اضطر خالد شلبي لإغلاق جزارته بضعة أيام خلال الشهر الجاري لتخفيض نفقاته، فهو متخصص في بيع اللحوم البلدية التي وصل سعر الكيلو منها إلى 170 جنيهًا. يتوقع جزار حي الفردوس في السادس من أكتوبر أن تتراجع مبيعاته بقوة.
ليست هذه هي الحالة الوحيدة، جزار آخر في زهراء مدينة نصر لم يجد بدًا من غلق محله هذا الشهر أيضًا، في ظل تراجع مبيعاته مع موجة الغلاء الأخيرة. أيضًا حاتم عبد العزيز، الذي تقع جزارته في عين الصيرة بحي مصر القديمة، حاول التمسك بمهنته التي ورثها عن أبيه، ولكنه فشل مع ضعف إيرادات الجزارة على البحث عن وظيفة أخرى.
تمثل اللحوم البلدية الاختيار الصحي للمصريين، مقابل اللحوم المستوردة التي تفقد الكثير من فوائدها الغذائية خلال فترة النقل والتخزين. لكن أسعار الاختيار الصحي أصبحت في صعود مستمر، وبينما يُرجع المستهلكون هذا الغلاء لجشع التجار، يقول الجزارون إن هوامش أرباحهم أصبحت أقل مع ارتفاع تكاليف المدخلات المستوردة، ويشكو مسؤولو الشُعَب التجارية من غياب دعم الدولة للمربين.
موجة من الغلاء
نالت اللحوم حظها من القفزة في أسعار معظم السلع الغذائية في مصر، نتيجة لتأثر أسعار المواد الخام على مستوى العالم بالحرب الروسية الأوكرانية وفقًا لخبراء، فتراوحت الأسعار بين 160 و180 جنيهًا للكيلو، ووصلت في أماكن ذات مستوى اجتماعي مرتفع مثل المهندسين وأحياء بالقاهرة الجديدة إلى 200 جنيه، بعد أن كان سعرها قبل هذه الأزمة دون الـ 140 جنيهًا.
وإذا تابعنا بيانات جهاز الإحصاء الرسمي عن الأسعار، سنجد أن متوسط سعر كيلو اللحم البلدي قبل ست سنوات كان أقل من مائة جنيه، تحديدًا عند 89 جنيهًا في يناير/ كانون الثاني 2016، واستمر في الارتفاع خلال السنوات التالية.
وتمثل تكاليف الإنتاج عاملًا حاسمًا في التأثير على السعر النهائي للحوم المحلية، والتي تلبي نصف استهلاك المصريين تقريبًا، حيث يصل الاكتفاء الذاتي من اللحوم إلى 45.5%.
والعامل الأكثر تأثيرًا في أسعار اللحوم المحلية هو الأعلاف المصنعة، فبحسب هيثم عبد الباسط، نائب رئيس شعبة القصابين، ارتفعت أسعار الأعلاف عالميًا بنحو 45% منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بسبب زيادة تكاليف شحن المواد الخام تأثرًا بتداعيات الحرب، وتعتمد مصر على استيراد نحو 70% من احتياجاتها من هذه الأعلاف.
"أسعار العلف في تصاعد مستمر حيث ارتفع سعر الصويا بنحو 100 جنيه للطن وسعر الجلوتوفيد المحلي بنحو 400 جنيه بين شهري فبراير/ شباط ومارس، وهي إحدى مكونات علف المواشي، ليزيد معها السعر الإجمالي للطن إلى 7650 بدلا من 6650" كما يقول عبد الحميد حمدي، أحد مربي المواشي بقرية ميت العطار في محافظة بنها للمنصة.
وانعكست أسعار الأعلاف بدورها على أسعار المواشي المباعة من المربين، حيث ارتفع سعر كيلو اللحم البقري (قبل الذبح) إلى 70 جنيهًا و71 جنيهًا للكيلو، بزيادة أربعة جنيهات عن أسعار ما قبل الأزمة الحالية، وفقًا لحمدي.
تمثل الجنيهات الأربعة التي أضيفت إلى سعر الكيلوجرام تغييرًا كبيرًا في ميزان السوق، وتؤثر على إجمالي بيع كيلو اللحم البلدي للمستهلكين، فكلما تحرك سعر الماشية الحيّة جنيهًا انعكس ذلك على تكلفته الإجمالية.
