في أحد شوارع المطرية التي لا تخلو من المارة والسيارات طوال اليوم، وقفت امرأة أربعينية في عرض الطريق لتستعرض قوتها التي لا تنقصها الجرأة أمام أخرى، فخلعت عبائتها السوداء لتقف بملابسها الداخلية ووجهت حديثها لغريمتها "انتي فاكرة نفسك مين؟ ده أنا قالعة... ومش هاممني"، لتبادلها الأخرى الردود الحادة.
كان هذا في إحدى الليالي الباردة بشهر يناير/ كانون الثاني من عام 2017، وبينما كان أحمد رمضان عائدًا من المطرية بعد زيارة لأحد أصدقائه، وجد تلك المشاجرة، التي أكثر ما أثار دهشته فيها هو عدم اقتراب المارة من المرأة التي خلعت ملابسها، أو محاولة التحرش بها مثلما يحدث في أماكن أخرى يعتبرها راقية، ليخبره صديقه أن هذا قد يحدث بين السيدات في المناطق الشعبية عند الشجار، فتخلع إحداهن ملابسها "اللي هو لو راجل بص، وفعلا محدش قرب منها ولا بص لها".
"هي كانت لابسه حاجة أقرب للشورت وفوق فانلة قصيرة، وده كان غريب جدًا بالنسبة لي إن كمان محدش فكر يدي لها العباية تلبسها تاني، ولما عملت كده لقيت ناس داخلة تهدي الست التانية علشان تمشي".
رمضان الذي يبلغ من العمر 34 سنة، يعمل مهندس كمبيوتر، ويقيم بالعباسية، التي لا يعتبرها إحدى "المناطق الراقية"، لكنه لم ير بها مشهدًا مماثلًا لما رأه عند عودته من زيارته لصديقه.
عند الحديث عن الملابس الداخلية، وخاصة النسائية، تتبادر إلى أذهاننا ثنائية الإثارة والجنس، التي رسختها الصورة النمطية لتلك الصناعة ووسائل الدعاية لها، لكن ثمة مصطلح آخر لا يمكننا إغفاله وهو "السطوة"، من خلال رسائل غير مباشرة ترسلها تلك الملابس، وهو ما سعت إليه المرأة في المشاجرة.
"لو راجل بص"
ما رواه أحمد، يتكرر في مناطق شعبية مختلفة، ففي رملة بولاق، شاهد الصحفي ماجد عاطف موقفًا شبيهًا، من سنوات عدة، ففي عام 1996 كان برفقة زميل له بالمنطقة، ليجد واحدة من السيدات تبيع المواد المخدرة، دون ارتداء سروال داخلي، ليظن في بداية الأمر أنها محاولة لإغراءه، وظل هذا الموقف عالقا في ذاكرته لا يعرف سببًا أو تفسيرًا له.
ويروى عاطف للمنصة، أنه بعد مرور سنوات، دار حديث بينه وبين عدد من التجار بشادر السمك في الجيزة، حول سيدة تدعى "الحاجة زينب"، واحدة من العاملات بالشادر حينها، ودار الحديث حول قوتها وسطوتها، حتى إنها تخرج دون ارتداء سروال داخلي "أنا مشفتش الست دي بعيني بس الجملة معناها بيدل عن دلالات الملابس دي والقوة والسيطرة مش بس الجنس والمعاكسات اللي ممكن تيجي في بال حد عند الكلام عن الهدوم دي أو عن ست من غيرها واللي هو لو راجل بص".
العلوم الاجتماعية ربطت بين الملابس والمجتمعات، والرسائل التي من الممكن أن تصل من خلال تلك الملابس، وهو ما يؤكده الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية، ففي الماضي كنا نرى النساء يخلعن "الملاية اللف" في المشاجرات، دليل على "استبياع" المرأة وتحديها للأخرى، وهذا هو المعنى الحرفي لـ "فرش الملاية" إذ كانت تتربع على ملايتها بعد خلعها، دليل على تفرغها للشجار والمواجهة، وهو ما بينطبق كذلك على الملابس الداخلية "تخلع السيدة الملابس التي تسترها دليل منها على القوة في المناطق الشعبية".
تلك السيطرة التي يتحدث عنها صادق لا تمارسها النساء ضد بعضهن بعضًا فحسب، ولكن ضد الرجال أيضًا، فترى الكاتبة الفرنسية البارونة دورشامب، التي صدر لها منذ أكثر من مئة عام، كتاب بعنوان كل أسرار المرأة أن الملابس الداخلية هي أداة قوية تمنح المرأة سيطرة على دماغ الذكور.
السروال الداخلي كرمز للكرامة
ولا يمكننا إغفال تلك السطوة التي يمارسها رجال على أقرانهم بدافع السيطرة والإذلال، ففي المناطق الشعبية أيضًا، يُعد خلع الملابس الداخلية للرجل بمثابة عقاب مُُذل.
فتوح سمارة، أحد البائعين بمنطقة بولاق، قال إن هذا يحدث من رجال الداخلية مع الباعة الجائلين والسائقين في المنطقة "الضابط بيجي علشان يُحطـ علينا، بيقلَّع اللي هو عاوزه هدومه الداخلية ويعلقها على أي عربية فاكهة ولا أي عمود، وبيكون بكده علِّم عليه في الحتّة، ومحدش بيقدر يتكلم علشان ميتعملش فيه كده".
يتذكر فتوح حين كان طفلًا يلهو مع أصحابه في المنطقة، والفائز ينزع ملابس الآخر دليلًا على الفوز والانتصار، والذي ترسخ داخله ليراه عند كبره بنفس المنطقة التي تربى وعاش بها، فصاحب النفوذ الأكبر يسيطر على الأضعف منه بتلك الطريقة، كما يسيطر الزوج على زوجته، والمرأة على مرأة مثلها، وعلى الرجل أيضًا.
