في مثل هذا اليوم عام 2002 عامًا، كانت صور الجثث المتفحمة تحتل الصفحات الأولى لصحف الدولة والمعارضة على السواء، بعدما مرت ساعات استمر فيها اشتعال قطار الدرجة الثالثة رقم832 المتجه من القاهرة إلى أسوان، وعلى متنه 361 جسدًا متفحمًا كانوا قبل ساعات يملأون بصخبهم عربات القطار، متلهفين لقضاء إجازة منتظرة بين أسرهم في الصعيد بمناسبة عيد الأضحى.
عُرفت الحادثة إعلاميًا باسم "حريق قطر الصعيد"، ثم تعددت الحوادث التي حملت الاسم نفسه عام 2009، ثم 2012. فصار اسم "حادث قطار الصعيد" مشاعًا؛ لا يُعرف منه أي حادث هو المقصود، إن لم يذكر بجانبه التاريخ.
خرج رئيس الحكومة عاطف عبيد وقتها ليؤكد أن قطارات مصر كفؤة فنيًا وأن نظام الإدارة والتشغيل والمراجعة والصيانة لسكك حديد مصر "لا تشوبه شائبة"، محملاً المسؤولية للركاب، الذين اتهمهم بحمل مواقد غير آمنة في القطارات، مؤكدًا أن موقدًا غازيًا هو ما تسبب في في هذا الحريق الذي أدى لتفحم جثث 361 مواطنًا.
ورغم تأكيد عبيد على أن: "النظام الحديث المتبع في السكك الحديدية بمصر يقوم على مراجعة العربات قبل خروجها من الورشة"، إلا أنه بعد شهرين من الحادث، بدأ القضاء المصري في محاكمة 11 من العاملين بهيئة السكك الحديدية، بتهمة الإهمال والتزوير في أوراق رسمية، بعد أن سمحوا للقطار بالتحرك دون استيفائه شروط السلامة والأمان.
وفي 29 سبتمبر/ أيلول 2009، قبل شهر واحد من حادث قطار الصعيد التالي، قضت محكمة جنايات القاهرة ببراءتهم، ورفض الدعوي المدنية ضد وزير النقل ورئيس مجلس إدارة هيئة سكك حديد مصر، مع الإعلان أن السبب وراء الحادث لا يزال مجهولا، بسبب تضارب معلومات التقرير الفني.
ولم يخرج نصيب أسر الضحايا من القتلي والمصابين عن "بالغ مشاعر الأسف والتعازى" من رئيس الدولة وقتها حسني مبارك، وكبار مسؤولي دولته. بالإضافة لبعض الإعانات من وزارة التأمينات والشئون الاجتماعية بواقع ثلاثة آلاف جنيه لأسرة الضحية، وألف جنيه للمصاب. حتى أن وزير النقل في حكومة عبيد، إبراهيم الدميري، عاد بعد 11 عاما على إقالته إلى التشكيل الوزراي في عهد رئيس الوزراء حازم الببلاوي بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي.
وتحل الذكري السنوية الرابعة عشر لحادث العياط، في وقت تتزايد فيه حوادث القطارات منذ بداية العام الجديد، وعودة الحديث عن خصخصة هيئة سكك حديد مصر بغرض تطويرها، في ظل ما يروج له المسؤولون الحكوميون بعجز في موازنة الهيئة، وفشل في إدارتها في نفس الوقت الذي أعلنت فيه الهيئة عن ارتفاع إيراداتها بواقع 22.6 مليون جنيه في سبتمبر الماضي، عن نفس الشهر من العام السابق عليه، مشيرة إلى أن الإيرادات توجه إلى أعمال الصيانة الخاصة بالمحطات القطارات والعربات.
وفي الثالث من فبراير / شباط 2016؛ أعلنت وزارة النقل أن عام 2014 شهد ارتفاعًا في عدد حوادث القطارات بنسبة 33%، وأنها تسببت في مقتل 85 شخصًا وإصابة 225 آخرين. وقال التقرير إن أسوأ حوادث المزلقانات في آخر 10 أعوام، هو أتوبيس المدرسة بأسيوط في 2012، والذي راح ضحيته 52 طفلًا وتسبب في غضبة شعبية عارمة تجاه الرئيس الأسبق محمد مرسي ورئيس حكومته هشام قنديل، وحادث مزلقان دهشور في نوفمبر 2013 والذي راح ضحيته 27 قتيلًا و28 مصابا.