يذكر تقرير وزارة الزراعة الأمريكية، الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أن تكلفة أعلاف الحيوان في مصر تتراوح بين 45 جنيهًا إلى 60 جنيهًا في اليوم، مما يجعلها عبئًا على صغار المنتجين، زادت هذه التكلفة بشكل كبير في الفترة الماضية بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار الأعلاف، بحسب نقيب الفلاحين حسين أبو صدام في تصريحاته إلى المنصة.
عبد الحميد حمدي الذي يربي حوالي 150 رأسًا بقريًا وجاموسيًا، يشير إلى أن مبيعات الكثير من المربين في قرى محافظة القليوبية تراجعت بشكل كبير في الفترة الأخيرة، لزيادة الأسعار الناتجة عن التكلفة العالية.
انعكاسًا لذلك، تضرر كثيرون من القفزة الكبيرة التي حدثت في الأسعار، إلى الحد الذي دفع بعضهم إلى إغلاق محالهم.
مغلق مؤقتًا بسبب الغلاء
"لم أقدر على فتح محلي بالشكل المعتاد كل يوم، لمن سأبيع الكيلو بـ170 جنيهًا، وهي في الأساس سعرها غالي عن السعر الاعتيادي؟" يقول خالد شلبي للمنصة شاكيًا غلاء الأسعار الذي أثر على تجارته.
يدرك شلبي أن رفع السعر لن يحقق له أي عائد في ظل تراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين، وهو ما يلمسه بمعدلات بيعه الأسبوعية، وكذا بمعدلات استهلاكه للماشية، فسابقًا كان يذبح ما بين عجلين أو ثلاثة في الأسبوع، أما الآن فرأس واحدة من الماشية تفي بالغرض التجاري.
"سوق اللحوم في مصر في أزمة منذ عيد الأضحى الماضي ولم يشهد استقرارًا في الأسعار منذ بلغت الـ130 جنيهًا، بسبب نقص مصادر اللحوم البلدية وتقليل الكميات الواردة من السودان" كما يقول حمدي محمد، تاجر لحوم بمنطقة البحوث.
عمل حمدي في قطاع استيراد اللحوم سنوات طويلة بحكم انتمائه لعائلة تشتهر بمزاولة الجزارة، قبل أن يفتتح محلًا خاصًا بمأكولات اللحوم، لذا يعتمد بشكل أكبر على اللحوم المستوردة إلى جانب الحمراء، باعتبار الأولى أرخص سعرًا، لكنه يشكو باستمرار من جودتها مقارنة باللحوم البلدية.
"نمر بأسوأ أيامنا في سوق اللحم، فمثل هذه الأيام كانت حركة البيع لا تتوقف لاستعداد الناس لشهر رمضان، أما الآن فالمبيعات اليومية لا تصل إلى 10 % من سابق عهدنا" يقول محمد سعيد، صاحب محل جزارة بحي دار السلام، أحد الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية بجنوب القاهرة.
يبيع سعيد كيلو اللحم البلدي بـ160 جنيهًا، السعر الأكثر تداولًا في القاهرة والجيزة، فيما يطرح اللحم السوداني بـ120 جنيهًا، وهي أسعار لا يمكنه تخفيضها حتى لا يتعرض إلى خسائر على مستوى التكلفة الإجمالية.
"أصحاب الدخول يفضلون البلدي بكل تأكيد، لكن لو فلوسك على قدك أكيد هتعتمد على السوداني" كما يقول سعيد.
الهروب من الجزار
في مقابل شكاوى الجزارين، يرى مستهلكون من الطبقة الوسطى أن جزار الحي يبالغ في تقدير أرباحه، لذا يلجأ الكثيرون إلى البحث عن جزار بديل في حي شعبي مماثل للحصول على سعر أقل، أو للبحث عن اللحوم البلدية في منافذ الدولة لتجارة التجزئة، سواء منافذ وزارة الزراعة، أو المجمعات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين، أو منافذ بيع اللحوم التابعة للقوات المسلحة.
إيناس عبد الله، من سكان هضبة الأهرام، قالت لنا إنها لم تعد تتعامل مع الجزار القريب منها بعد أن وصلت أسعاره إلى 170 جنيهًا للكيلو ولجأت لجزار في حي البساتين لازال يبيع اللحم بسعر 140 جنيهًا للكيلو.
