قبل أن تشرق الشمس بقليل، على أعلى نقطة في قرية كوم العرب، على بعد 450 كيلومترًا جنوب القاهرة، فإن زوجة محمود الرفاعي، ستضطر لإيقاظه عنوة، واحتمال بذاءة لسانه وطيش يده، في سبيل إقناعه بالهبوط من أعلى الكوم القديم الذي يستقر على قمته مقام العارف بالله الحاج سليم العربي، مثل زتونة في قلب راحة اليد تخرج منها خمسة أزقة أو شقق (جمع شق)، سُدَت جميعها باستثناء واحد فقط يسمح بالصعود إلى المقام والهبوط منه.
زوجة محمود تمني النفس بأن يلتحق زوجها بزملائه من أجراء "الصَبَّة"، تلك العملية المجهدة التي يتولى فيها نحو عشرة رجال خلط الإسمنت والرمل والزلط وعجنهم بالماء وحمل الخليط على الأكتاف إلى أدوار عليا لصَبّ وبسط السقف الخرساني.
حين ينحدر محمود من قمة الكوم ربما تدوس إحدى قدميه في روث الماشية الذي يكسو صفحة الدرب الضيق بعد أن حوّل الورثة بيوت أجدادهم القديمة إلى حظائر للماشية، لكنه لن يمتعض بالتأكيد، لا من الروث ولا من رائحته التي تزكم الأنوف، لكثرة ما داس وسب ولعن، وسيكتفي بسحب نفسٍ عميق من سيجارته التي تومض في الظلام قبل أن يصل إلى أقرب بقعة ضوء تتدلى من أحد أعمدة الإنارة المزروعة في الشوارع الرئيسية.
ينتهي اليوم بتقاضي مائتي جنيه أو أقل يعود بها الأجير لأهل بيته ويقتطع منها ثمن علبة سجائر كليوباترا المحلية الرخيصة نسبيًا، ويعطي الباقي لزوجته تشتري الخبز والطعام وتدبر أمور البيت لأيام في انتظار الرزق المجهول.
يلتصق بالمقام، منزل آل الرفاعي، الضيق، المبني بالطوب اللبن، كما أقرانه من البيوت القديمة القليلة التي هجرها الأجيال التالية لسكانها الأوائل، وسرحوا مع خميرة العمار الفوَّارة، التي نشطت بفعل المال الذي جلبه الأجداد العمال ممن شاركوا في إعمار اليمن ثم العراق ثم ليبيا.
محمود الذي بلغ الأربعين قبل سنوات، يحترف مع شقيقيه علي ومصطفى إحياء ذكرى مولد الحاج سليم في الثلث الأخير من شهر يوليو/ تموز من كل عام.
الشرف الكبير لم يكن ليناله الأشقاء الثلاثة حفارو الآثار سيئو السمعة لجدارتهم الفطرية، لكنه شرف ورثوه عن أبيهم سيد الرفاعي، ابن الليل الذي تقاعد في نهاية العمر، وانجذب للأولياء، بعد إلحاح من أمه وزوجته اللتين تعظمان "أهل الخطوة" أولئك الذين يطوون صفحة الأرض في لمح البصر بمدة قدم.
يبدو الدور الذي يضطلع به آل رفاعي وأبناء عمومتهم شبيهًا بدور الكهنة في مصر القديمة، حين كانوا يحتفلون بالأعياد والمناسبات بمواكب الآلهة، التي تطوف الشوارع، ثم تنهي دورتها في المعابد الرئيسية حيث توزع القرابين كما في قصة "حبزافي" الذي حكم مقاطعة أسيوط في القرن العشرين قبل الميلاد، فآل الرفاعي يضربون الطبول ويتراقصون بالسيوف ويحملون الرايات الخضراء، فيجتمع الناس حولهم، ثم يضعون هيكلًا خشبيًا للحاج سليم على جمل يطوف شوارع القرية ليباركها في ذكرى مولده.
الأب اتبع ابن عمه الأكبر أبو الفتوح نائب الطريقة السعدية الجباوية، بعد أن منعه التقدم في العمر من حياة اللصوصية الليلية، فوثق فيه بعض الميسورين واختاروه ليوزع الصدقات في مولد الحاج سليم استرضاءً لصاحب المقام أو شكرًا له على وساطته الناجعة لدى أهل السماء في أمر من أمور الدنيا.
