مشهد من الفيلم- الصورة: IMDB

The Lost Daughter: الانفلات من الأم المقدسة

منشور الثلاثاء 15 فبراير 2022

تضعنا الأفلام دومًا أمام أسئلة نخشى مواجهتها، ربما لأنها قاسية جدًا، أو ربما لأننا في الواقع نتهرب منها حتى تصادفنا، فجأة، على شاشة العرض؛ يقدم أحدث أفلام نتفلكس The lost daughter، المقتبس عن رواية الابنة الغامضة للإيطالية إلينا فيرانتي، هذا الشكل من المواجهة، عبر حكاية غير تقليدية عن الأمومة.

لا تبدأ الأمومة من شهور الحمل التسعة، بل منذ اللحظة التي ينفصل فيها الجنين عن الرحم، ثم يدخل بعدها مرحلة جديدة وممتدة من الالتصاق الأبدي، وذلك حين تقيد الأم وثاقها في جسد طفلها الذي لا يرى من العالم سوى جسدها ويجاهد كي لا ينفلت عنه، هذا الالتصاق عينه هو ما تراقبه ليدا في علاقة نينا بصغيرتها، الالتصاق الذي عاشته من قبل، أو عانت منه بالأحرى مع بناتها، وكأن جسدها لا يزال يحتفظ بذكرياته مع ذلك القيد.

يقص الفيلم حكايته عبر وجهة نظر البطلة ليدا (أوليفيا كولمان) المرأة الأربعينية التي تقضي عطلتها الصيفية وحدها على الشاطيء، تراقب، عن بعد، المصطافين من حولها، حتى تبصر نينا الأم الشابة (داكوتا جونسون) وصغيرتها، فتتدفق إلى ذهنها كل ذكريات الماضي، خصوصًا صورتها القديمة كأم في بداية عشريناتها عالقة مع طفلتيها الصغيرتين قبل أن تهرب بعيدًا وتتركهما.

تقول المخرجة ماجي جيلنهال عن سبب اختيارها لهذه الرواية تحديدًا كي تخوض من خلالها تجربتها الإخراجية الأولى، إنها لم تخترها لأنها تتحدث عن الأمومة فحسب، بل لأنها تتحدث عن أمور خاصة جدًا دائمًا ما تشعر بها النساء لكنها لم تكن تقال من قبل بصوتٍ عالٍ، وكأنها قصيدة متصلة، منذ الشطر الأول وحتى الأخير، تذوب بنا في المشاعر ذاتها.

 

ماجي جلينهال تتحدث عن فيلمها.


ثلاث زوايا مرعبة

تضعنا مشاعر الأم أمام مسؤولية ثقيلة، ألقيت على عاتقها عبر السنين؛ أن كل معاناة للأبناء تتحملها وحدها، فهي من تهب الحياة منذ ينفلت الجنين من رحمها وحتى يتجول في الحياة بعيدًا عنها، ومن هنا يتربى بداخلها جنين جديد يكبر ويتمدد ولا يحين أبدًا موعد خروجه، جنين اسمه "الذنب".

وفي الرواية تفرد إلينا فيرانتي البساط أمام ذكريات الماضي لتستعيد مشاهد بعيدة من علاقة ليدا بابنتيها في مرحلة المراهقة، وهي المرحلة التي لم يتطرق لها الفيلم الذي اكتفى باستعادة طفولة البنتين، وخلال ذلك الاستدعاء من الذاكر تظهر لازمة تكررها ليدا دائمًا "وينتابني إحساس بالذنب"، وهو شعور يترسخ بداخلها لا تعرف تحديدًا مصدره، لكنه لصيق بكل النقائص التي تخص ابنتيها ولا تخصها نفسها، مثل أنهما لم يكونا في قدر جمالها، بل كانتا باهتتين، وأن شخصية ابنتها مارتا هشة ومنقادة خلف صديقتها.

في كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها تفكك إيمان مرسال المصدر الخامل خلف شعور الأم الدائم بالذنب، فالذنب لا يرتبط بالشعور بتقصير الأم تجاه ابنائها، ولا بتشتت المرأة الحديثة بين عملها وأمومتها، بل ينبثق من مساحة مختلفة تمامًا بعيدة عن المرأة نفسها؛ من النموذج المثالي للأمومة "حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم... الخ. قد يأتي أيضًا من التاريخ الشخصي للأمومة".

وبالوقوف عند النموذج المعتاد لصورة الأم المثالية، منذ الأساطير القديمة وحتى العصر الحديث، نجدها تورط نفسها في مقارنة صورتها بتلك الصورة الأمومية المثالية التي أجبرت على التشبه بها، وفي أغلب الأوقات يتم مقارنتها بصورة أمها المثالية بالضرورة، وإذا فشلت في الامتثال لتلك المثالية تتصدع وينفذ إليها شعورًا ضاربًا بالذنب تصبح أمامه عاجزة عن ممارسة دورها كأم، في حين أنه مجرد شعور خاطئ يصيبها وحدها ويهاجمها كشبح لا يفارقها.