ويقول عاطف الصعيدي، يسكن في حي الهرم، إنه لا يشعر بالغلاء بسبب اعتماده على منافذ وزارة الزراعة في شراء السلع الغذائية، والتي تقول إنها لا تهدف للربح، واشترى مؤخرًا 2 كيلو من اللحم البلدي، مقابل 120 جنيهًا للكيلو الواحد.
ويروي لنا أحمد مهدي، موظف بمستشفى الحسين الجامعي، تجربة مماثلة عن هجرته لجزار منطقته السكنية في الأميرية، بعد أن تأكد من جودة اللحوم البلدية التي تعرضها المجمعات الاستهلاكية والمنافذ التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع، التي تطرح أسعارًا غير تنافسية تستهدف بها محدودي الدخل.
إلا أن مهدي أشار لميزة غائبة عن هذه المنافذ، وهي تحكم المشتري في الجزء الذي يريده من اللحم المعروض، وهو الأمر الذي يعول عليه كثير من الجزارين في عدم استبدالهم هذه المنافذ بهم.
"اللحمة غالية"؟ ابحث عن المستورَد
البديل الأوفر أمام الأسر المصرية هو اللحوم المستوردة، وهي تباع أرخص من اللحوم البلدية بسبب كثافة استيرادها، لكن الكثير من الجزارين الذين التقينا بهم يحذرون من انخفاض جودتها.
"%80 من استهلاك مصر من اللحوم المجمدة يأتي من الهند والبرازيل بما يعادل 23 ألف طن سنويًا، البرازيلي مخصص للفنادق والمطاعم يباع جملة بـ130 جنيهًا، والهندي متاح عبر المنافذ بأسعار تلامس الـ60 جنيهًا نستورده لتحقيق التوزان في السوق" كما يقول عبد الباسط.
وتبين تقارير وزارة الزراعة الأمريكية أن البرازيل مصدر رئيسي للماشية لمصر من الماشية الحية المخصصة للذبح الفوري، لتكلفتها الرخيصة بالنسبة للمستوردين المصريين مقارنة بأسواق أخرى، فصدرت العام الماضي نحو 63 ألفًا و500 رأس من الماشية مقارنة بـ 94 ألف و602 في 2019 بانخفاض قدره 31 ألف و102 رأسًا وبنسبة 32 %، وفقًا للتقرير السنوي الصادر عن وزارة الزراعة الأمريكية.
وبحسب تقرير وزارة الزراعة الأمريكية، شطبت مصر ما يقرب من 70% من مؤسسات استيراد لحوم الأبقار من البرازيل، لقيام هيئة الخدمة البيطرية عمليات تدقيق الجودة وشهادة الحلال مطلوبة لإعادة الموافقة على هذه المؤسسات، وذلك في أعقاب إعلان البرازيل في سبتمبر/ أيلول الماضي عن ظهور إصابات لديها بمرض جنون البقر.
ولسنوات طويلة اعتمدت المجازر المصرية بدرجة كبيرة على المواشي الحية التي يتم استيرادها من السودان، وكونها تستورد حية هذا يحسن من جودتها في مقابل اللحوم المجمدة.
إلا أن هذا المنبع الثري تراجع خلال السنوات التي تلت الثورة السودانية بسبب الاضطرابات اللاحقة للثورة، وساهم في هذا التراجع أيضا إغلاق مزارعي الولاية الشمالية في السودان الطريق القومي الرابط بين البلدين بداية العام الجاري، احتجاجًا على زيادة أسعار الكهرباء، ما حال دون وصول شاحنات المواشي إلى مصر.
وفي أبريل/ نيسان 2021، أعلنت أطراف مصرية وسودانية تضم الشركة القابضة للصناعات الغذائية وشركة جنوب الوادي للتنمية، مع شركة الاتجاهات المتعددة التابعة لوزارة الدفاع السودانية، عن تأسيس شركة مساهمة مصرية سودانية في مجال مشروعات الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعات الغذائية المختلفة، ما يفترض أن ييسر من حركة استيراد المواشي الحية واللحوم من السودان.
