في حياة الشقي، أو ابن الليل، تظهر المرأة، على الشاشة، إما كعشيقة تتفانى في الحب حتى الموت، أو محرض يستطيع أن يحول بدهاء إنسان ما هامشي ضعيف وجبان إلى أسطورة إجرامية، وهي، أي المرأة، القادرة في كلتا الحالتين على الإيقاع به أو حمايته على السواء، أما في الواقع، فكيف تبدو تلك المرأة؟
ليس إنصافًا، بالطبع، اختصار المرأة في حياة "الشقي" في مجرد أنها وسيلة للمتعة، ولن يكون دقيقًا في الوقت نفسه إسناد جزء من جريمته إليها، لمجرد اقترانها به بأي صورة كانت، فأي دور إذن تلعبه النساء في حياة ابن الليل؟
النساء في عيون "الجماعة"
يثير الكتاب الممتع أفيون وبنادق.. سيرة سياسية واجتماعية لخُطّ الصعيد الذي دوّخ ثلاث حكومات، للكاتب الراحل صلاح عيسى، الصادر في 2020 عن دار المحروسة للنشر، تلك الأسئلة وغيرها، فقد تموضعت النساء في حياة محمد محمود منصور الذي عُرف بخُطّ الصعيد، لتشكل دوائر متداخلة، بين الأم التي مثلت القدر، والزوجة التي تشكل ما يمكن تسميته بـ "الواجب"، أما العشيقة/ العشيقات فهن المتعة في حياة الرجل الذي سقط قتيلًا بعد مناوشات دامية لسنوات مع وزارة الداخلية في الأربعينيات من القرن العشرين. وقبل أن أنسى، قُتل الخُطّ في أغسطس/ آب من العام 1947.
اللافت أن الملاحظات والمعلومات وحتى الاستنتاجات التي قدمها صلاح عيسى في كتابه عن النساء في حياة الخُطّ، هي بالأساس ملاحظات كتبها رجال، فالملازم محمد هلال "الذي اقتنص الخُطّ وطارده لمدة عام"، وكتب مذكراته بعد أن ترك البوليس وعمل بالصحافة، ومحمد حسنين هيكل، الذي كتب تحقيقين في آخر ساعة عن الخُطّ وقابل نساءً من عائلته، بالإضافة إلى أخبار وتحقيقات غير موقعة نُشرت في صحف تلك الفترة، كتبت كلها بواسط رجال في الأغلب، لذا ليس عجيبًا أن تجد توصيفًا لامرأة كانت عشيقة الخُطّ بأنها "دميمة عجفاء كالمعزة"، وأخرى عاملة جنس تم وصفها بهذا الشكل "كانت في ربيعها الخامس والعشرين، سمراء، فارعة الطول، قوامها نشوان معربد عربدة هامسة؛ شعرها أسود فاحم، وعيونها كعيون الخُطّ زرقاء كزرقة البحر الهادئ الصافي"، فهؤلاء لم يتخلوا وهم يمارسون عملهم عن الملاحظات التي يقدمها الرجال، عادة، عند وصف النساء، يبدو أن عيونهم كانت تعمل بالطريقة نفسها، تبحث عن مواطن الجمال والقبح في جسد المرأة حسب معاييرهم، وتختصرهن في ذلك فقط، دون الاهتمام بما هو أبعد من صاحبة القوام "النشوان المعربد" أو الأخرى التي تشبه "المعزة".
الأم الجهنمية
الخالة فضة هو الاسم الذي أشار به صلاح عيسى إلى أم الخُطّ، دون أن يقدم معلومات كثيرة عنها، حتى عن علاقتها بأبنائها الآخرين دون محمد، وكيف تدبرت تربيتهم، أو وعن الظروف التي عاشوا فيها قبل أن يصبح قائدًا لعصابة خطيرة ضم إليها بقية أشقائه.
ما يورده عيسى من معلومات قليلة تجعلها امرأة خطيرة، لعبت دورًا محوريًا في صناعة ما سيُعرف فيما بعد بمارد الصعيد/ السفاح/الخٌطّ، من المرحلة الأولى التي انتقل فيها من مجرد صياد مهمش إلى رجل يخوض معركة ثأرية مع شخص قيل إنه صفعه على وجه وأهدر كرامته "كانت خالتي فضة حزمة من الأعصاب المتوترة، الكارهة، ومنذ اللحظة التي بدأت فيها معركة الثأر بين الخُط وبين أسرة شيخ الخفر، كانت خالتي فضة هي نارها المتوقدة، وحطبها المٌشتعل، كلما خمدت وخفت أوارها، أشعلتها، بطاقة من الحقد الذي لا ينفد".