موازنة الهيئة..ودماء على القضبان
عن وضع ميزانية هيئة سكك حديد مصر في الموازنة العامة للدولة، قال عمر غنام مسؤول برنامج الموازنة بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: إن الهيئة باعتبارها مؤسسة اقتصادية خدمية، تحاول أن تحقق معادلة تقوم على تقديم الخدمة للمواطن بأقل سعر ممكن، فلا تحتاج لتحقيق أرباح و يكفي أن تمول نفسها (تبيع بسعر التكلفة) أو تدعم سعر الخدمة عن طريق تمويل العجز.
ورغم أن موازنة التكاليف و المصروفات (الاستخدامات غير الرأسمالية) للهيئة زدات أكثر من الثلث ما بين (2013-2014 ) و (2015-2016 )، إلا أن غنام يقول أن نصف الزيادة تقريبًا تم توجيهه إلى تغطية فوائد ديون الهيئة، والنصف الثاني وُجه إلى أوجه الصرف الأخرى، "وأهمها تغطية الوقود و الزيادة في الأجور". ويعني هذا أن الزيادة التي موّلها المواطنون عبر خزانة الدولة لم توجه إلى تطوير الخدمة نفسها.
وعند مقارنة الزيادة في بند الأجور بالزيادة في بند الفوائد، قال غنام إن الأجور والفوائد تشكل ثلثيّ إجمالي مصروفات هيئة سكك حديد مصر المخصصة لها في الموازنة العامة للدولة. ومع أن غنام يري أن نسبة مخصصات الأجور ليست قليلة و لكنها لا تشكل عبئا إضافيا على الموازنة لأنها مصروفات أساسية وهامة، خاصة إذا قورنت ببند الفوائد و تزايده السريع. بدورها تتولى وزارة المالية وضع إستراتيجية لسداد قروض الهيئة المستحقة من خلال الموازنة السنوية.
لكن غنام لَفَت إلى أن تمويل خدمة الديون سواء كانت فوائد وأصولًا واجب سدادها، يتم من خلال استدانة قروض جديدة، وذلك في ظل عدم زيادة موارد الهيئة.
وكان تقرير صادر للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في عام 2013، رأى أن الجزء المخصص للأجور "قليل" في الفترة ما بين 2010 و 2012، مقارنة بتعدد موارد الهيئة. فتراوحت النسبة المخصصة للأجور من 11% إلى 19% من الموازنة، وفي المقابل تبلغ نسبة الأجور في قطاع الصحة نحو 50%، و تبلغ 80% من مخصصات الموازنة لقطاع التعليم.
خسائر الهيئة
في يوليو 2015، قال اللواء احمد حامد رئيس سكك حديد مصر أن خسائر الهيئة في آخر 4 سنوات بلغت 12 مليار جنيه، مضيفا أن مصروفات الهيئة بلغت 20 مليارا خلال تلك الفترة، وحققت إيرادات 8 مليارات جنيه فقط. ويتناقض هذا مع التقرير الختامي لموازنة الهيئة للعام المالي 2011/2012؛ حيث أن الهيئة أعادت ما يعادل 26% من موازنتها إلى خزانة الدولة بما يعادل 3 مليار جنيه.
ولكن مع اقتراب خسائر السكك الحديد في العام المالي 2015/ 2014 من رقم 5 مليار جنيه، بما يشكل عبء علي الموازنة العامة؛ فإن الهيئة طلبت من وزارة المالية زيادة مخصصاتها أثناء فترة إعداد مشروع الموازنة.
عادة كانت الحكومة ترفض نشر أية معلومات عن المفاوضات الجارية لزيادة مخصصات الهيئة، يقول غنام: "هذه هي المرة الأولى التي تنشر الحكومة بيان ما قبل الموازنة لعام 2015/2016".
كيف تتعامل الحكومة مع العجز؟
بالتزامن مع الحوادث المتعاقبة للقطارات منذ بداية العام الجديد، بدأ الإعلام يتداول أخبار عن اتجاه وزارة النقل لخصخصة هيئة السكك الحديد. وهو الأمر الذي نفاه المتحدث الرسمي باسم الوزارة باعتبار أن القرار ليس من اختصاص الوزير، موضحا في تصريحات صحفية أن: "قرار وزير النقل بتشكيل لجنة لطرح كراسة شروط للتعاقد مع شركة أجنبية لإدارة وتشغيل السكك الحديد هدفه الاستفادة من قرض البنك الدولي الميسر في الفائدة، ومدة السداد، لاستجلاب خبرة استشارية عالمية للمعاونة في إدارة منظومة السكك".
