"قال الموظف الذي لم يرفع رأسه: لا شيء للكولونيل. فأحس الكولونيل بالخجل، وقال كاذبًا: لم أكن انتظر شيئًا. (والتفت نحو الطبيب بنظرة طفولية تمامًا)، وتابع: ليس لديّ من يكاتبني".
ليس لدى الكولونيل مَن يكاتبه، جابرييل جارثيا ماركيز. ترجمة صالح علماني.
ما يزال الكولونيل العجوز حيًا على أمل وصول معاش تقاعدي يعينه وزوجته على الحياة دون اضطرار لبيع الديك، آخر ذكرى من ابنهما الشاب الراحل في حادث قتل بالرصاص داخل حلبة مصارعة الديكة.
بين 80 صفحة تقريبًا، كان الكولونيل يتقلّب بين مرارة الفقر وقلق تأخر المعاش والحزن على الابن الفقيد، وغيرها من مشاعر رسمها الروائي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز بلغته الأسبانية، بينما الفضل في تذوق القارئ العربي لمعانيها يُرد لمبدع آخر فلسطيني اسمه صالح علماني، كان بعد شابًا حين خاض أول تجاربه في الترجمة عبر هذه القصة.
منذ ذلك الحين، الذي يعود لسبعينات القرن الماضي، سخّر الرجل نفسه لنقل الأدب اللاتيني إلى العربية، فصار اسمه علمًا في مجال الترجمة على مدار عشرات من أعوام عمره حتى رحيله ظهر اليوم، عن عمر سبعين عامًا.
رحلة ابن الشام
في ثاني أيام شهر فبراير/ شباط لعام 1949، استقبلت مدينة حمص في وسط سوريا صالح علماني، طفلاً مولودًا لأسرة فلسطينية بعيدة عن وطنها الأم.
تمر السنوات ويكبر الصبي ليصبح شابًا تقوده رغباته من الشام إلى أسبانيا حيث أراد أن يدرس الطب، لكن كانت للقدر كلمة أخرى. فهناك تعلّم الشاب اللغة الأسبانية حدّ الإتقان. وربما كان ذلك تعويضًا لما سيتعرض له من عقبات مادية تعانيها أسرته الفقيرة، حد حرمانه من استكمال دراسة الطب، فكان القرار بالتحول منها إلى الصحافة، ليتركها هي الأخرى بعد عام واحد فقط، بعد اكتشافه أنها "أصعب من الطب".
وما صعوبة الصحافة، وفقًا لما ذكره علماني في حوار سابق، إلاّ أنها دراسة متطلبة، تستدعي من دارسها أن يكون "ذي ثقافة واسعة في كل الميادين".
لكن ما المشكلة هنا؟ المشكلة أن الشاب صالح كان منشغلاً عن متطلبات الصحافة بأمور معيشية، تطلبت منه العمل الذي كان ضاغطًا بالنسبة له حد تركه دراسة الصحافة أيضًا، ليبدأ رحلته كشاب عامل، يتنقل بين حرف مختلفة كان منها عامل بناء، ثم في أحد الموانئ، وبعدهما عامل في أحد مزارع الفاكهة.
وفي مشقة الرحلة، كان للشاب في الأخير تعويضًا حكى عنه في الحوار نفسه، بقوله إن هذه الحرف أتاحت له "التعرف على قاع المجتمع اﻷسباني عن كثب؛ ما أعطى لترجماته الكثير من الحيوية".
الاحتكاك مع قاع المجتمع الأسباني وكذلك المثقفين والأدباء عبر الفعاليات المختلفة، والقراءات عن تاريخ الأدب الأمريكي، منحت علماني غنىً ثقافيًا أتمّه بدراسة في كوبا استغرقت 6 أشهر، تعرّف خلالها على تاريخ أمريكا اللاتينية.
ضربة الكولونيل
كان الشاب في أواخر عقده الثالث، حين اتجه إلى أدب أمريكا اللاتينية، والذي لم يكن أول عهده بالترجمة، والتي كانت بداياته معها من العربية للأسبانية، عبر نقل البيانات السياسية الصادرة عن جهات فلسطينية إلى بعض أصدقائه الأجانب المهتمين بالقضية الفلسطينية، لتنشر في مجلة الحزب الشيوعي الأسباني.
بالأوراق السياسية بدأ الشاب الترجمة، حتى أتت اللحظة حين كان جالسًا على أحد مقاهي برشلونة، والتقطت عيناه العنوان السحري مائة عام من العزلة. قرأها فانجذب لعالم ماركيز السحري حد البدء في ترجمتها للعربية، والتي توقفت عند فصلين فقط من الرواية.
لم يكتمل مشروع الشاب مع أعوام العزلة، لكنه كان قد انجذب لماركيز وأعماله، تذوّق طعم الواقعية السحرية؛ فقرر نقلها لرفاقه العرب، وبدأ في ترجمة قصص "جابو" القصيرة، وكان أولها ليس لدى الكولونيل من يكاتبه، لتخرج من يده إلى مطابع بيروت، ومنها لإيدي القرّاء العرب، الذين "عرفوا عن طريق الشاب الفلسطيني أدبًا مجهولاً"، وفقًا لوصف الناقد حسام الخطيب في معرض إشادته بمنتج صالح.