حاول عيسى أن يجد تفسيرًا لحالة الخالة فضة، لكن يبدو أنه افتقر إلى معلومات كافية لتحقيق ذلك الغرض، فقال إنها كانت "نمطًا غريبًا من النساء القويات"؛ تولد حقدها وحِدة طباعها من الظروف القاسية والعنيفة التي عاشتها، لكن دون بيان تلك الظروف على وجه التحديد، مجرد استنتاج إن حياة امرأة فقيرة في الصعيد لديها العديد من الأبناء، هي بدورها حياة صعبة وقاسية وتكفي لتوليد الأحقاد، من ناحية أخرى، ليس لدينا ما يدعم أن تلك المرأة هي من دفعت أبنائها إلى ارتكاب الجرائم كوسيلة لكسب الرزق والصعود الاجتماعي، يمكن أن تكون شجعت ابنها لكي يأخذ بثأره ممن أهانه بصفعة، لكن أن يتحول إلى قاتل محترف ويسحب معه بقية أشقائه، فهذا ما ليس عليه دليل.
وما يلفت الانتباه هو تصوير تلك المرأة عندما تم استدعائها بعد مقتل الخطّ كي تتعرف عليه، فوصفها صحفي معاصر، غالبًا هيكل، بأنها "امرأة جهنمية وحشية القسمات، خشنة الطبع، حادة الأخلاق، سليطة اللسان، حديدية النظر، لا تعرف الحياء، تكاد تلتهم من تنظر إليه".
لا أستطيع أن أنفي عنها ذلك، بالطبع، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن استبعاد أن الصورة النمطية قد تلعب دورًا في ترسيخ تلك النظرة عنها، فربما كان لدى الصحفي تصور مسبق لطبيعة المرأة التي أنجبت "خُطّ الصعيد"، فهي بالنسبة إليه ليست مجرد امرأة مغلوبة على أمرها في حياتها وحياة ابنائها، بل قد تكون منبع الشر ومصنع المجرمين، وربما تصور، أيضًا، ذلك بسبب عدم انهيارها لرؤية ابنها قتيل بعشرات من طلقات الرصاص، حيث فاجأتهم بتماسكها وإنكارها أن يكون ذلك القتيل ابنها، وقالت بنبرة قاطعة "إذا كان ده اللي قتلوه.. فده مش ابني.. شيله يا أخويا شيل.. ثم ضربت كفا بكف قائلة: هوا كل قتيل تجيبوني أشوفه؟! هيّ الحكاية رمي جتت واللا إيه. أما مصايب".
لكن ما يغيب عن صاحب ذلك التصور، أن الخط كان ابنها الأخير الذي قُتل على يد البوليس، وإن أحزانا كثيرة سبقته على أبناء آخرين، كما إنها كانت تتوقع أن يلقى ذلك المصير، وربما أيضًا لم ترد أن تُظهر ضعفها أمام من قتلوا ابنها فسخرت منهم وحطمت أعصابهم المتوترة أصلًا، عبر الإنكار الذي سرعان ما تراجعت عنه واعترفت أن الجثمان لابنها، وركبت مع جثته بصحبة زوجته وابنه الرضيع السيارة التي جابت بهم القرية معلنة عن نهاية أسطورة السفاح مارد الصعيد.
ما رأيته حقًا فيما يتعلق بخالتي فضة، هو ذلك المشهد الذي يقول إنها كانت تقف على باب منزلها، وفي يدها مدفع رشاش، تحرس الطريق عندما ينزل ابنها من الجبل كي يمارس الحب مع زوجته رشيدة؛ كانت تعرف أن ابنها خائف، وأنه في تلك الدقائق يجب أن تكون هي من تحميه من الناس، من البوليس، لا أستطيع تصور أن حياة ابنها الخطرة كانت تروقها، أو أنها كانت تراها أفضل من حياته السابقة كصياد بسيط، لكنها ربما تشعر بوعي أو دون وعي أنها كأم لم تقدم له حياة بديلة، لا تعليم ولا مال ولا سبل للحياة الكريمة، وأن الطريق الذي سلكه طواعية بعد أن اكتشف قدرته على القتل، كان هو الأفق الوحيد لمن هم في مثل ظروفه، وربما كان فرصة لتعويض سنوات الانسحاق أمام الأغنياء والأعيان، أما هي فلم يقل لنا الكتاب إلى أي مدى استفادت من عمل ابنائها كمجرمين، ظلت فقيرة معدمة تسكن المنزل نفسه وتشاهد سقوط أبنائها الواحد تلو الآخر.
