجال عبد الناصر في 15 مايو/ أيار 1971.
وما استتبع ذلك من خطوات أخرى، منها البدء بالعفو عن الإخوان المسلمين وإخراجهم من السجون واتخاذ شعار العِلم والإيمان بديلًا لشعار "حرية، اشتراكية، وحدة"، والاندماج في منظومة الرأسمالية العالمية، ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ومحاربة الاشتراكية وفتح البلاد أمام الفكر الوهابي، وهذا كله أطلق عليه المتخصصون في العلوم السياسية اسم "الثورة المضادة".
جعل الأسواني، في روايته، اللحظة القريبة هي الحاضرة، من خلال توفيق بك الثري، المنتسب إلى قبيلة خائنة، قبلت التعاون مع الجيش البريطاني في قمع الثورة المهدية التي اندلعت في السودان، ونالت المكانة الأدبية والثروة الضخمة ثمنًا لهذه الخيانة، وتوفيق بك كان هو الرمز لعصر الانفتاح الاقتصادي الساداتي، فأصبح المهيمن على الناس، بما له من نفوذ لدى الحكومة، وأموال يشترى بها الفقراء والطامعين، لكي يحقق أهدافه، وكان له ولد مرض مرضًا أعيا الأطباء، وعرف سبب مرضه، إذ كان الولد يحب الجازية المعلمة في المدرسة الابتدائية، المتزوجة من عامر المدرس في المدرسة ذاتها، ولأن توفيق بك يرغب في شفاء ولده من مرضه، عرض على عامر أن يطلق الجازية، وبالطبع رفض عامر، ولجأ توفيق بك لأسلوب البيع والشراء، واستغل التطلع الطبقي لدى الجازية وأسرتها، فحاصر عامر بأقاربه والإغراء بالمال، فأوجد له وظيفة محصل فواتير في محل لبيع السلع المعمرة في البندر، يديره واحد من أتباع توفيق بك، وطلبت الجازية الطلاق، وحقق توفيق بك هدفه.
في الوقت ذاته كان النمل الأبيض يعشِّش في بيت عامر، وهو حشرة ضارة قادرة على تقويض البنيان والتهام الأعمدة الخشبية، والنمل هنا، رمز للثورة المضادة، وتمكن من القضاء على بيت عامر، المُعلم المحدود الدخل، ولم يكن من سبيل سوى إشعال النار، بهدف إحراق أعشاش النمل الأبيض، أو بصيغة أخرى، إعلان الثورة، حتى القضاء على الثورة المضادة وتطهير البيت/ المجتمع من الآفة، أو عناصر الثورة المضادة، وعلى امتداد صفحات الرواية كانت المقابلة بين اللحظة القديمة والمعاشة تتم عبر حيلة فنية، تمثلت في طفل يقرأ لجده الشيخ من كتاب يؤرخ لعصر الصراع بين علي ومعاوية، أو الإسلام الثوري والإسلام الأموي.
ولم تغب المرأة والقبيلة، فالجازية المعلمة، هي امتداد الجازية الهلالية التي كان لها الرأي والمشورة في بني هلال في زمن الانتصارات والفتوحات، ولكن في زمن الهزائم، أصبحت الجازية سلعة تُباع وتُشترى، والرمزية هنا مقصودة من جانب الكاتب الشديد الوعي والولع بالتاريخ، ومفاصله ولحظاته الفارقة.
عرابي ورجاله في "كرم العنب"
في ستينيات القرن الماضي، أوصى يحيى حقي المبدعين الشبان، ومن بينهم تلميذه المقرَّب عبد الوهاب الأسواني بضرورة تعلم اللغات الأجنبية، ليتمكنوا من قراءة الأعمال الأدبية بلغاتها الأصلية، دون تدخل من جانب المترجمين، وأوصى بضرورة التعمق في دراسة التاريخ، خاصة الحقبة الحديثة التي تبدأ بقدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، ووعى الأسواني الدرس، وتعمق في دراسة التاريخ، لكنه لم يتمكن من تعلم اللغات الأجنبية، وظهر ولعه بالتاريخ في رواياته وقصصه، وروايته كرم العنب احتوت خلاصة هذه التجربة الطويلة مع التاريخ الحديث والمعاصر، إذ قدَّم فيها ما عاشه أهالي قرية كرم العنب المتخيَّلة، من تحولات عقب هزيمة الثورة العرابية، 1882، والاحتلال الإنجليزي لمصر، وانتخاب قبائل وعائلات موالية للاحتلال ومنحها السلطة المحلية والأطيان الزراعية، وتشريد القبائل التي كانت داعمة للثورة العرابية، ومن هذه التحولات تعيين العمدة من بين أفراد قبيلة البواهي العميلة لبريطانيا، واستبعاد قبيلة العواصم الوطنية المنحازة للزعيم الوطني عرابي، وتحالف البواهي مع قبائل أخرى في القرى المجاورة، بهدف تثبيت مركزها الأدبي، حتى تولى رشوان الباهي منصب العمدة.
