في أوائل يناير/ كانون الثاني الماضي، سحبت الولايات المتحدة الأمريكية دعمها لخط إيست ميد EastMed الذي يربط وينقل الغاز الطبيعي من حقول إسرائيل وقبرص إلى أوروبا عبر اليونان. وإيست ميد هو اختصار لـ"خط أنابيب شرق المتوسط"؛ الذي يتوقع أن يصبح بعد إنهائه أحد أكبر خطوط نقل الغاز تحت سطح البحر حول العالم.
ووفقًا للمعلومات الواردة من واشنطن، فقد تباينت أسباب الانسحاب الأمريكي بين البيئي والاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بالجدوى الاقتصادية للخط؛ لكن السبب الأبرز كان إشارة واشنطن لـ"تسبب الخط في إثارة توترات سياسية" بمنطقة شرق المتوسط، وذلك في إشارة واضحة للرفض التركي للمشروع.
وعلى الرغم من عدم دعم الولايات المتحدة خط إيست ميد ماليًا؛ إلا إن دعمها السياسي مهم، وكان حضورها أثناء توقيع مذكرات التفاهم بين بلدان إسرائيل واليونان وقبرص لافتًا في منح المشروع ثقلًا سياسيًا.
لكن وفقًا لمحللين وخبراء تواصلت معهم المنصة، فإن الانسحاب الأمريكي كان إرضاءً لتركيا من أجل الحصول على دعمها بعدما تفاقمت أزمة الولايات المتحدة مع روسيا، قبيل وأثناء غزوها لأوكرانيا. وما يدعم تلك الراوية هي مطالبة نحو 5 آلاف شركة أمريكية بالانسحاب من روسيا والاستثمار في تركيا، حسبما نقل موقع أكشام التركي خلال الأسبوع الماضي.
وتناقش المنصة في هذا التقرير أيضًا موقف الاتحاد الأوروبي من الانسحاب الأمريكي، وذلك بعد حصولنا على رد رسمي من المفوضية الأوروبية، ونوضح مسار خط الربط الكهربائي المزمع إنشاؤه بين مصر واليونان، وإمكانية دعم المفوضية الأوروبية له، باعتباره من مشروعات الطاقة النظيفة التي يسعى الاتحاد الأوروبي لتنفيذها ضمن أجندة الصفقة الخضراء.
الولايات المتحدة تنسحب
في يناير الماضي، كتبت مراسلة الإذاعة العامة اليونانية لينا أرجيري تغريدة على تويتر، جاء فيها أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية تقف وراء سحب الدعم الدبلوماسي الأمريكي لخط إيست ميد EastMed، استنادًا إلى مذكرة رسمية أرسلتها واشنطن إلى أثينا، تمثلت في حماية البيئة عبر التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، وافتقار إيست ميد إلى الجدوى الاقتصادية والتجارية، وأخيرًا ما قد يخلقه الخط الجديد من توترات في شرق المتوسط.
من جهته، ينفي مدير البحوث والعلاقات الدولية بجامعة قبرص للتكنولوجيا، بامبوس كريسوستومو، أن تكون الصعوبات البيئية والمالية التي ذكرتها الولايات المتحدة هي سبب سحب الدعم، كونها كانت على علّم بها منذ بداية المشروع؛ لكنها أصرّت عليه بدعوى تقليل اعتماد حلفائها الأوروبيين على الغاز الروسي.
ويرى في حديث لموقع جريك سيتي تايمز greek city times، أن تفاقم الأزمة الأمريكية الروسية بسبب أوكرانيا هي سبب انهيار مشروع خط إيست ميد، إذ دفعت تلك المسألة الولايات المتحدة للبحث عن حلفاء، وبالتالي كانت تركيا واحدة من اللاعبين الذين يملكون مصالح في أوكرانيا، ولإغراء تركيا كان لابد من تجميد خط إيست ميد.
ويُدلل على وجهة نظره، في التقرير المنشور في يناير الماضي، بتوقيع تركيا اتفاقيات لبيع صفقة كبيرة من الطائرات بدون طيار إلى أوكرانيا، وهي الصفقات التي أثارت استياء روسيا.
إلى ذلك، يصف الصحفي والمحلل اليوناني ميكاليس إجناتيو، انسحاب الولايات المتحدة بـ"طعنة في الظهر" لكل من اليونان وقبرص وإسرائيل، متابعًا أن هذا الموقف الأمريكي "غريب وغير مفهوم" بالنسبة لمشروع قد لا يتم بناؤه أصلاً بسبب ظروف أخرى.
ويقول في تقرير نشره الموقع الإخباري اليوناني هيلاس جورنال، إنه يُطلب من الولايات المتحدة أي تمويل مالي لمشروع إيست ميد، إذ إن المشروع سيدعمه الاتحاد الأوروبي والشركات المنفذة للمشروع.