نفيسة
نفيسة جابر ليست زوجة أو عشيقة الخُطّ، ولكنها امرأة ساهمت بصورة غير مباشرة في تدعيم سلطانه، فبعد فترة من نشاطه أدرك أنه في حاجة إلى تدعيم عصابته برجال جدد، بعد أن سقط الكثير منهم قتلى على يد البوليس؛ لذا قرر أن تندمج عصابته مع عصابة عواد، وهو ابن آخر من أبناء الليل، وكانت نفيسة شقيقة أحد رجال خط رمز تلك الوحدة بين العصابتين، بعد أن أُعجب بها عواد، وتزوجها عنوة على غير رغبتها "كانت في حوالي السادسة عشرة، جمالها أقل من المتوسط".
كان منطق نفيسة في رفضها ذلك الزواج، هو أن مصيرها سيرتبط "برجل محكوم عليه بالإعدام، طال الزمن أم قصر، رجل يعيش كالخفافيش، يختفي نهارًا في متاهات الجبل، وتتنمر عيونه ليلًا، وفي كل لحظة ينتظره قضاؤه، ممثلًا في رصاص البوليس أو المنافسين، أو حتى الأعوان"، وذلك ما حدث بالفعل، حيث إنها تزوجت عواد وأقامت معه في الجبل، ثم نُقلت إلى منزل أحد الملاك في قرية موشا، ليهبط إليها زوجها من الجبل في بعض الليالي "يبيت أو يمضي ساعة وبعض ساعة، ثم ينطلق إلى حياته الغريبة..". كان ينام وبجواره بندقيته، ومع ذلك قُتل في ذلك المنزل دون مقاومة على يد شيخ الخفر.
المرأة النصف
واحدة من أغرب النماذج الإنسانية هي شخصية حميدة، التي قدمها عيسى باعتبارها آخر عشيقات الخُطّ، لكنها امرأة بلا تاريخ، تُركت من دون تفاصيل توضح دوافع سلوكها، فهي زوجة مدبولي خفير وابور مالطي، معقل الخُطّ ومقره الثابت، "إنّ مارد الصعيد يُقيم الآن في الدور العلوي من الوابور. ينام على السرير السّفري الصغير، حيث تُشاركه الفراش -أحيانا- حميدة زوجة الخفير مدبولي، وفي كُل الأحوال -حتى وهو في أحضان حميدة- فإن الخُط لا يغفل لحظة عن مدفعه الرشاش (..) فيتنبه لأي هجوم، ويُبادر إلى الفرار".
يبدو أن أحدًا لم يهتم بالتحدث إلى حميدة، واكتفى الملازم هلال بوصفها "دميمة عجفاء كالمعزة، ولكنها -بلا جدال- امرأة عاشقة، ألا إن نظرة واحدة إليها تكفي لضبط أدلة العشق فيها. كانت مهيأة بزينتها كأنها عروس: كحلت عينيها بطريقة يعتبرها الكثيرون في الصعيد لا تليق إلا بالساقطات من النساء، وكانت عُصبة رأسها حمراء، مائلة على جبينها، وشعرها نظيفًا يلمع من كثرة تنظيفه بالجاز، وكانت تلبس شبشبًا وكعب رجلها يبدو منه نظيفًا من كثرة حكه بالحجر وغسله بالماء؛ وهذه علامات لا تخيب على أنها عاشقة".
تبنى هلال تفسيرًا يقول إن السبب الوحيد الذي جعل حميدة عشيقة للخُطّ أنه حوصر داخل وابور مالطي، ولم يعد حرًا في الذهاب إلى بيوت البغاء أو التردد على عشيقاته الأخريات "فأُجبر على الاكتفاء بامرأة نصف باعتبار أنها -على حد تعبير الخواجة محروس- الموجودة والسلام".