كان يبسط الحُصُر عند مطلع الشق الذي يتقاطع مع بحر شارع رئيس، من بعد صلاة العصر، ويدعو المارة أو يقصده المحبون ليسمعوا مديح النبي محمد وآله، المنساب من سماعات كاسيت ماركة ناشيونال باناسونيك، وما أن يستقر الضيف وينتهي من الفرك بحثًا عن جلسة مستوية مريحة على الحصير الخشن وقد أسند ظهره لوسادة قاسية محشوة بألياف النخيل المضغوطة والمكسوة بطبقة رقيقة من القطن والقماش، بعد أن خلع نعليه عند حافة الحصير، حتى يجد طفلًا صغيرًا يمد له طبقًا من شربة الفول النابت ونصف ليمونة استقرت أعلى كومة الفتات والفول مثل رأس جزيرة غارقة.
عن العارف بالله الحاج سليم العربي
في أصل حكايته أكثر من رواية. قيل إنه من جنود محمد علي باشا (حكم مصر 1805 - 1848) الذين نزلوا الصعيد يطاردون فلول المماليك، ثم تاه عن جيشه في معركة، واستقر به المقام بين أهل الكوم، وكان حافظًا للقرآن وعلى خلق، فتبارك الناس به واستبشروا إقامته بينهم، فلما مات دفنوه وبنوا له المقام.
وقيل إنه من ملوك الجن من الحُرَّاس الذين أوكل إليهم الفراعنة مهمة حماية كنوز موتاهم، ولما استقر المسلمون على الكوم وقرأوا القرآن في الليالي والمآتم والصلوات، أسلم، وتبعه باقي أفراد قبيلته، ثم ظهر في رؤية لعدد من الصالحين وطلب بناء مقام له في بقعة حددها لهم في المنامات بأن زرع جريدة نخل في نقطة أعلى الكوم.
وقيل هو من أولياء الله الصالحين، أصله مغربي، ظهر في منام وطلب المقام هنا. [1]
دائرة ضيقة تضيق أكثر فأكثر
خرج الأشقاء الثلاثة من سلك التعليم للبحث مبكرًا عن صنعة تضمن كسب الرزق، فالأب الذي توفي لم يترك وراءه أرضًا ولا مالًا ولا حتى حرفة، كل ما تركه 4 سيوف ورايات خضراء تحمل شعار الطريقة السعدية ومدقات نحاسية وطبلة كبيرة، وجميعها أشياء لا تخرج إلا في الموالد للاستعراض وجمع الجمهور حول محبة الأولياء.
الخروج المبكر من التعليم يعني أن فرص الالتحاق بوظيفة مرموقة تتقلص بشدة، وبالتالي يصبح إنفاق ثلاث سنوات في الخدمة العسكرية (المدة المقررة للحاصلين على مؤهلات أدنى من التعليم الثانوي) رفاهية لا تليق بمن يكسب رزق يومه بقوة ساعده، وبالتالي تهرّب الأشقاء الثلاثة من أداء الخدمة العسكرية الإجبارية.
أصبح السفر خارج مصر للعمل محظورًا، وباتت مغادرة حدود القرية حتى ولو إلى مدينة طما على بعد خمسة كيلومترات فقط، حيث الأطباء والمستشفيات والمصالح الحكومية، مغامرة محفوفة بمخاطر جمة في حال اعترض طريق أحدهم أحد أمناء الشرطة ممن يتجرأون على تفتيش القرويين على أمل ضبطهم متلبسين بحيازة سلاح أبيض أو مخدرات.
محمود وأقرانه من العمال غير المنتظمين غير المدرجين في قوائم العمل بمؤسسات الجهاز الإداري للدولة أو القطاع الخاص، الذين لا تشملهم مظلة حماية تأمينية توفر لهم الأمان الاجتماعي أو الصحي، مستعدون لفعل أي شيء للإفلات من قبضة الفقر. وفق تصريحات مسؤولين في الحكومة المصرية ونواب، فإن تقديرات أعدادهم تتراوح بين مليون ونصف المليون وحتى خمسة عشرة مليون عامل غير منتظم.
لم يُخلق محمود وإخوته من دون كرامات ليكون حريصًا على صلاة المغرب فقط، في أي يوم يصل إليه فيه نبأ اعتزام أحدهم ذبح أضحية احتفالًا بمولودٍ جديدٍ أو وفاءً لنذر أو إكرامًا لذكرى وفاة عزيز أو دفعًا للشر عن عتبة بيت جديد يسكنه أو سيارة جديدة اشتراها، لأن صاحب الوليمة سيحرص هو أيضًا على صلاة المغرب والخروج مسرعًا أمام باب المسجد ليستقبل الخارجين ويدعوهم لمشاركته الوليمة، لذا سيتصنع محمود وإخوته الالتزام بشريعة المسلمين في هذه الساعة لضمان التسرية عن معدة ملَّت طحن الخبز والفول والعدس والبصل.
