من عيوب كتابة التاريخ، لدّى البعض، اختزال الظواهر والأحداث والشخوص في عبارةٍ تبدو جامعةً مانعةً، وفي الوقت الذي تتسم فيه العبارةُ المستخدمة، شكلًا، بالموضوعية، فإنها تمارس نوعًا من الإقصاء لأوجه أخرى للظاهرة، كأن تقول مثلًا على الموسيقار المصري الراحل بليغ حمدي "شيطان النغم"، العبارة تتمظهر وكأنها معبرة عن "عفرتة موسيقى بليغ" لكنها تُسقط تاريخًا آخر من العطاء قد لا يتضمنه "اللقب".
لعلّ البعض نجا من الآفة السابقة، ونحسب منهم سيد مكاوي، الملحن والمطرب وعازف العود الشهير، الذي توفي في 21 أبريل/ نيسان 1997، وتحل ذكرى رحيله الخامسة والعشرين، هذا العام 2022، ورغم محاولة البعض سجن مكاوي في كونه "مسحراتي العرب"، فإنّ عطاءه الفني والموسيقي أشبه ببحر تتلاطم أمواجه وراء بعضها، وكلما حاولت حصرها حتمًا ستغمرك من جديد، لتقول لها أو تقول لسيد مكاوي نفسه "قبل ما ترميني في بحورك، مش كنت تعلمني العوم؟".
سيد الشرق
تعالوا نمارس ما اعتبرناه آفةً في بداية الحديث، ونحاول أن نصيغ عبارة تبدو مجازية وموسيقية تلاءم الموقف والحدث، الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل رجل لا تخطئ أذن صوته، ولا يجهل سميّعة ألحانه، لنربط بين الرجل والموسيقي، نقول مثلًا "حياة سيد مكاوي.. لعب من مقام ما"، هل تسمحوا لي بالاختيار؟ قطعًا سأقول "لعب من مقام الهُزام".
في الوقت الذي ينعم فيه الشيخ سيد بألقاب عدّة، منها ما يتشارك فيها مع آخرين مثلما ذكرنا "مسحراتي العرب" الذي يطلق أيضًا على "والد الشعراء" فؤاد حداد، كاتب نصوص المسحراتي، ومنها ما يحتكره بمفرده كـ"صانع البهجة"، يبدو لنا أن لقب "سيد الطرب الشرقي" واحد من العبارات المختزلة لحياة الشيخ، الذي يدخل إلى الألحان متسلحًا بالربع تون، ما يميز نغمات الموسيقي الشرقية والعربية، والرّق والإيقاعات والمزمار، يقلب في جراب المقامات، فيختار، غالبًا، واحدًا من عائلة المقامات الشرقية، كعائلة مقام السيكاه أو عائلة الراست، وغيرهما.
وقبل أن نخوض في شرقية سيد مكاوي، نوّد أن نشير إلى أن عائلة السيكاه تضم مقامات سيكاه، وهُزام، وراحة الأرواح، وعراق، وأوج عراق، وبَستة نِكار، ومستعار، وأشهرها بالطبع السيكاه والهُزام وراحة الأرواح، وإن سمحت بعض المقامات بتداخل جنسين في تكوينها، فإن الهٌزام من المقامات القليلة التي تتداخل فيها أجناس عدّة ومختلفة.
التداخل بين الأجناس تنوع، وكأن حياة الشيخ سيد كانت بوتقة لانصهار عناصر عدّة متداخلة، ثقافة دينية مرة، وشعبية مرة ثانية، ومعرفة مبنية على الخبرة مرة ثالثة. طبقات من الثقافات تتراكم داخل عقل وقلب الشيخ الضرير، تبدأ من طبقة الحارة وبائعي العسلية ونبوت الغفير متجاورين مع قصر الحكم في عابدين وما يحوي داخله من طبقة "غير شعبية" بالطبع، وتسحب الطبقاتُ في طريقها شيوخ المساجد والقراء، وتقابل أراواح الشيوخ سيد درويش وسلامة حجازي وزكريا أحمد، لتستقر أخيرًا عند فؤاد حداد وصلاح جاهين، وما يمثلانه من عطاء أدبي وفني وثقافي كشلال منهمر لا يتوقف.