يبدو أن هناك العديد من الرجال الذين "أشفقوا" على الخُطّ الأشقر صاحب العيون الزرقاء من معاشرة تلك المرأة، لكن أحدًا لم يهتم بأن يعرف ما هي دوافعها ولماذا وكيف بالأساس استطاعت أن تقيم علاقة جنسية مع رجل في وجود زوجها في المكان نفسه، أي امرأة تلك؟ أي ظروف صنعتها؟ وما مصيرها؟ لم يهتم أحد بـ "المرأة النصف".
عشق وكبرياء
ماذا يعني أن تكون زعيما للمجرمين؟ سفاحًا.. ابن ليل.. مطاردًا من البوليس وحليفا لـ الأعيان؟
بصيغة أخرى، كيف كان سلوك محمد محمود منصور يترجم وضعه الجديد؟
يقول صلاح عيسى في كتابه "على "العشق" تبدد الكثير من عائد "العنف". كان الخُطّ يهوى النساء، ويشرب النبيذ، ويتعاطى الأفيون. ألوان من الشبق المكثف للحياة، كأنه كان يعلم أنها أقصر من أن يأخذها بالحكمة، أو بالتزمت"، ويشير أيضًا إلى أن أولاد الليل عمومًا كانوا ضيوفًا دائمين في بيوت البغاء، ويبدو أن إنفاق الأموال على عاملات الجنس كان منطقة من مناطق النفوذ وإثبات الذات، كما أن التي تُعرف بأنها عشيقة الخُطّ سيكون لها وضعًا مميزًا عن الأخريات.
هكذا احتلت سميرة مكانة متميزة، بالمقارنة بغيرها من النساء، في كتاب صلاح عيسى، أو ربما كان ذلك انعكاس لما توفر عنها من معلومات في مذكرات الملازم محمد هلال، التي يبدو أنها أثارت اهتمامه كثيرًا، وإن لم يكن أكيدًا أنها تحتل المكانة ذاتها في حياة الخُطّ نفسه، أميلُ إلى اعتبارها مجرد امرأة، عشيقة أخرى بين عشيقات، لم تكن الوحيدة ولا حتى المفضلة، لكن الكتاب أوحى بغير ذلك.
حاول هلال كثيرًا أن يجعلها مساعدة له في خطته لكنها كانت ترفض باستمرار، وكان لها منطقها الخاص في حماية عشيقها، لكن هذا المنطق كان دومًا يثير دهشة هلال، يبدو أنه كان يرى إنها تعبر عن مجموعة من الأفكار والمشاعر لا تتناسب مع مهنتها أو شخصيتها، شخصية "العاهرة"، هنا أيضًا تلعب الصورة النمطية دورًا فيما يصلنا من معلومات وملاحظات.
سميرة امرأة أخرى في حياة الخُطّ بلا تاريخ، لكن الكتاب يحاول أن يجعلها المقابل الأنثوي لبطل الحكاية، رغم اختلاف أدوارهما، حيث أرجع عيسى انتشار الجرائم الجنائية إلى موجة العنف التي شهدتها مصر خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها، بالإضافة إلى شعور الإنسان المصري (رجل وامرأة) بأنه يعيش في ظل احتلال يمتهن كرامته، وسلطة متبلدة الإحساس تجاه مشاعر الناس، في ظل انتشار الأوبئة وارتفاع الأسعار واختفاء السلع، فانغمس الرجال في ممارسة العنف بما فيه السياسي، أما النساء فـ"انزلقت بنات الأسر "المستورة" إلى هوة البغاء -وكان رسميًا- فتاجرن بأجسادهن في أسواق الحرب ليأكلن، فمرت فوقها جيوش الحلفاء، محققة النصر، في حرب لم يكن لمصر ناقة فيها ولا جمل".
لذا، لم يكن مدهشا أن يكون بين الخُطّ وسميرة لغة تفاهم، بل مشاعر حب عميقة، وصفها الكتاب بأنها كانت أكثر قربًا له من زوجته، وأنها قاومت كل الإغراءات التي قدمها محمد هلال للتعاون معه، ورفضت 500 جنيًها، وكان هذا مثار استنكار هلال، فكيف لرشيدة زوجة الخُط أن تقبل التعاون معه، وترفض هذه "العاهرة" التي تبيع جسدها في سوق المتعة.