ربما إذا كان محمود محظوظًا سيجد صاحب الوليمة يشده من يده ليشجعه على الدخول إلى "المندرة" (المكان المخصص لانتظار الضيوف)، وسيكون محمود مضطرًا لادعاء التردد والرفض حفظًا لماء الوجه كما يفعل أبناء العائلات الكبيرة إذا ما دُعُوُ إلى أمر مشابه، فالرجل النبيل لا يسارع إلى تناول الطعام المجاني لأنه أمر لا يليق بأبناء الأصول.
لن يندهش محمود من آثار "التخميس" التي صنعها صاحب الوليمة على واجهة المنزل أو بابه أو سيارته الجديدة دفعًا للشر أو عين الحاسد، بعد أن غمر كفيه في دماء الذبيحة، مثلما أوصى النبي موسى بني إسرائيل قبل الخروج من مصر، للنجاة من غضب الإله الذي نزل إلى الأرض في تلك الليلة فقتل أول مولود لكل أسرة مصرية وأول مولود من الماشية، واستثنى من غضبه البيوت المعلمة بالدم. [2]
سيحلم بالثراء السريع. يليق بوجهه الأسمر الصافي المائل إلى الاستطالة بعينين واسعتين وشارب كث مهذب بعناية، وشعر رأس ناعم وطويل ينز فازلين، أن تتخيله ضابط شرطة في فيلم هندي.
يليق به مع مبالغته في العناية بجلبابه البلدي وإجادته لف العمامة والرقص بالعصا أن يكون مهابًا ومطاعًا كما أبناء العائلات الكبيرة، لذا يشعر بغصة كلما قارن بين هيئته وهيئة أقرانه من الأقل حظًا في القسامة وبسطة البدن، الأوفر حظًا في الهيبة التي تلقيها عليهم عائلاتهم.
حين يقف ساعة عصرية بين مدخل الشق وجانب الشارع الرئيس متأففًا فإن جارًا له سيفهم ما يغلي في صدره، فيبادر بدعوته إلى حمد الله على أي حال، لكنه سيرفض ويقول "نِحمدُه ليه هو يعرفنا عشان نِحمدُه؟".
في ليلة وجد نفسه في حفرة تغوص في الأرض عدة أمتار تكفي لابتلاع عوده القريب من المترين، يمسك بالحجاري (أداة تكسير معدني تشبه حرف T مدببة الطرفين) ويحاول كسر باب من الحجر منقوش عليه عبارات بلغة غريبة، وعلى حافة الحفرة يقف أهل البيت الذي يحوي الحفرة، وأعوانهم ورجل يدعونه الشيخ، يوجه محمود بما يلقيه في أذنيه الجني رفيقه أو (الخدمة/ الخادم)، بعد جلسة استرضاء حاول فيها الشيخ التودد للحاج سليم ليأذن لهم باستخراج الكنز وفتح المقبرة.
يبدو أنها محاولة باءت بالفشل، فكلما ظن محمود أن طرف الحجاري سيرتطم بسطح الباب الأثري، تراءى له أن الباب تزحزح إلى الخلف، ومع تكرار المحاولة وتناوب الرجال على النزول والصعود من وإلى الحفرة، خارت العزيمة وخبت جذوة التفاؤل، وأيقن الجمع أن الحاج سليم لم يُعط الإذن بعد.
حين يزور آلَ الرفاعي رجلٌ قعيدٌ من أقارب زوجة محمود، سيتعلم منهم أسماء الجن وطرق استدعائهم، كما هو مدون في كتاب "شمس المعارف الكبرى"، وسيكتسب قدرات خارقة، كما فعل من قبل الأمير نانفر كا بتاح، الذي قرأ كتابًا عن السحر كتبه الإله تحوت بيده فتعلم سحر السماء، والأرض، وعالم الظلام، والجبال والبحار، وعرف ما تقوله الطيور في السماء، والسمك في الماء، ورباعيات الأرجل في الجبل، ورأى السماء ترتفع إلى أعلى ومعها دورة الآلهة". [3]
ربما تعلَّم من عمه الراحل أبو الفتح كيف يعالج لدغات وقرصات العقارب والثعابين كما كان يفعل كهنة "الخربو" في مصر القديمة. [4]
اعتقد المصريون القدماء أن الأمراض والكوارث الطبيعية تتسبب فيها أنفاس الإلهة الغاضبة سخمت التي كانت تمثل عادة في صورة امرأة برأس لبؤة، وأن العلاج يتطلب تدخلًا من الكاهن وعب، أي "الطاهر"، ليسيطر على سخمت ويعيدها إلى صورتها المسالمة باستت القطة.