ويُتابع في التقرير المنشور في يناير الماضي، أن هذا الموقف الأمريكي يُهدد العلاقة مع اليونان التي تظل حليفًا مخلصًا لها، إذ لم تتسبب في أي مشاكل لها، مقارنة بتركيا التي دمرت كل الخطط الأمريكية في شرق المتوسط.
.. وأوروبا تتمسك
لكن مسؤول الإعلام بالمفوضية الأوروبية تيم ماكفي، يُوضح أن موقف المفوضية الأوروبية من مشروع إيست ميد "لم يتغير"، لافتًا إلى تصنيفه ضمن مشروعات الاتحاد الأوروبي ذات الاهتمام المُشترك المعروفة بـPCI بالفئة الخامسة، والتي اقترحتها المفوضية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وفي بريد إلكتروني أرسله إلى المنصة، يُعرف ماكفي مشروعات الاهتمام المشترك بأنها تلك التي تتم عبر الحدود بين البلدان الأوروبية من أجل إنشاء شبكة طاقة متكاملة ومرنة تضمن الحفاظ على البيئة. ويضيف أن قائمة مشروعات الاهتمام المشترك تخضع للاعتماد النهائي لموافقة البرلمان والمجلس الأوروبي في نهاية الأمر، مشيرًا إلى أن الجدوى الاقتصادية في متابعة خط إيست ميد ستعتمد على جدواه التجارية وقدرته المساهمة في أهداف أجندة الصفقة الخضراء الأوروبية.
ويُتابع مسؤول الإعلام الأوروبي، أن المفوضية قدمت دعمًا ماليًا للشركات المروجة للمشروع لأجل دراسة جدوى خط الغاز الاقتصادية، لافتًا إلى أنهم لم ينتهوا بعد من كافة أنشطة تطوير المشروع المُتبقية لاتخاذ قرار استثماري بشأن الخط، كما أن المتابعة في إنشاء خط إيست ميد تتوقف على جدواه الاقتصادية، فضلاً عن حجم الاحتياجات الإقليمية المستقبلية.
ووفقًا لماكفي، فإن الغاز الطبيعي سيكون المساعد في عملية التحول الناجح لبعض بلدان الاتحاد الأوروبي من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة، وذلك ضمن خطة خفض الانبعاثات الضارة.
وفي نهاية رده، يُلمح المسؤول الأوروبي إلى أن حرمان مشروعات الغاز الطبيعي من الانضمام تحت قائمة مشروعات الاهتمام المشترك PCI، وذلك بعد تحديث لائحة مشروعات الاهتمام المشترك، والتي تتطلب تماشي المشروع مع الأجندة الخضراء الأوروبية.
لكن البرلمان الأوروبي وحكومات دول الاتحاد وافقت على استثناء كل من قبرص ومالطا بسبب موقعهما الفريد "كجزيرتين أقل ارتباطًا بالبنى التحتية للطاقة الأوروبية"، يختم تيم ماكفي حديثه للمنصة.
.. ومصر تستفيد
من جهته، يقول المدير الإقليمي لشركة أيوس بترو الأمريكية المهندس يسري حسان، إن مصر سوف تستفيد من القرار الأمريكي بسحب دعم مشروع خط إيست ميد، ذلك لأن أوروبا تحتاج للطاقة، لا سيما الطاقة الكهربائية، باعتبارها محورًا هامًا في عملية التحول للطاقة النظيفة.
وفي حديث هاتفي، يُضيف للمنصة أن مصر قد تستفيد بشكل كبير جدًا من امتلاكها فوائض من الطاقة الكهربائية التي قد توجهها إلى أوروبا، ويمكن أن تُوقع عقودًا على المدى الطويل لتصديرها أيضًا. وبحسب بيانات وزارة الكهرباء الصادرة في يونيو/ حزيران الماضي، بلغ فائض الطاقة الكهربائية في مصر حوالي 28 ألف و500 ميجاوات.
وكانت الحكومة المصرية وقعت اتفاقًا للربط الكهربائي مع قبرص في مايو/ آيار 2019، عبر إنشاء كابل كهربائي، وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تم إتمام الاتفاق عبر توقيع مذكرات التفاهم لدراسة المشروع في العاصمة القبرصية.
ومنذ عام 2019، بدأت شركة يورو أفريكا Euro Africa تنفيذ مشروع ترويج الكابل الكهربائي، والعمل على دراسة الجدوى، وسيكون الكابل البحري ضمن خط يورو أفريكا الذي سيمتد حتى اليونان، والتي وقعت مصر معها مذكرة تفاهم في أكتوبر الماضي أيضًا.
قبل ذلك، وتحديدًا في مارس/ آذار 2018، كانت شركة يورو أفريكا، دخلت في تحالف مع شركة إيليا جريد البلجيكية EGI لإنشاء مشروع خط كابلات الكهرباء يورو أفريكا.
وشركة إيليا جريد Elia Grid تابعة لمجموعة إيليا البلجيكية، وهي أحد أربعة مشغلين لأنظمة نقل الطاقة الكهربائية في ألمانيا، ويبلغ عدد العاملين فيها حوالي 2100، وتصل طول شبكة نقل الطاقة الخاصة بها إلى 18.4 ألف كيلو متر من الجهد العالي، وتخدم حوالي 30 مليون مستهلك نهائي.