وهنا تطل وضعية الأعراق المختلفة في كرم العنب وتلقي بظلالها على حيوات الناس، فالعمدة رشوان أمه كانت تعمل في خدمة بيوت البواهي ووقع عليها والد رشوان واغتصبها، وحملت منه بالولد، ورفض الاعتراف به، لكن كبار القبيلة ذكروه بمقولات دينية وتراثية، فاعترف بها زوجة مضطرًا، ونكاية فيها أطلق على ولدها اسم رشوان، وهو ذات اسم الشحاذ المسلوب المنتمي لطائفة المساليب، فظل الناس يعيرون العمدة باسمه وأمه غزالة، ورغم أن رشوان معتل النسب من جهة والدته، لكنه المهيمن على المكان بما له من ثروة ورثها عن أبيه، وما جمعه من خلال فساد إداري سمح له بشراء أطيان المزادات الحكومية بأثمان رخيصة، وكون جبهة تحميه من غضب أهالي كرم العنب.
لكن الجبهة الوطنية المشكلة من جماعات الطلبة المتعلمين وأفراد قبيلة العواصم الوطنية، كانت تضع العمدة في حرج مع الاحتلال البريطاني وممثلي حكومات الأقليات، وفي لحظة اكتملت شروط التفكير في الثورة على الاحتلال وأعوانه، وقرر الوطنيون تشكيل حزب ثوري، استطاع التواصل مع الجماهير، وتحول إلى شوكة في حلوق قبيلة البواهي وحلفائهم، ورغم القبض على بعض مؤسسي هذا الحزب، غير أن الجماهير الغاضبة لم ترض سوى بإطلاق سراحهم، وهنا يرسم، عبد الوهاب الأسواني، المشهد الرمزي الختامي في روايته كرم العنب التي تجاوزت صفحاتها الخمسمائة صفحة من القطع الكبير، قاصدًا القول إن الثورة التي تستطيع النهوض بالمجتمع والخروج به من دائرة الفقر والتخلف، لن تنجح بغير حزب ثوري تمنحه الجماهير ثقتها عن قناعة وإدراك واستعداد للتضحية.
أوعزت إلى عمى الشيخ علوان، أن يستفسر منهم، فصاح بصوته الذي خالطته رعشة الشيخوخة:
- ما الحكاية يا شيخ أيوب؟
* كل خير يا شيخ علوان
- لماذا قبضوا على الأولاد؟
* الحكومة تزعم بأن حزبهم فيه ما يخالف قوانين البلاد وتقاليدها.
ويقدم الكاتب صورة التفاف أهالي نجع المقاليع، وهم قوم صيادون فقراء، يقتاتون من صيد السمك بالقوارب الصغيرة في نهر النيل، وراء قادة الحزب المعتقلين:
نزلنا في مركب شراعي، وحين وصل بنا إلى منتصف النهر، رأينا جموعًا كثيفة من كل نجوع بلدنا تهبط من أعلى الجرف وتنزل في المراكب الشراعية، وفي المقدمة جموع المقاليع كأنهم السيل الجارف، استقلوا قواربهم فغطوا بها سطح النيل حتى أن الماء بدا لي كالطريق البري، ورأيت صلاح الشاعر يقف على حافة أحد المراكب، ويلوح بذراعه، مخاطبًا الحشود التي غطت صفحة النهر:
- حينما نخرجهم من الحبس، ونكمل تكوين حزبنا، سأعود إلى الشعر وأملأ الدنيا بالغناوي.
انتصبت الأذرع من المراكب والقوارب متجاوبة معه كأنها غابات النخيل، وأصوات الجموع تدوي في الفضاء كقصف الرعد.