لكن تجارًا موزعين تحدثت إليهم المنصة قالوا إن هذا الاتفاق صب في مصلحة الحكومة فقط، حيث ضمن توفير اللحوم البلدية "الحمراء" في المنافذ التابعة للدولة، مثل المجمعات الاستهلاكية، لكن الجزارات الخاصة لم تستفد منه في ظل الاعتماد على أسعار القطاع الخاص، وهو ما لا يوفر لها هامش الربح الذي يتحقق عبر منافذ الدولة.
يضاف إلى العوامل السابقة أن "ثمة عزوف من التجار المصريين عن التعاقد على صفقات كبيرة لشراء اللحم السوداني بسبب تركيز الصادرات السودانية على عجول صغيرة يتم ذبحها في الحال، أو التعاقد على شراء كميات من اللحوم المبردة تذبح في السودان ما يعرضها للتلف، خصوصًا أن مدة صلاحيتها لا تتجاوز الـ 14 يومًا، وهو ما يعني أن عدم بيعها سيعرض التجار لخسائر باهظة" كما يقول مصدر وثيق الصلة بحركة الاستيراد.
كيف نحسن من الاكتفاء الذاتي؟
يرى خبراء تحدثت إليهم المنصة أن السبب الأساسي وراء ارتفاع أسعار اللحوم البلدية، ليس استغلال الجزارين، ولكن غياب الدور الحكومي في تعزيز الإنتاج المحلي.
"مصر تعتمد على الخارج في الجزء الأكبر من استهلاكها من اللحوم سواء في شكل عجول حية أو مجمدة بسبب عدم التخطيط بشكل جيد لتعزيز ثروة الإنتاج الحيواني" كما يقول نائب رئيس شعبة القصابين بغرفة القاهرة التجارية.
وتتبنى الدولة منذ عام 1983 مشروعًا قوميًا للتوسع في منح القروض الميسرة لمربيّ المواشي بهدف تعزيز إنتاج لحوم البتلو، وتعرض المشروع لبعض العثرات خلال تطبيقه، ثم تجدد الحديث عنه منذ 2017 مع توفير مخصصات مالية كبيرة لتعزيز منح القروض للمربين.
وفي نفس العام، أي 2017، فرضت وزارة الزراعة على المربين عدم ذبح عجول الجاموس والبقر من الذكور قبل بلوغ وزن 400 كيلو جرام، لتعزيز فرص تكاثر المواشي المحلية.
لكن نائب رئيس شعبة المستوردين بغرفة القاهرة، سيد النوواي، لا يتوقع أن يحقق مشروع البتلو المرجو منه على المدى القريب، بسبب ضعف أرباح تربية المواشي."تربية العجول لم تعد مجدية، فسعر شراء عجل صغير لن يقل عن 15 ألفًا ويقضي فترة لا تقل عن 8 أشهر في تسمينه، يتكلف المربي خلالها ما لا يقل عن 50 جنيهًا يوميًا مع تقدم عمره (بحيث تصبح التكلفة الإجمالية حوالي 27 ألف جنيه)، وزادت هذه التكلفة بنسبة تصل إلى 20% خلال الأيام الأخيرة، ولا يتحصل المربي في عملية بيع العجل بعد تسمينه على أكثر من 30 ألف جنيه" كما يقول وليد عبدالله، أحد مربي الماشية في الشرقية.
ورغم ضغوط تكلفة الإنتاج، فإن الجهود الحكومية الحالية تمثل فرصة متواضعة لإحداث قدر من التوزان في سوق اللحوم البلدية، حيث تقول وزارة الزراعة إن مشروع البتلو نجح في تمويل 39 ألف مربٍّ للمواشي.
"يظل مشروع إحياء البتلو محاولة مهمة لتحجيم استيراد اللحوم وتعزيز إنتاج اللحم البلدي، رغم تحفظي على تحميل المربين تكلفة الأعلاف والكثير منهم يعاني من تدني الظروف الاقتصادية" كما قال لنا حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين.
تبدو أزمة ارتفاع أسعار اللحوم في الأسواق المصرية انعكاسًا مباشرًا لزيادة أسعار الكثير من السلع والمواد الخام، تأثرًا بالحرب الروسية- الأوكرانية، غير أن شهادات "أصحاب التجارة" تشي بأنها ليست أزمة عابرة كغيرها، بل فاقمتها الحرب، طالما بقي الإنتاج المحلي من اللحوم البلدية لا يراوح مكانه.