يتفق أهل الموسيقى على أن الهُزام مقام ذو طابع انشادي طربي يتيح للمؤدي مجالًا واسعًا من المساحة الصوتية التي تجعله يؤدي ببراعة ومهارة، أيّ أنه مقام الانتصار للصوت المُغني، وحين نتتبع مسيرة الشيخ، نتلمس كم كان مولعًا بالسعي منذ طفولته أن يكون بارعًا، ومع إشارة المقام إلى كونه ساحة لوقوف المطرب الفرد منشدًا، فإن مكاوي منذ بداياته العُمرية، يُعد نفسه ليكون المنشد الطروب، يحفر في صخر التاريخ، متحديًا المعوقات الاجتماعية وفّقد البصر، ليكتب في التاريخ وبفردانية، قد تكون غير قابلة للتكرار "أنا سيد محمد سيد مكاوي".
نورت يا ولدي
قرب قصر عابدين، تحديدًا في حارة "قبودان" بحي الناصرية، جاء سيد للدنيا في أسرة متواضعة الحال، يتقوت الأب يومًا بيوم، كان ترتيبه الثاني بعد شقيقته الكبرى وأكبر الأبناء الذكور، الذي سيصل عددهم إلى سبعة أولاد فيما بعد. وما لبث أن أتمّ عامه الثاني حتى أصيب بالرمد الصديدي، ومع محاولات شعبية وبدائية لعلاجه تضاءل النور في العينين شيئًا فشيئا، سرعان ما اختفى تمامًا، كحال عميد الأدب العربي طه حسين الذي فقد بصره في الثالثة من عمره.
ثمة خلاف حول تاريخ الميلاد، خاصة سنة الولادة، ففي الوقت الذي تشير أغلب المصادر إلى أن مكاوي ولدّ في الثامن من مايو/ آيار [1]1928، يشير الكاتب والصحافي المصري ماهر زهدي في كتابه صانع البهجة والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب إلى أن ميلاد الشيخ سيد كان في عام 1927، ودون بالخطأ في الدفاتر الرسمية سنة 1926[2]. والتاريخ يؤكده الباحث وليد عبد المجيد إبراهيم في كتابه الإبداع عند المعاقين[3]، أيّ أنه من المحتمل أن تكون الذكرى الخامسة والتسعين لميلاده الشهر المقبل.
حسب روايات أخرى، ولد مكاوي في 8 مايو/ آيار 1922، وهي روايات غير دقيقة، وإن تناثرت في كتب فنية وبحوث ودراسات موسيقية، نذكر منها دراسة الباحثة أماني عبد الشهيد والمعنونة بـأسلوب سيد مكاوي في التعبير عن كلمات فؤاد حداد[4]، واعتمدت عبد الشهيد في روايتها على ما أورده المطرب والأكاديمي إيهاب توفيق في أطروحته للماجستير عن الأغنية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين 1995.
يشبّه مؤرخو الموسيقى سيد مكاوي بشيخه سيد درويش، وبجانب التشابه في الإنتاج، ثمة تقاطعات بين حياة الرجلين، وبات من المعروف أن السيدين فقدا الأب في مرحلة مبكرة من حياتهما ليتحملا عبء أسرتيهما، وتثقل كواهلمها بأعباء الحياة. كما أن الرجلين حفظا القرآن وتلقيا تعليمًا دينيًا، وعمل درويش مؤذنًا لمسجد الشوربجي في حي الجمرك بالإسكندرية، كذلك عمل مكاوي في مسجد أبو طبل، وتردد الرجلان على "قعدات الذكر والطرب" يتلوان القرآن وينشدان المديح، وإن ظلت أماكن الفتى مكاوي "محافظة" وبدت سهرات درويش "منفتحة" في كثير من الأحيان[5].
في البدء كان الهزام
في الحارة، كان سيد الطفل على موعد مع مقام الهزام للمرة الأولى، حين كان يجلس إلى جوار العمّ مسعود، بائع العسلية، صاحب الصوت الجهوري، والعارف ببعض أمور الغناء، مما يجعله يرتقي إلى مرتبة السميّعة المغرمين بمشايخ الطرب والمولعين بالسلطنة.