تلك الإشادة كان حافز علماني، فأصبحت رواية الكولونيل مجرد ضربة بداية للاتجاه لنقل الإبداع اللاتيني للعربية، بحماس بلغ حد تمزيقه أوراق رواية كان قد بدأ بكتابتها.
وفي تلك اللحظة أعلنها علماني لنفسه، وفقًا لما يذكره في حوار له "أن تكون مترجمًا مهمًا أفضل من أن تكون روائيًا سيئًا".
الصوت الخافت
"حرفة لا تتأتّى إلا بالدُربة والمِران والممارسة، استنادًا إلى موهبة، وربما كانت لها جوانب جمالية، بل ربما جوانب إبداعية"، هكذا يرى المترجم الدكتور محمد عناني الترجمة.
ربما هذه الصفات من تمرين وموهبة وإضفاء جماليات، كانت بعض مما تحلّى به علماني على مدار 40 سنةً تقريبًا من ممارسة الترجمة، التي أنتج من خلالها ما يزيد عن مائة كتاب تحفل بهم أرفف مكتبات العواصم العربية المختلفة، وهذا ليس إلا نتاج إيمان حقيقي بما يقدمه، وهو القائل عن الترجمة إنها "أدب وموهبة".
من حديث الرجل، والأهم من أعماله، يتضح أن الترجمة بالنسبة له لم تكن مجرد نقل كلمات، بل أيضًا نقل إحساس وأجواء ومشاعر، فهو مَن نجح في أن يحوّل النص ليس فقط عن لغته الأم إلى لغة أخرى، بل يحوله من مجرد كلمات مطبوعة على ورق إلى صور حيّة ترى فيها البشر أمامك، هل خرجوا من عالمهم أم دخلت أنت عالمهم؟
الإجابة فقط عند علماني الذي يمتن للترجمة حد قوله عنها إن لها "فضل كبير عليه"، وهو الرجل الذي تشعر بترجماته أن العربية هي اللغة الأصلية المكتوب بها العمل، وكأن ماركيز أو إيزابيل الليندي أو ماريو بارجاس يوسّا كتبوا حكاياتهم هذه بالعربية فعلاً.
ورغم ولعه بالاثنين الترجمة واللغة الأسبانية، التي قال عنها في إحدى الفعاليات إنها "هي التي اختارته هو، وليس هو الذي اختارها"، إلاّ أنه كان واعيًا طيلة الوقت لضرورة أن يكون صوته خافتًا، لا يعلو على صوت كاتب النص الأصلي، مهما أضاف من تعبيرات جمالية باعتباره كمترجم "موجود كشريك للكاتب في العمل".
لكنه يعود رغم ذلك ليؤكد أنه دائمًا وأبدًا "يبقى النص الأصلي أجمل من الترجمة بكثير"، لهذا فهو يرى المترجم الجيد هو الذي يبدو من "استيعابه لروح النص وفهمه لظلال المعاني الملقاة على النص الأدبي".
انطلاقًا من هذه القناعات؛ رسم علماني طريقه في الترجمة، وكان دائمًا قراره هو ألاّ يترجم نصًا إذا لم يحبّه.
لسان المبدعين
بعد أعوام من ترجمة إبداعات لاتينية وإيطالية، مثل مائة عام من العزلة للكولومبي ماركيز، وألعاب العمر المتقدم للأسباني لويس لانديرو، وكالماء للشيكولاتة للروائية المكسيكية لاورا اسكيبيل، وبيت اﻷرواح للروائية التشيلية إيزابيل الليندي، صار علماني اسمًا مرتبطًا بهذا النوع من الأدب وبهذه اللغة، حدّ اتخاذ الحكومة الأسبانية قرارًا بمنحه الإقامة بأرضها بعد نزوحه من سوريا، تكريمًا له.
لهذا صار طبيعيًا ومتوقعًا أن يشارك علماني كصاحب رأي ورؤية في فعاليات ثقافية دولية وعربية، بل ويشرف على ورش عمل للترجمة، باعتباره خبيرًا ذي باع في هذا المجال، حد تنظيم مدرسة المترجمين في طليطلة بجامعة كاستيا لامنتشا، حفل تكريم في العام 2013.
الرجل فلسطيني الأصل، نال أيضًا تكريمًا من وطنه الأم فلسطين، إذ منحه الرئيس محمود عبّاس أبو مازن وسام الثقافة والعلوم والفنون (مستوى الإبداع) عام 2014.
حصل علماني على تكريمات أخرى أيضًا من بينها جائزة خيراردو دي كريمونا الدولية للترجمة عام 2015، وهو العام نفسه الذي شهد تكريمه من اتحاد الأدباء والكتاب العرب في حفلي تكريم أقيما في كل من مدينة طنجة المغربية وإمارة أبوظبي.
كل تلك التكريمات، ومن قبلها الأرشيف الغني، ليست إلاّ اعترافًا بمجهودات رجل صارت الصورة الذهنية عنه لدى القارئ هي أنه وسيط مبدع ولسان عربي لمبدعين لم ينطقوا يومًا بالعربية، لكن أهلها عرفوهم والفضل له هو، صالح علماني.