ووفقًا للموقع الإلكتروني لشركة يورو أفريكا، سيتكلف المشروع 4 مليار دولار، على أن تصل تكلفة المرحلة الأولى من المشروع 2.5 مليار يورو، والتي من المُقرر بدء تشغيلها بحلول ديسمبر/ كانون الأول 2023.
وتُضيف الشركة، أنه سيتم استخدام كابلات "التيار المباشر عالية الجهد" تحت سطح البحر في عملية الربط الكهربائي، بقدرة مبدئية 2000 ميجاوات، حيث سيتم ربط الشبكة الكهربائية للبلدان الثلاثة.
وهذا المشروع هو جزء من طموحات مصر لأن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة ومصدرًا للطاقة الخضراء إلى أوروبا. وتعهدت مصر بإنتاج 42% من احتياجاتها من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2035.
إلى ذلك، يوضح المدير الإقليمي لشركة أيوس بترو الأمريكية يسري حسان، أنه لا يمكن إدخال الطاقة الكهربائية المولدة من محطة الضبعة النووية ضمن الطاقة المتاحة للتصدير لأوروبا أو غيرها، في حال دخولها الخدمة في 2026، مرجعًا ذلك إلى أنها ستكون رخيصة الثمن مقارنة بالطاقة المولدة من الوقود الأحفوري "الغاز أو الفحم"، وبالتالي توجيهها للسوق المحلي سيُعظم من ميزاتها لمصر.
ويرى حسان أن مشروع خط غاز إيست ميد لن يُستكمل، ذلك لأن احتياطات الغاز الإسرائيلية "تافهة" مقارنة بالاحتياجات الأوروبية، والتي قد لا تكفي احتياجات القارة العجوز عامًا واحدًا، بل حتى كل احتياطات منطقة شرق المتوسط أيضًا لن تكفي، أو تُؤثر في معادلة الطاقة الأوروبية.
ويُدلل المدير الإقليمي على كلامه بأن احتياطات الغاز الإسرائيلية تبلغ 20.8 تريليون قدم مكعب، مقارنة باحتياطي قطر البالغ 871.1 تريليون قدم مكعب، أو احتياطي الجزائر البالغ 80.5 تريليون قدم مكعب، وفقًا للتقرير السنوي الصادر عن شركة BP بريتش بتريليوم للعام 2021.
.. وتركيا توافق
الأستاذة المساعدة المتخصصة في القانون الدولي بجامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية إيميت جوزجيلي، تعتقد أن استخدام تركيا "كمعبر" لخط أنابيب لنقل غاز شرق المتوسط يبدو حلاً منخفض التكلفة، مقارنة بمشروع خط إيست ميد، مشيرةً إلى أن مسألة نقل الغاز من إسرائيل إلى تركيا نُوقشت مسبقًا.
وفي حديث عبر واتساب مع المنصة، تصف الخبيرة التركية خط أنابيب إيست ميد بأنه "مشروع خيالي - déjà vu"، ومن الناحية الفنية ستنعدم جدواه بسبب تكلفته المرتفعة، خاصة وأن استقرار هذا الأنبوب في أعماق البحر المتوسط "مثير للتأمل". فضلًا عن كونها ستُزيد من التكلفة الاقتصادية لنقل الغاز، لافتةً إلى أن إيطاليا حتى الآن لم تُقدم دعمًا واضحًا لخط الغاز.
كما أن مصر دخلت بقوة في تصدير الغاز الطبيعي المُسال لبعض البلدان، وفقًا للأستاذة بجامعة أنقرة، مضيفةً أن البلدان الثلاثة مصر وتركيا وإسرائيل تتسابق حول من يصبح "مركزًا للطاقة في المتوسط".
وترى جوزجيلي أن اليونان استغلت المشروع لتطويق تركيا، عبر استخدام استراتيجية مضادة للمواقف التركية؛ واصفةً استخدام اليونان لهذه السياسة بـ "الخطأ الكبير"، في إشارة منها لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان الموقعة في عام 2020.
وتُشير إلى أن إتمام المشروع يستلزم موافقة تركيا، كونه سيعبر داخل مياهها الإقليمية في البحر المتوسط، فضلًا عن ضرورة حل مشكلة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل لاستكمال المشروع، لافتةً إلى إمكانية إتمام الحل بوساطة مستشار الطاقة الأمريكي آموس هوكستين، في الاجتماع الإقليمي الذي دعا له الرئيس التركي رجب أردوغان.
وتلفت الأستاذة بجامعة أنقرة إلى عدم دخول المشروع ضمن أجندة الصفقة الخضراء الأوروبية بسبب تكلفته المرتفعة، ولايوجد حل واحد لضمان أمن الطاقة الأوروبي، لكن المهم هو التعاون بين الدول.