لمست سميرة جانبًا من الخُط لم يكن مرئيا بالنسبة لزوجته، قالت عنه "إنه شاب طيب، فيه ذخيرة وفيرة للرجولة النادرة، وأنه عطوف ورقيق القلب، وأنه كان صادقًا في حبها؛ كان يغار عليها، وكم بكى وبللت دموعه عتبات دارها، شأنه شأن الحبيب الذي يشعر ويحس".
كانت سميرة تحبه ولم تحب إجرامه، قالت بصراحة إنها "لم تحب بشروط"؛ كما أنها لم تختر هذا الحب "أحبته والسلام". فلم يكن بوسعها أن تعيد تشكيله كيفما تشاء وكان الطريق المتاح هو أن تقبله كما هو، وأن تجد منطقًا تدافع به عن الجرائم التي يرتكبها، فقالت إن "الناس مجرمون، ولكنهم يختلفون في نصيبهم من الكذب، باختلاف قدرتهم على إخفاء جرائمهم وستر إجرامهم، والسبب في شهرة الخط الإجرامية -دون غيره- أنه مجرم صادق، صريح، لم يطلِ حقيقته بمادة الكذب، ولم يحاول إخفاء شخصيته".
لم يكن هذا المنطق فقط هو الذي يثير حفيظة الملازم هلال ويستفزه، كان "الكبرياء" أيضًا الذي رفضت به سميرة أن تتعاون مع البوليس، كما أنها جعلته يشعر بأنها هي التي تعتبر بمثابة "جارية" للمعلمة زينب التي تدير بيت البغاء، أقوى منه رغم كل ما حدث لها "كنت أعاني ألمًا نفسيًا مريرًا. أعاني خجلًا شديدًا من موقفي إزاء سميرة. لم يكن كُرباج المعلمة زينب أداة جلد، بل كان علمًا في مملكة العبودية، كان يعني أن سميرة إنما هي جارية للمعلمة زينب؛ تتصرف في بدنها كيفما تشاء: تهديه للرجال، أو تجلده بالسياط".
الزوجة المهجورة
من بين النساء اللاتي شكلن دوائر متداخلة حول شخصية خُطّ الصعيد كانت زوجته رشيدة الأكثر افتقادًا لمعنى أن يكون الإنسان سيد مصيره، أن يختار، لم تختر رشيدة أي فعل في علاقتها بزوجها في حياته الأولى كصياد وفي حياته الثانية كقاتل محترف مطارد من العدالة.
تزوجته وهي في التاسعة من عمرها "ولم تره خلال زواجهما أكثر من عشر مرات؛ فبعد الزواج بقليل نُفي إلى جبل الطور، وفر من المنفى، وعاد إلى أحراش الصعيد مطاردًا من الحكومة، ببوليسها وجيشها ومخابراتها".
يصفها الكتاب بأنها نموذج "للجمال الصعيدي: سمراء، دقيقة الملامح، وديعة، وطيبة.."، لكن العشر سنوات مدة زواجها بالخط غيرت الكثير وراكمت هموما وشحوبًا على ملامحها، وربما الوحدة أيضًا أو القسوة؛ قسوة الزوج وأمه.
لا أتفق مع صلاح عيسى كثيرًا في تفسيره لطبيعة العلاقة المتوترة التي جمعت بين الزوجين، يرى عيسى أن حياة زوجها القلقة غيّرت من تركيبته الإنسانية "إنه لم يعد هو نفسه محمد الذي زُفت إليه وهي في التاسعة"، وبعد أن صار "الخُطّ" وابتعد عن محمد محمود منصور أصبحا غريبين.
ربما تغيرت التركيبة الإنسانية لمحمد منصور بالفعل، بعد أن أكتشف الجانب العنيف فيه، وبعد أن انغمس في الدماء وحياة الليل القلقة والمتوترة بمطاردة الشرطة، لكن منصور كان لديه القدرة على إظهار الجوانب الهشة والضعيفة من شخصيته لعشيقته سميرة، وربما لأي عشيقة أخرى، بدليل أنهن كن مخلصات له إلى الحد الذي يمنعهن من الوشاية به أو المساعدة في قنصه، لكن مع رشيدة كان هو كما أراد، غامضًا وصامتًا وعنيفًا، لم يكن يسمح لها بأن تراه كرجل/زوجها بل كخُطّ الصعيد "كان الخُطّ يهبط من الجبل، فيسحبها بلا سلام ولا كلام إلى الحجرة، وفوق مرتبة حقيرة، وحصيرة، يمارس معها الحب صامتًا، ثم ينصرف عائدًا إلى الجبل دون أن يتنفس بكلمة".