وكما تطورت الرؤية الفكرية لدى الأسواني، ليؤمن بأن الثورة ليست عملًا فرديًا، ولا منحة من زعيم، بل هي قوة تتشكل من حزب ثوري وجماهير مؤمنة بطريق الثورة، تلتف حول هذا الحزب القائد، تطورت التقنيات الكتابية أيضًا، فرواية كرم العنب كتبها بأسلوب الأصوات المتعددة، فمن روايات الشخصيات التسع، يستطيع القارئ تكوين صورة مكتملة حول الأحداث والمواقف، وجعل، الكاتب، كل صوت أو راوٍ، يكمل روايته للحدث ذاته منطلقًا من النقطة التي توقف عندها الراوي السابق عليه.
والمرأة في هذه الرواية، تعددت نماذجها، فظهرت عطيات الابنة الوحيدة للعمدة رشوان الباهي في صورة الرافضة مواقف والدها وزوجها الفاسد، وظهرت صباح الفتاة التي حاول أخوها تزويجها من عطوان البهرجان شيخ البلد، بالقوة، فقاومت وتمسكت بحقها في الزواج من حبيبها راغب، وظهرت في الرواية أيضًا جماعة الغجر التي تحترف نساؤها الرقص، باعتبارهن من المكونات البشرية لمجتمع الرواية، وهو أمر جديد، مقارنة بالأعمال السابقة على هذه الرواية.
المحطة الأخيرة.. إمبراطورية حمدان
في العام، 2018، صدرت آخر روايات عبد الوهاب الأسواني إمبراطورية حمدان، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة روائع الأدب العربي وهي رواية ضخمة عدد صفحاتها 532 صفحة، خصصها لمدينة الإسكندرية التي عاش فيها في زمن تعدد الجاليات والأجناس، والرواية تقدم قصة رجل اسمه حمدان، استطاع بكفاحه وعمله أن يكون ثروة ضخمة، وقصة هذا الرجل هي قصة بروليتاريا الجنوب المصري، التي بدأت العمل مع جيش الاحتلال البريطاني في الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، واستطاعت شرائح منها الانتقال الطبقي ومراكمة رأس المال، وامتلاك العقارات واللحاق بطبقة البرجوازية، وحمدان الشاب الأسواني، هرب من القرية، بعد أن لفظته القبيلة، بسبب انحراف سلوكه.
ومن أمثلة هذا الانحراف ضبطه مع غازيّة في شونة التبن، واعتدائه على شاب ينتمى لقبيلة قوية، ولكنه بكفاحه وعمله مع شركات المياه الغازية، استطاع أن يكون إمبراطورية تجارية تضم مئات العمال المنتمين لمحافظات الصعيد، وأن يصبح من أغنياء القبيلة، ويمتلك الأطيان، وهذه الرواية تقدم العالم السفلى لمدينة الإسكندرية، الذي يضم الأجراء المغتربين ساكني سطوح العمارات، والعاملين في خدمة الأجانب الأثرياء، وفقراء الإسكندرية من سكانها الأصليين، والمهاجرين من محافظات الصعيد أسيوط وسوهاج وقنا وأسوان، والمهاجرين من محافظات الوجه البحري.
وهي تستمد تفاصيلها من السيرة الذاتية للكاتب نفسه، الذي قضى طفولته في الإسكندرية وبواكير شبابه، ثم انتقل للقاهرة ليعمل بالصحافة، والتحق بمجلة الإذاعة والتليفزيون، وسافر للعمل في عدة عواصم خليجية، وهي الرواية الوحيدة التي تظهر فيها مدينة الإسكندرية بهذه القوة، بعد ظهورها العابر في روايته القصيرة ابتسامة غير مفهومة، ولم يتخل في هذه الرواية عن ولعه بالتاريخ، فظهرت أحداث اتفاقية سايكس، بيكو، والحرب العالمية الأولى، وغيرها من الأحداث التي شكلت خلفية لأحداث الرواية، وفي 3 يناير/ كانون الثاني 2019 رحل عبد الوهاب الأسواني، بعد أن أنجز مشروعًا أدبيًا مهمًا وفارقًا في تاريخ الأدب المصري، وهو مشروع منحاز لكل ما هو تقدمي وإنساني وراق ووطني ومعاد لكافة صور القهر والاستغلال والقمع.