بجوار الفتى سيد، وعمّه مسعود، يرص "العتر" كراسي "مقهاه" فيجتمع الناس، لانتظار حدث عظيم، قد يقلب حياة أهل الحارة رأسًا على عقب، الكل ينتظر قدوم الضيف الجديد، جرامافون مقهى العتر، "ألو... ألو... جراموفون تحييكم"، ويتابع "تستمعون إلى قصيدة وحقك أنت المنى والطلب غناء الآنسة أم كلثوم" نظم الشاعر عبد الله الشبراوي[6]، أحد الكبار الذين تولوا مشيخة الأزهر، وتلحين الشيخ أبو العلا محمد، من مقام هزام.
المرة الأولى التي يستمع فيها إلى أغاني كانت شرقية المقامات، ومع أن الأغنية شدت بها أم كلثوم في 1926، فإن معرفة مكاوي بها أرجأت حتىّ نهاية الثلاثينيات على أقل تقدير، لتقع أذن الفتى سيد، وإن لم يدرك ذلك على نحو واضح، موسيقى لحنية بدأت من مقام الهزام وتراوحت مع البيت الرابع بين الراست والبياتي، ليعود ويقفل بالهزام كعادة الموسيقيين الأوائل، وقبل أن يكسر هذه القاعدة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في أغنية جارة الوادي (1928) التي بدأها من مقام بياتي من درجة"ري" وأنهاها من بياتي درجة "لا"، ما أثار ثورة غضب أساتذة معهد الموسيقى حينها وعقدوا جلسة محاكمة لعبد الوهاب، وأطلقوا عليه "مجرم الموسيقى كمجرم الحرب"[7].
نعود إلى حارة قبودان، حين يتلمس الفتى تجربته الأولى مع ألحان الشيخ أبو العلا التي تتسم بالإرسال أي "ترك الإيقاع"، ومعروف أن أبو العلا أول من فرض إيقاع (الواحدة الكبيرة)، وهو الإيقاع ذاته الذي سيستعمله مكاوي عندما يلحن لأم كلثوم يا مسهرني.
يا فرحة الأحباب
يشتد عود الفتى ويصير شابًا، يفكر في احتراف الغناء والموسيقى، ويلتحق بالإذاعة بفضل عمدة الملحنين المصريين عبد العظيم عبد الحق، الذي كتب ولحن أغنية اعتماد مكاوي كمطرب إذاعي، باسم محمد نبينا، فيتذكر المرة الأولى التي فكر فيها بالغناء، وقتها جرب مكاوي نفسه مع رفيق الروح سيد درويش، ودندن طقطوقة هز الهلال يا سيد من كلمات بديع خيري ومن مقام الراست شرقي السمات أيضًا، ما جعله ينال استحسان والدته، أول جماهيره، وإخوته وجيرانه ومحبيه، غير أنه لاحظ أنه يغني الطقطوقة من مقام آخر، ربما كانت الإشارة إلى أنه ملحن في المقام الأول.
الموقف ذاته يتكرر، حينما رتب القدر لمكاوي أن يغني وفي حضور الشيخ زكريا أحمد أغنية من ألحان الأخير لأم كلثوم يا فرحة الأحباب، وخلال الأداء أطال مكاوي المقام في الغصن الثالث، كي يبين مهاراته الصوتية، وبعد الحفل، استدعاه الشيخ زكريا وسأله عن المقام، فأجاب مكاوي[8]:
"مقام الهزام. ولاحظت أن لكل غصن لحن مختلف، ومقام جميع الأغصان هو الهزام، وفي الغصن نفسه وجدت البيتين الأول والثاني يختلفان في اللحن كل مرة، أما البيت الثالث في كل غصن يرجع للحن الأصلي»، شارحًا أهمية الأغنية في تطوير شكل الطقطوقة عمّا قدمه داود حسني، بسبب انتهاء جميع الأغصان بلحن، بيد أن نهاية الغصن ليست جزءً من المذهب، فالأخير في أغنية الشيخ «مستقل وكامل".
المعرفة السابقة أبهرت الشيخ زكريا، فدفع بمكاوي دفعًا لتعلم النوتة الموسيقية، الأمر الذي استوجب بداية أن يتعلم القراءة بطريقة برايل، ثم يلتحق بالمعهد الملكي للموسيقى العربية، وخلال اختبار القبول يغني لسيد درويش وكامل الخلعي وداود حسني ولزكريا أحمد "هتجن ياريت يا إخوانا مارحتش لندن ولا باريز".