كان الخط واعيًا للأدوار التي يلعبها، والجوانب التي يُظهرها ويخفيها من شخصيته، كانت الزوجة في حياته نقطة ضعف لم يرد أن يصبح كذلك، لم يبنِ معها أي علاقة إنسانية لأنه أيضا أراد ذلك، ربما كان له منطقه، وربما كان هذا المنطق أن عاملة الجنس تلك هي شخصية مؤقتة في حياته، يمكن أن يستبدلها ويأتي بغيرها، وهو ما حدث فعلًا، لكن الزوجة عندما تراه يبكي أو يعبر عن الجانب الطيب والمتسامح فيه ربما يغير ذلك من موازين القوة بينهما للأبد، مع أن هذا الأبد في حياة الخُطّ كان مدة قصيرة للغاية، ومع ذلك صنع بنفسه سياجًا يفصله عن زوجته ولم يتبق منه إلا تلك الممارسة التي يراها واجبًا عليه أن يؤديه دون أن يلزمه أحد ببعض المشاعر أو شيء من المعاملة الإنسانية.
ومع إن رشيدة لم تعترض على رغبة الملازم هلال في أن تساعده في الإيقاع بزوجها، لكنها لم تكن مفيدة أبدًا، ليس لديها أي معلومات، بالفعل لم تكن تعرف عنه شيئًا، حتى إنه لم يكن ينفق عليها أو يعطي نقودًا لأمه، تمر شهورًا ولا تراه، وعندما يأتي كان يمكث لبعض الوقت، لم يكن هناك حوارأو أي إشارات تسمح لها أن تقدم أي معلومة. كانت أشبه بالسجينة، وفي النهاية، ورغم جهود البوليس في استخدام النساء للوصول إلى الخُطّ، لم تكن أي منهن وسيلة مفيدة بأي صورة، بل إنهن لم يكنّ يُشكلن القوة التي تصورها الملازم محمد هلال فيهن من البداية. كان مقتنعًا بالمثل الفرنسي "فتش عن المرأة"، لكنه في كل مرة كان يعود مهزومًا؛ لأن المرأة في حياة خُط الصعيد لم تكن سوى شخص يلعب دورًا محددًا شديد التقليدية، لا مفاجآت فيه أو سلطة.
نساء الأشقياء على الشاشة
كانت السينما المصرية ومازالت لا تخفي إعجابها بشخصية مثل الخط، فبعد سنوات قليلة من نهاية قصته، أنتُج فيلم من بطولة فريد شوقي بعنوان الخارج على القانون، وعُرض لأول مرة عام 1951.
وفي سنة 1954 كتب نجيب محفوظ قصة سينمائية لفيلم الوحش، بطولة محمود المليجي وسامية جمال ومن إخراج صلاح أبو سيف، وهي مستلهمة من قصة محمد محمود منصور، لكنها محت جذور ونقاط الضعف في الشخصية الأصلية وأبقت على تعاطيه الأفيون، ومزجت عشيقاته في شخصية واحدة هي الراقصة نعسانة، المتزوجة من رجل غيور ومع ذلك تجاهر بحبها للوحش، دون أن نعرف الأسباب.
تطلب نعسانة من الوحش أن تعيش معه حياة هادئة، لكننا لسنا متأكدين أنها كانت ستحبه إن كان شخص آخر مجرد من كل القوة والنفوذ، أم أنها كانت ستراه نسخة مكررة من الزوج الضعيف والفقير والجبان.
لكن في التجربة التالية، فيلم سلطان الذي أنتجه رمسيس نجيب سنة 1958، من بطولة فريد شوقي وإخراج نيازي مصطفى، فكان نسخة أفضل حاولت أن تنسج خيوطا قوية في ماضي سلطان الطفل والشاب، ومنحته ملامح إنسانية بالغة الرقة والحنان والصبر مع القوة الجسمانية المعطلة التي وجدت طريقًا للكشف عن نفسها بعد تعرضه لمجموعة من الأحداث ضغطت عليه ودفعته لممارسة العنف.