في سبيل ذلك يتحصن الكاهن بطهارته الجسدية بالمضمضة واستحلاب النطرون والاغتسال بالماء البارد ثلاث مرات يوميًا… والتقشف وحرمان الذات، والصيام بشكل عام وعن الروح (أكل اللحوم) في أيام التطهير، وهي تتراوح بين سبعة أيام واثنين وأربعين يومًا أو أكثر، وينقطعون عن الأعمال الدنيوية، ويمضون يومهم في أداء الخدمة الإلهية وتلاوة التسابيح. [5]
يحتاج محمود لتجربة أن يكون مهابًا من الجميع، لأنه لن ينسى مشهد وقوفه عاجزًا غير قادر على إنقاذ أخيه من لسعات نعال نساء عائلة كبيرة تجرأ شقيقه على افتعال عراك مع أحد رجالها بأن أشهر سيفًا صدئًا في وجهه متحديًا له ولرجال عائلته العصاة على الحصر، وقتها ارتطم سيفه بعصا الغريم فانثنى، وتدخل كبار العائلة لمنع باقي الرجال من مجاراته في لعبته، لأنه لا يليق بالعائلات الكبيرة أن تعارك الفرادى الفقراء، لحظتها تدخلت النسوة لعلاج الموقف فانهلن على الرجل بالشباشب والأكف وتظاهر هو بانشغاله في محاولة إعادة السيف لاستقامته، لينتشل نفسه من الإحراج وليهرب من حقيقة أن السيف الذي بيده لا يصلح إلا للاستعراض وإخافة الأطفال عندما يجتمعون في الساحة أمام مقام الحاج سليم العربي في الاحتفال بمولده، لكنه لن يكون أبدًا صالحًا لإراقة الدماء وإضفاء هالة الهيبة حول آل رفاعي الفرادى قليلي الحيلة.
في سبيل اكتساب الهيبة قد يُقدم محمود على فعل أي شيء، ربما اعتزل الناس ودخل عينًا من عيون الجبانة كما فعل ابن عربي وكما فعل شيخ الطريقة الخليلة. ربما سيبالغ في تطهير نفسه بالزهد في الطعام والنساء ليبدأ رياضة النفس التي سلكها الأقدمون من قبل حتى ظهر لهم النورانيون أولئك الملائكة أو الجن الصالح، الذين سيعلمونهم أسرار الكون والأدعية المحببة لله وربما اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب مهما كان الطلب مستحيلًا، مثلما فعل آصف بن برخيا كاتب النبي سليمان الذي أحضر عرش بلقيس في طرفة عين متفوقًا بذلك على عظماء الجن أو العفاريت، ربما ظهر له الخضر العبد الصالح الخالد الذي فاق النبي موسى علمًا، الذي إذا ذكر الناس سيرته أو قصته أو اسمه ألحقوا بذكره رد السلام، لأنه إذا ذُكر اسمه فإنه يطوي الأرض في مدة خطوة ويطوف بمجلس من ذكره في لمح البصر، لذا فمن الأدب أن نرد سلامه.
في مجمل ما طالعت من كتابات عن الصوفية والتصوف، وعن التدين الشعبي، سرد الباحثون أجوبة زوار الأضرحة عن أسئلتهم، ووفقوها مع التحليلات النظرية، لكن من النادر أن يسرد أحدهم تفاصيل حياة شخص راقبها على مدى سنوات، وهو ما توفر لي مع آل رفاعي جيراني الذين أراقبهم وأتقصى أخبارهم منذ طفولتي، أولئك الذين يتعاركون مع جيرانهم المسيحيين ثم ينسون خلافاتهم في ليالي المولد ويدعونهم للطعام وليالي الذكر. لا يدخلون المساجد لكنهم يدعون قدرة على اجتراح المعجزات.
يجاهرون بالغضب من قسمة الله في الرزق، ويعلنون أنهم يسعون للرزق الحلال متسلحين بقوة الإيمان وحب آل البيت. الإخوة رفاعي في نظري مثال للإنسان بتناقضاته وتقلباته المزاجية والإيمانية جدير بالتأمل ويقدم تفسيرًا واقعيًا لقدرة التصوف على الصمود والقبول الكبير الذي تحظى به الطرق الصوفية بين الجمهور.