ما جرى "ليلة إمبارح"
تمر السنون ويدخل مكاوي عالم الكبار، يصبح الشيخ ومسحراتي العرب، بات الأستاذ والمعلم وله من التلاميذ الأنجاب، فيعود إلى شرقية النغم، ونعتقد أنه لم يبرحها قط، في أغنية قد تبدو معبرة عن مشوار مكاوي، أو عن حياته كاملة وهي ليلة إمبارح التي كتبها رفيق الرحلة صلاح جاهين.
منذ رحيل جاهين في 1986 وحتى رحيل مكاوي 1997، أي طوال 11 سنة، والشيخ سيد يغني ليلة إمبارح في حفلاته كافة، سواء طلبها الجمهور أم لا، ليعتبره البعض نوعًا من تكريم صديقه، لكن لماذا هذه الأغنية؟ نعتقد لكونها تعبر عن شرقية الرجلين معًا، المسألة التي ودّ مكاوي يؤكد عليها فغناها مسبوقة بموال "يا دايق النوم اوصف لي أماراته، وسلفوا جفن حكمت فيه أماراته، ما في ملوك المحاسن حد من ساله، أنت الحكيم فى حكمه وأمثاله، صابر على الهجر متحرمنيش أماراته".
الحياة مجرد يوم، رغم أن مكاوي لم ينم "ليلة إمبارح"، ومع وحدته ومشاهدته للمحبوب تنقلب الأحوال، "أنا كنت لوحدي وف حالي، شوفتك معرفش اللي جرالي" لتفيض الأغنية بالإيقاعات الشرقية/ العربية، والمؤلفة ضرباتها من صوتي الدُمّ والتَكّ الأساسيين، وتصبح الذات متأرجحة بين صوت الدًّم العميق والممتد زمنيًا "الضغط القوي"، وبين صوت التَكّ الحاد الجاف الممثل للضغط الضعيف.
"هو الشرقي لا كذب"، عبارة تلاءم حال مكاوي، ما يجعله متمايزًا عن أستاذه الروحي سيد درويش، المتشابه معه في بعض محطات الحياة، لكن درويش كان مولعًا بالاستفادة من الموسيقى الغربية والكلاسيكية، خاصة في تلحين الأوبريتات، فيما قرر مكاوي الانتماء إلى مدرسة السلطنة والطرب.
جدير هنا أن نشير إلى أن بداية القرن العشرين شهدت مدرستين موسيقيتين، واحدة تقول بدمج شرقية المقامات والإيقاعات بالأساليب الغربية، بالتالي تنقية الألحان من الزخارف الموسيقية غير التعبيرية، ورائدها محمد القصبجي، ومدرسة أخرى تؤمن بأن الصنعة جزء أصيل من الطرب الشرقي، ورائدها الشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي من بعده، وبينما اقترب مكاوي من المدرسة الأخيرة على نحو جلي، يُعد درويش "الأسطى الفعلي" للمدرستين.
أغنية المقامات السبعة
في عقد الستينيات من القرن العشرين، كان ملحنو كوكب الشرق عملوا على إدخال آلات الغربية في أغانيها، أمثال محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل، الذين استخدموا آلات كالجيتار والأورج. وفي مطلع السبعينيات تكون "الست" على موعد مع العودة إلى الشرقية.
بعيدًا عن الحديث عن حلم مكاوي نفسه بالتلحين لأم كلثوم، الأمر الذي حلم به كل موسيقيّ العرب حينذاك، فإن اختيار الست لسيد حركة ذكية، تعرف أنها كسبانة من صاحب مشوار مع الموسيقى الشرقية يمتد نحو 25 سنة، ولربما أرادات سيدة الغناء العربي أن تستعيد روح أبو العلا محمد وزكريا أحمد مع الشاب الأربعيني سيد مكاوي.