اللافت في هذا الفيلم هي المبالغة في تصوير دور المرأة في صناعة شخصية سلطان رئيس العصابة، حيث أُسند إليه أدوار محورية في تحويل شخصيته، حتى أن نهايته جاءت بسبب امرأة، واختيار برلنتي عبد الحميد وسميحة توفيق حمل دلالات قوية على السيطرة اللائي مارسنها على سلطان في مراحل مختلفة، فالأولى كانت خطيبته لكنها تتآمر عليه مع المكوجى، وعندما صعد إلى الجبل مختبئًا وجد المرأة الثانية فكيهة، التي تعتبر نفسها شريكة في إدارة عصابة لسرقة وقتل الباحثين عن المتعة من الريفيين.
تستمتع فكيهة بالقتل بممارسة العنف، ولا تتأثر عند قذف الناس من فوق الجبل أو عندما يتألم سلطان بعد أن تتأخر جرعة الأفيون.
كانت شخصية ثعبانية، تبحث عن المال والنفوذ والمتعة بأي وسيلة، كما أن إذلال البشر وسحقهم يشكلان بالنسبة إليها متعة إضافية وسلطان كان واحدًا من هؤلاء إلى أن تكتشف فيه قوته الجسدية، فتقرر أن تستغله، هو أيضًا سيستغلها على طريقته، سيجعل منها وسيلة للصراع على السلطة مع المعلم، واقتنائها كان علامة أخرى على انتقال تلك السلطة من المعلم إليه، لكن أول قرار سيتخذه كزعيم جديد للعصابة هو أن يتخلص منها؛ لأنه قرر أن "يشتغل بشرف"، بعد أن ألغى عمل نساء العصابة بالدعارة، وقال لها "خليكي بعيد عني أحسن لك.. ارجعي لأهلك وتوبي".
كانت المرأة عنصرًا محيطًا بخُط الصعيد (الأصلي)، تلعب أدوارًا محددة في نطاق ضيق، لكن في فيلم سلطان كانت هي من صنعته وحولته من إنسان بسيط ساذج محدود الطموح إلى زعيم عصابة تمارس الجريمة المنظمة للحصول على المال، وكانت نهاية سلطان كنهاية محمد منصور؛ القتل على يد البوليس مع فارق بسيط أن الذي ساعد البوليس امرأة أخرى.
الآن، هل يمكن أن نتصور طبيعة أدوار النساء في حياة ابن الليل؟
أعتقد إن الإجابة ما زالت صعبة، فالتنويعات المختلفة على مدار التاريخ لما أسميناه "ابن الليل" تنمو في مجتمعات شديدة التقليدية، وتعكس شخصية ذكورية بأدوار لا تُشكل فيها المرأة قوة ضاربة أو عنصرًا حاسمًا يرقى إلى مستوى الشريك أو الشخص المسيطر، ربما يرتكب الرجل من هذا النوع جريمة/جرائم دفاعًا عن ما نسميه "الشرف"، أو يؤجر شخصيًا لكي ينال من امرأة أو يدافع عن امرأة، يمكن حتى أن يستخدم المرأة كوسيلة للإغواء والاستدراج، يمكن أن تشكل المرأة بالنسبة له عنصرًا لمتعة ليلة واحدة أو كشريكة دائمة، وربما أيضًا تعدد العلاقات النسائية وتعقدها يُشكل جانبًا يعكس تميز الشخصية وتفوقها على غيرها من الرجال، وإلا فما معنى القوة والنفوذ والمال إذا لم يحطم القيود ويحقق الرغبات الممنوعة ويجعل من نفسه محورًا ومسيطرًا على حيوات عدة من بينها بالطبع حيوات النساء.
في رأيي ينهار بنيان شخصية ابن الليل والسمعة التي يمارس عمله من خلالها إذا تسرب إلى صورته شبهة من سيطرة امرأة واحدة أو عدة نساء، كما أن هذا النوع من الشخصيات تنجذب إليه النساء اللائي يبحثن عن حماية أو مال أو نفوذ محدود يفتح أفقًا، أو امرأة تمارس دورًا لمتعته كرجل، لكن امرأة مسيطرة أو تُبدي بوادر للسيطرة سيكون من السهل الإطاحة بها بالوسائل نفسها التي كانت تحميها.