من هنا تتمخض معادلة جديدة من ثلاثة زوايا مرعبة: الذنب، الابتزاز العاطفي، المثالية الزائفة.

في سردية موازية لا تتركنا الرواية أو الفيلم أمام شعور الأم بالذنب فقط، بل أيضًا في مواجهة الابتزاز العاطفي الذي عندما يمارسه الأبناء يتولد ذلك الذنب، ففي اللحظة التي تتذمر فيها الأم الشابة نينا من صغيرتها، تتجه الأخيرة بدورها إلى عمتها، تتقرب من جسدها وتستبدله بجسد الأم الذي اعتادت ملاصقته، وتقول إن عمتها أفضل منها، تهددها بنبرة حاسمة "إن عاملتني كما تعامليني الآن سألجأ دائمًا إليها، وسأرفض العودة إليكِ بعد اليوم". فتتبدل هنا لعبة التهديد بالاختفاء، وبدلاً من أن تمارسها الأم تقرر الابنة أن تمارسها مع أمها، وتتركها وحدها وتغدق عليها شعورًا قاسيًا بالتقصير وعدم الصلاح، فيتولد الذنب من جديد، وتقف وحدها مرتعشة أمام عدم مثاليتها.

يجلعنا ذلك نعيد النظر إلى جسد الأم الذي يختزل كل مفردات الحضور والغياب، وكل مشاعر الذنب الكامنة خلف ستار الأمومة المثالية الخانقة. جسد يبتلع هشاشته.

 

تريللر الفيلم.


الالتصاق الحميم

تصف ليدا في الرواية علاقة الأم نينا بابنتها، فتقول "لفتني في مرة أخرى الوقت الطويل الذي كانت تقضيه الأم والابنة معًا في الماء وقد عانقت أحدهما الأخرى، فيما لفت الثانية ذراعها حول الأخرى"، ثم تستطرد في أوصاف الروابط الجسدية بينهما، لكن ما يبدو أنه التصاق حميم، هو في الحقيقة خانق، كأن الصغيرة لم تنفلت بعد من جسد أمها بعد، فلا تزال تتشبث به بعنف وغضب أيضًا، بينما تتجاوب الأم وتمنح صغيرتها جسدها بالكامل، لكنه منح ثقيل يسلبها حريتها ويجعلها سجينة لا تقوى حتى على الفرار.

في منتصف الرواية تعود إيلينا فيرانتي لتفسر هذا الرابط بين الأم والابنة فتقول "كانت إلينا تخشى بالدرجة الأولى أن تفرّ منها أمها".

هنا تستقر العقدة الرئيسة التي تدور حولها الرواية والمعالجة السينمائية، الرغبة الملحة لجسد الأم في التحقق والانعتاق في مقابل التشبث القوي للأطفال به، وهو ما يفسر الوحدة التي تعيشها المرأة الأربعينية، إنها الوحدة التي اختارتها والترجمة لحالة الانعتاق التي حدثت لها قديمًا. 

ينفلت جسدا بطلتي الفيلم من صورة الأم المعتادة إلى المفهوم الأكبر للجسد، بل ويعيدنا إلى كل التعريفات المسبقة عن ماهية الجسد كانعكاس للذات، في كتاب أنثربولوجيا الجسد والحداثة يرسي ديفيد لوبوتون قاعدة هامة لفهم الجسد ورغباته من خلال القدرة على الإحساس بالعالم، فعبر الجسد تتولد حالة الاتصال الدائمة بالعالم، فإذا كان الإنسان لا يشعر بذاته وجسده إلا من خلال فعل الإحساس فإن إحساسه الدائم بالثقل يجعل جسده أشبه بحجر ثقيل يغوص في بحيرة راكدة فيصبح غائبًا وغير متصل بذاته والعالم من حوله، وهو بالتحديد الشعور نفسه الذي يمكننا قراءته في جسد الممثلة جيسى باكلى التي قامت بدور ليدا في شبابها كأم عالقة في جسدها ومتصلة بأجساد أبناءها، جسد تفضحه ملامح الاكتئاب والحزن والغياب الدائم عن عالمها المحيط.

كل هذه الروابط القوية والهشة في آن تعيدنا إلى سؤال جسد الأم وماهيته.

جسد الأمومة المقدس

يحمل جسد الأم قدسية خاصة، كمصدر العطاء والمنح، والمانح بدوره لا يرغب في شيء، في أساطير العالم القديمة كانت الإلهة الأم هي أصل الخصوبة في الأرض وكانت الآلهة الإناث هن الأمهات واهبات الحياة، بل إن المجتمعات الأمومية قديمًا أكسبت المرأة قوة وسلطة لا يستهان بها في الإدارة والتحكم بين جماعتها لأنها تمارس بفطرتها دورًا أموميًا يحمل قدرًا من السلطة، فأصبح جسدها مفردة دائمة للمنح والقوة، لا يملك رغبات خاصة أو بالأحرى لا يصرح بها، وكأن انفلات جسدها من مهامه المعتادة يعني تحطم قدسيتها وتخليها عنها، فأصبح كل تخلي عن دور الأمومة جرمًا يجرفها للذنب من جديد.