في الرابع من مايو 1972، تشدو أم كلثوم لأول مرة بـيا مسهرني من كلمات أحمد رامي وألحان الشيخ سيد[9]، ورغم أن المقام المسيطر على الأغنية الراست، وهو مقام شرقي كما سبق أن وضحنا، فإن مكاوي لا يستغني في شرقيته عن عائلة السيكاه، وأبرز أفرادها هزام، مع اللجوء إلى الإيقاعات الشرقية "الواحدة الكبيرة، والمقسوم، والسنباطي"، والواحدة الكبيرة هو الإيقاع ذاته الذي فرضه الشيخ أبو العلا في بحقك أنت.
يا مسهرني أغنية المقامات السبعة، المسيطر الراست الذي تُغني منه الست "ما خطرتش على بالك يوم، تسأل عني"، قبل أن تنتقل في المقطع نفسه إلى الهزام وتنهي المذهب بعد ذلك من مقام سوزناك، وتظل المقامات الثلاثة بالسيناريو نفسه مع غناء الست "اسأل عن اللي يقضي الليل، بين الأمل وبين الذكرى"، إلى أن تبدأ اللعبة.
مع عبارة "يا مسهر النوم في عنيا، سهرت أفكاري وياك"، يدخل مكاوي رحلة الإبحار في باقي المقامات السبعة، يبدأ بلازمة موسيقية من مقام الكرد، مع تحويلة لبياتي في جملة "والشوق واخدني لبحر هواك"، قبل أن يفوت على نهاوند في عبارة "أقول لروحي وأنا ذنبي إيه"، وعودة من جديد للبياتي في "ونبقى نعرف هجرنا ليه".
دخول المقام السابع أيضًا يستلزم لعبة، يبدأها بلازمة من النكريز، مقام شرقي وأصل التسمية فارسية ومعناها "لا تهرب"، أي لن يفلت المستمع من سطوة الموسيقى، لتقول الست على المقام نفسه "تعالى خلي نسيم الليل، على جناح الشوق يسري"، ومن بعده تجري تحويلة للنهاوند، ثم تعود للراست والبياتي ثم نهاوند، وأخيرًا انتهاء الأغنية من نقطة البدء بالراست.
اصحى يا نايم
أن تتذكر عبارات من أغاني سيد مكاوي، فيعني ذلك أن تذكر مقام الهزام، ومن غير الطبيعي أن يمر الحديث عن مكاوي دون التعريج على تجربة المسحراتي التي بدأت في رمضان 1968، وعلى نحو مغاير لما تقدمه الإذاعة تحت مسمى المسحراتي، فيستغني الشيخ سيد عن الفرقة الموسيقية، ويستعمل عوضًا عنها طبلة.
المسحراتي تجربة مكاوي وفؤاد حداد التي جاءت بعد نجاح مكاوي مع جاهين، مثلت علامة فارقة في تاريخ الرجلين، بل قل تاريخ الغناء المرتبط بشهر رمضان، ولأن المشروع متشعب وكثيف، طبيعي أن تتنوع المقامات، لكنّ الشيخ سيد يختار مقامَ الهزام في أشهر الجمل، والأكثر ترديدًا "اصحى يا نايم، اصحى يا نايم، اصحى وحد الدايم".
إذن، لو كان المقصد من المسحراتي، المشروع الذي كتب في أعقاب هزيمة يونيو/ حزيران 1967، بعث العزيمة في النفوس، وإيقاظ الغافلين الذين أودت الغمامة إلى نكستهم، فمن الطبيعي أن يكون النداء عليهم بـ"اصحى يا نايم"، من مقام يخصهم، ومقرب إليهم، يعرفونه ويعرف كيف يعبر عنهم، علّهم يستجيبون.
قلتُ أن تتذكر عبارات من أغاني مكاوي، فيعني ذلك أن تذكر مقام الهزام، فماذا تذكر من الليلة الكبيرة؟ إنها التجربة التي تعد "ليلة تنوع المقامات بامتياز"، ليست الميزة فقط في التنوع، إنما في سلاسة الانتقال من مقام إلى آخر، ليحل الهزام في أكثر الجمل رشاقة بالأوبريت "طار في الهوا شاشي وأنت ما تدراشي.. يا جدع".