فرض السيطرة والسطوة باستخدام الملابس الداخلية لا نراه في المناطق الشعبية فحسب، لكنه تصل للمجتمعات المختلفة بأشكال متنوعة، سواء في الريف أو الحضر، سواء سيطرة المرأة على امرأة مثلها، أو سيطرة الرجل على المرأة نفسها، مثل ما يحدث في النوبة، في طقوس الزفاف، وما تحمله تلك من رغبة في السيطرة الخفية من قبل الرجل تجاه زوجته.
المخرجة حفصة أمبركاب، التي ولدت وتربت في النوبة، ورأت تراثها، تروي للمنصة أنه عند عقد القران، يشتري العريس لعروسه "الشيلة"، المكونة من احتياجات خاصة بالعروس، من ملابس وأدوات تزيين وغيرها، وفي تلك الشيلة توجد حقيبة صغيرة مغلقة، بها الملابس الداخلية للعروس، وهي التي يختارها العريس أو إحدى قريباته لترتديها العروس، ليعكس هذا الطقس اتجاهًا للسيطرة الخفية، باختيار العريس ملابس عروسه الداخلية دون رأيها.
تلك العادة تمارسها بعض الأسر ذات الجذور النوبية، حتى عند مغادرتها للنوبة، كما روت أمبركاب "لو العريس والعروسة هيعملوا فرحهم في القاهرة أو هيعيشوا فيها بيلتزموا برضه بالتقاليد دي، ولأن البنت أو العروسة بتتكسف تتكلم مع العريس عن الهدوم أو الحاجات اللي بيشتريها لها، فمش بتختار الهدوم دي اللي هي الداخلية، والعريس اللي بيختارها لها، ويا إما يشتريها بنفسه أو يخلي أخته ولا مرات أخوه تشتريها هي، ويقدمها هو للعروسة".
في مقابل تلك السيطرة، يحرص الزوج على إخفاء تلك الملابس عن أعين الآخرين بعد الزواج، "بعد الجواز الهدوم الداخلية البنت أو الست بتنشرها في الحمام، ولو جه حد يزورهم من أقارب أو حد يبارك، جوزها بيدخل الحمام يشيل الهدوم دي علشان مينفعش حد يشوفها"، تقول أميركاب.
الملابس الداخلية كرمز سياسي
إشارات الملابس الداخلية لم تغب عن الزعماء السياسيين أيضًا، فظهر الرئيس الراحل أنور السادات في صورة شهيرة وهو يحلق ذقنه بملابسه الداخلية، وهي التي علق عليها الدكتور محمد عفيفي، رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة، أمين المجلس الأعلى للثقافة الأسبق، أن السادات كان "داهية"، معتبرًا أنه استهدف جذب انتباه الغرب، ليظهر أمامهم بمظهر الرئيس البسيط.
وبالطبع كان في ذلك نوع من القوة، إذ لم يخش أن تهتز صورته في الداخل أمام محكوميه.
تكرر الأمر بوجه آخر مع صدام حسين، فنشرت صحيفة صن البريطانية المملوكة لشركة نيوز كوربوريشن لصاحبها الملياردير الأمريكي روبرت مردوخ عام 2005 مجموعة من الصور التي تظهر الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في زنزانته في العراق وهو في ملابسه الداخلية، تحت عنوان "الطاغية في سرواله الداخلي"، في رسالة واضحة من الجانب الأمريكي بالسيطرة على "الطاغية" وإذلاله.
وبالعودة للوراء أكثر، نجد مقتنيات نادرة لملوك من المصريين القدماء، منهم توت عنخ آمون، الذي اُكتشف عدد من مقتنياته عام 1922، وجرى العمل على ترميمها، وجاء من بين 500 قطعة 174 قطعة من ملابسه الداخلية، التي كان يقتنيها في مقبرته، واهتم بالاحتفاظ بها.وعن تلك السيطرة يروي صادق للمنصة، أنه في المدن الكبرى في العالم هناك متاحف تروي تاريخ الملابس الداخلية للنساء، والتي لا تستخدم للجنس فقط، ولكنها من خلال التاريخ تشرح كيف تعاملت مع جسد المرأة وسيطرت عليه لتخرج عقب ذلك تلك السيطرة بأشكال مختلفة، بين النساء والرجال أيضًا.
تلك الثنائية التي تبعد عن الجنس وتذهب للقوة لم تغب عن السينما أيضًا، ففي مشهد من فيلم خالتي فرنسا لعبلة كامل، قالت عبارة "والله لأقلعلكم ملط هنا"، عند دخولها في شجار، وهو ما تصفه المخرجة أمبركاب، بأنها تستخدم للتعبير عن القوة "القلع دلاله على إن مفيش حاجة أقدر أخسرها أو أتكسف منها، زي مصطلح مقطع بطاقته اللي بنسمعه عن شخص مستبيع أو مش هامه، فلما ده يتقال في فيلم أو مشهد يوصل للمشاهد على طول إن المخرج عاوز يوصل له رسالة إن الشخصية دي قوية ومش هاممها".
سافر أحمد رمضان أمريكا منذ 2020 للدراسة والعمل أيضًا، ولكنه ظل على اتصال مستمر بصديقه في المطرية من خلال مكالمات الفيديو بينهما، يتذكران معًا هذا الموقف الذي لم ينمحِ من ذاكرته، ويروى له صديقه وقائع مشابهة تكررت في السنوات الماضية، وما زالت تحدث إلى الآن بالمناطق الشعبية، تبدو لأحمد غريبة، وعادية لصديقه الذي يراها باستمرار دون الانتباه لرسائلها غير المباشرة.