بدوره حمّل غنام الحكومة مسؤولية خسارة الهيئة لرفضها الصرف على تطويرها، قائلًا: "حجم موازنة السكك الحديديةبالنسبة للإنفاق العام للدولة لا يذكر؛ 8 مليار جنيه قصاد أكثر من تريليون و مائة مليار".
ويري غنام أن الحكومة ستعمل على تطبيق الخصخصة في هيئة السكك الحديد بطرق ملتوية لتفادي الانتقادات من خلال تطبيق ما يعرف بنظرية "الحكم بالأزمة". فحسب النظرية التي يجري من خلالها تطبيق السياسات النيوبرالية في الاقتصاد، فإن الحكومة تخلق "أزمة مالية مفتعلة" في هيئة سكك الحديد لتبرير تصرفاتها المتعلقة بالخصخصة.
فأوضح غنام الإطار النظري لتطبيق "الحكم بالأزمة" حيث تقلل الحكومة دخلها من خلال خفض الضرائب التي تحصل عليها من المواطنين بحجة تشجيع الاستثمار، وبالتالي تضطر إلى خفض نفقاتها من الموازنة العامة، وحينها لا تستجيب إلى طلب الهيئة بزيادة مخصصاتها في الموازنة العامة، وحينها تقدم وزارة المالية للهيئات الغارقة "حد الكفاف" من تغطية التكاليف بدون أي محاولة جدية لإصلاحها، وبذلك يصبح من المقبول خصخصتها لرفع العبء عن الموازنة.
الاستثمارات والاقتراض
في 28 ديسمبر الماضي، قال وزير النقل "أنا لو اعتمدت على موازنة الدولة مش هعمل حاجة"، في تبريره اعتماد الوزارة لبرنامج إصلاحي يستهدف تخفيف العبء علي الموازنة العامة من خلال 40 مشروعا استثماريا.
وبالحديث عن سكك حديد مصر التابعة لوزارة النقل، فإن تصريح الوزير يناقض النسبة المخصصة للاستخدامات الاستثمارية التي تأخذ معظم المصروفات من إجمالي الموازنة العامة للهيئة، فتراوحت ما بين 51% إلى 60% في الفترة ما بين 2010 حتى 2013.
في الوقت الذي تذهب فيه معظم الموازنة العامة في الاستخدامات الاستثمارية، لجأت الهيئة إلى الاقتراض خلال السنوات الماضية، وآخرها كان في فبراير/ شباط 2016 ، حيث رصدت بعثة الاتحاد الأوروبي في مصر مبلغ 1.3 مليون يورو لتطوير هيئة السكك الحديدية في مصر من خلال مشروع يستمر لمدة عامين تنفذه إسبانيا. وقع الاختيار علي أسبانيا لنجاحها في تقليل حوادث القطارات في سنوات قليلة من 3.2 % إلى 0.21 %.
ولكن يري تقرير المركز المصري للحقوق الإقتصادية والاجتماعية أن القروض لم تقم بدورها في تحسين وتطوير خدمة القطارات في مصر. في سبتمر 2011، حصلت مصر على قرض بقيمة 600 مليون دولار من البنك الدولي للإنشاء والتعمير لتنفيذ مشروع إعادة هيكلة نظام السكك الحديد، منهم 330 مليون دولار لتطوير خط بني سويف- أسيوط، وبعدها وقعت الحادثة المأساوية في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، حيث اصطدم القطار بأتوبيس ينقل تلاميذ.
وحصلت مصر علي قرض في أغسطس/ آب 2009 لتطوير خط القاهرة- الجيزة، الذي وقعت فيه حادثة مزلقان أرض اللواء في يناير 2013، حين أطاح القطار بتاكسي يقل أسرة.
وكما تتعالى نداءات المسؤولين المصريين مع كل حادث قطار بضرورة الاستثمار لسد عجز موازنة الهيئة، فإن عامل المزلقان أو الكشك يتحمل مسؤولية الحادث، وغالبا يتم الإفراج عنه لاحقا، بعد أن يقيد الحادث ضد مجهول. فتم إلقاء القبض عامل التحويلة في الحادث الثالث والأخير على خط العياط، بعد أن وجهت إليه تهمة فتح بوابة المزلقان أثناء مرور القطار فاصطدم بسيارة نصف نقل.
وكان محمد لطفي منصور وزير النقل في حكومة أحمد نظيف، أول من يقدم استقالته عن هذا المنصب معلنا تحمله المسؤولية السياسية عن الواقعة الثانية في خط العياط في أكتوبر عام 2009، التي أودت بحياة 30 مواطنا، وإصابة عشرات آخرين.