في كتابه صانع البهجة، يحكي ماهر زهدي[10] أن أوبريت الليلة الكبيرة في بداية إنتاجه كان خاليًا من دوريّ الغازية ولعبة زق الطارة، ومع معاينة رئيس الإذاعة محمد أمين حماد للعمل، اقترح الإذاعي محمد محمود شعبان بابا شارو، إضافة دورين للغازية ولعبة الطار، الاقتراح الذي اجتهد جاهين في تنفيذه، فكانت فقرة "ورينا القوة. يا بني أنت وهو"، والجملة الأرشق "طار في الهوا شاشي وأنتَ ما تدراشي... يا جدع، طرفه شاور لي شاور لي عليك، حكم الهوا ماشي، حكم الهوا ماشي".
ورميت عليّ السلام
في عيد الفطر من عام 1997، أي مطلع فبراير/ شباط، سافر الشيخ سيد إلى العاصمة اللبنانية بيروت ليقيم حفلًا غنائيًا، وبعد غناء استمر نحو 3 ساعات أرهق الشيخ وخرج لمقر إقامته بيد أن وعكة ألمت به، ونُقل إلى المستشفى، وبعد أيام يضطر لإجراء عملية جراحية من أجل عمل فتحة في الرقبة لإدخال أنابيب الأكسجين بجهاز خارجي يقوم بعمل الرئتين، أي أنها عملية من أجل بقاء مكاوي على قيد الحياة و"النفس".
وبعد أن أجرى العملية وقبل أن تنتهي فترة النقاهة، قرر مكاوي أن يعود إلى مصر، برفقة طبيبه المعالج من بيروت، وبالفعل رجع ربما ليودع المحروسة ويغادر الحياة من منبته، 21 أبريل/ نيسان 1997 في اليوم ذاته الذي سبق أن رحل فيه صديق العمر صلاح جاهين 21 أبريل 1986.
في أغنية باب الخلق كلمات فؤاد حداد، يتجلى ملخص الرحلة برمتها، تبدأ من باب الخلق، الذي لا يبعد كثيرًا عن حيّ الناصرية، حتى "العباسية ولبعد الزتون على نخل، لبلاد تقول نجع وبلاد تقول كوم" ويبحر إلى إسكندرية ثم يقبل ناحية الجيزة وجنوبها، الرحلة "يوم"، كأن العمر لحظة يمسك فيها الصبي بـ"قرطاس فول أخضر"، ويرحل على هذه الأرض فاردًا محبته على الآخرين ومؤكدًا دورهم في وجوده "مليش خيال، إلا أن رمتني بنور هادي، ورميت عليّ السلام".
[1] حسبما يرد في موسوعة ويكيبديا، الموسوعة الحرة، صفحة باسم سيد مكاوي.
[2] ماهر زهدي: سيد مكاوي.. صانع البهجة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2020.
[3] وليد عبد المجيد إبراهيم: الإبداع عند المعاقين، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2021.
[4] أماني عبد الشهيد، أسلوب سيد مكاوي في التعبير عن كلمات فؤاد حداد من خلال البرنامج الإذاعي من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة، مجلة جامعة جنوب الوادي الدولية للعلوم التربوية، مصر، ع 2، يونيو/ حزيران 2019.
[5] للمزيد عن حياة سيد درويش انظر، إدوارد لويس: سيد درويش والموسيقى العربية، مجلة جوار، السنة الثانية، العددان الخامس والسادس. كذلك يمكن مراجعة فكتور سحاب: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1987.
[6] يذكر ماهر زهدي في كتابه «صانع البهجة» أن الشاعر اسمه عبد الله الشرقاوي، في حين ترجع القصيدة إلى شيخ الأزهر الشافعي عبد الله الشبراوي المتوفي 1758.
[7] محمد عبد الوهاب: رحلتي.. الأوراق الخاصة جدًا، إعداد وتقديم: فاروق جويدة، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2008.
[8] ماهر زهدي: سيد مكاوي.. صانع البهجة.
[9] عن علاقة سيد مكاوي بأم كلثوم يمكن مراجعة موسوعة أعلام الموسيقى العربية 1، أم كلثوم، إعداد إيزيس فتح الله ومحمود كامل، دار الشورق، القاهرة، ط1، 2001. كذلك إيزابيل صياح بوديس: أم كلثوم.. كوكب الشرق، ت: سونيا محمود نجا، المركز القومي للترجمة، ع 1250، ط1، القاهرة 2008.
[10] ماهر زهدي: سيد مكاوي.. صانع البهجة.