تقول ليدا بين سطور الرواية وهي تتذكر لحظة بائسة في مشهد أمومتها البعيدة "أشعر بجسدي بلا روح، بدون رغبات". هذا الوصف تحديدًا يعيد إلى بطلتي الفيلم، الأُمّان اللتان يفضحهما جسداهما ورغباتهما المكبوتة في الانعتاق: نينا، وليدا.

يمكنن استعارة وصف الممثلة داكوتا جونسون لتلك الحالة بأنها "الأشياء التي تقولها لشخص ما عندما تعني شيئًا مختلفًا تمامًا لأنك لا تقوى على قول ما تريده حقًا"، وهو ما تترجمه أيضًا المخرجة ماجي جيلنهال في توجيه بطلاتها لتعكس كل الصراعات الداخلية في تلك النظرات البعيدة لامرأتين تشعران ببعضهما البعض، واحدة ترى ماضيها الأمومي يتجسد أمامها من جديد في تلك الأم الهزيلة، والأخرى ترى مستقبلها في جسد هذه المرأة الأربعينية الوحيدة التي نجحت في التخلي عن بناتها، وهو ما يقودنا إلى سلسلة جديدة من المشاعر المضطربة.

محاكمة الأم المثالية

تقول ليدا مستعيدة شعور بعيد تجاه أمها "أتذكر تمامًا كيف كنت مقتنعة، عندما كنت في سن مارتا، أن أمي عندما وضعتني ونهضت عني كمن يشعر بالإشمئزاز فيبعد عنه الطبق بحركة من يديه. كان يعتريني الشك في أنها بدأت تهرب مني مذ كنت داخلها"، الأمر الذي يعيدنا بوضوح إلى "التاريخ الشخصي للأمومة" الذي تحدثت عنه إيمان مرسال؛ إنه سلسلة متصلة بين الماضي والحاضر، الشعور بالقبول والرفض، الحضور والغياب، تؤكد ليدا أن أمها كانت من نوع الأمهات التي تهدد أبناءها بالفرار من البيت، هل هذا يعني أنها أم صالحة؟ وليدا التي قررت في لحظة اكتئاب ويأس أن ترحل بعيدًا ونفذت قرارها هل هي أم سيئة؟

"لم يكن هناك وقت أخصصه لنفسي. شعرت بأني اختنق، شعرت وكأني أخون نفسي"، تقول ليدا.

لعل الحزن البادي على ملامح ليدا الأربعينية ينبع من إحساس يسيطر عليها بأنها نزعت عنها مثاليتها المطلوبة، تركت بناتها وركضت بعيدًا لتحرر نفسها من قيود لم تعد تتحملها، قيود بدأت بالأساس من جسدها الذي لم تعد تشعر به، وكأنها أضحت لعبة يتقاذفها الأبناء ويلوحون بها بعيدًا بينما لا تقوى على استعادتها.

تزرع المعالجة السينمائية للرواية جذورًا لفكرة خطيرة وشائكة أيضًا، إنها لا تقدم لنا حكاية عن أم سيئة تتذكر أنها تركت أبنائها لتختار نفسها بأنانية وتراقب عن بعد أم شابة ترى في عينيها معاناتها القديمة، بل يرمي الفيلم لما هو أبعد من ذلك، يخترق مساحة مختلفة أكثر إنسانية عن اختيارات الحياة المعقدة، الأمر لا يخلو من شعور ضاغط على الأم بالذنب، لكن هل تخطئ الأم حقًا إذا قررت أن تفتش عن نفسها بعيدًا عن الصورة التي أجبرت عليها؟

في المشهد الذي تسأل فيه العمة جارتها المصيفة ليدا عن أبنائها ترتسم علامات قلق على ملامحها، نشك للحظة أن خطبًا حل بأبنائها، لكن الأمر بالأساس يخص أمومتها، وكأن السؤال عن الأبناء يعيدها إلى مأزقها الأبدي "هل هي أم مثالية وجيدة فعلاً؟ هل أجادت هذا الدور حقًا؟" لا يمنحنا الفن أو الأدب إجابات للأسئلة الكبرى، لكنه يطرحها على الطاولة ويعيد النظر إليها بزاوية أكثر إنسانية.

ما من محاكمات أخلاقية هنا، ما من حديث عن المحبة والكراهية في الفيلم، إنه فقط حديث مفتوح عن كل المشاعر المدفونة في صدور الأمهات والمسكوت عنها لأنها جرح غائر يصعب الكشف عنه، بل إن كشفه يكلفهن الوصم بالعار، أُمُ تتخلى عن أمومتها؟ إنه جرم لن يغفره أحد، لأن أحدًا لن يفهمه غير الأمهات الحزينات من ضيعن بوصلتهن الخاصة ليزحفن على أرض قاحلة.