ردة المسلمين.. استعجال الإيمان
استعجل المسلمون الأوائل نشر الإسلام وإقناع الناس به، وجرى نشره في الجزيرة العربية بشكل اتفاقات وتحالفات عسكرية يعقدها شيخ القبيلة باعتباره الأمين على مصالحها مع نبي الإسلام مباشرة أو أحد وكلائه، باعتباره المتغلب العسكري الذي ألحق الهزائم بالرؤوس الكبيرة في شبه الجزيرة العربية، ولم يتسع الوقت لنشر التعاليم الجديدة على مستوى الأفراد وإقناعهم بها، لدرجة أن اختلط عليهم الأمر واتبعوا الكهان بعد موت النبي وأسفر عن ذلك ما يسمى بحروب الردة التي قادها الصحابي أبو بكر الصديق أول خليفة للمسلمين، ضد القبائل التي خرجت عن حلف الإسلام أو أعلنت ردتها، وتحول الكهان إلى ادعاء النبوة أملًا في وراثة الحظوة النبوية، إضافة إلى تأخر كتابة السنة وتأخر وجود العلماء الذين يفرزون سلوك الناس للتفريق بين المطابق للشريعة الجديدة والموروث من الجاهلية.
شهدت القرون الثلاثة الأولى للهجرة تطورًا كبيرًا لأدبيات الكهانة العربية بفضل روافد أجنبية نتيجة التوسع في الفتوحات الإسلامية ودخول أجناس أخرى من غير العرب إلى الإسلام، فتحولت الكهانة من تعاون بين البشر والجن والأرواح، إلى فن أو تطبيق عملي، يعوض انقطاع التواصل بين السماء والأرض بوفاة النبي محمد، حيث بقي قبس من نور الحكمة الإلهية يمكن استشفافه والتقاطه بوسائل أخرى تكون بديلًا حلالًا للممارسات الكهانية القديمة، فظهرت علوم القرعة والجفر والحروف والأسماء وخواص القرآن وتفسير الرؤى والمنامات والفراسة، وقراءة الكف [6]، وجلسات الإلهام الصوفي التي تتخلل الحضرات (جمع حضرة) المخصصة لذكر الله وقراءة الأوراد المميزة لكل طريقة. في جلسات الإلهام يوجه المُلهَم، بشكل عشوائي، كلامًا لأشخاص لا يعرفهم، يحمل بشارات أو تحذيرات لا يفهمها سوى صاحب الشأن.
والوِرد هو مجموعة من الأدعية الخاصة والآيات المنتقاة من القرآن الكريم يتخللها أسماء غريبة لملائكة قاهرة أو جن صالح.
وفق الأدبيات الإسلامية ظهرت الطرق الصوفية بين القرنين الثاني والرابع الهجري، لكنها انتشرت على نطاق واسع في حقبة الخلافة العثمانية (1512 - 1922)، ورغم الانتقادات الشديدة لممارسات وطقوس المتصوفة، لكنها ظلت محافظة على وجودها وضمت إليها فئات جديدة، ولم تعد الصورة الذهنية المرتبطة بها قاصرة على جذب الفقراء والأميين، بل انضم إليها كبار الساسة ومشاهير الفن. [7]
أول اتصال بين البشر والمقدس
الدماء مربكة.. والإنسان الذي كان مضطرًا لقتل الحيوان والتغذي عليه ليعيش، قبل اختراع الزراعة، كان مجبرًا على إيجاد مبرر للقتل، وتفسير السر وراء قطعان الصيد التي تظهر فجأة في السهول.. الحيوان السيد.. المقدس في العالم الفوقي، يرسل على صورته قطعان الصيد، والشامان (الكاهن) يطير بروحه إلى المقدس في السماء يتلقى منه بيانًا بالأماكن التي سيرسل إليها القطعان. [8]
دخل الشامانات خلواتهم في الكهوف قبل 30 ألف سنة، وكان للكهنة في مصر القديمة خلواتهم وعزلتهم بهدف الارتقاء الروحي والطهر، واعتزل موسى قومه 40 يومًا في جبل الطور بسيناء، واختلى النبي محمد بنفسه في كهف صغير في جبل النور قبل أن يتنزل عليه جبريل بالوحي، ويعتزل الرهبان المسيحيون في قلاياتهم بالأديرة، وللأولياء في الصوفية خلوة يعتزلون فيها العالمين.
خط دفاع نفسي في مواجهة قهر السلطة
كان لاستمرار الاستبداد والتسلط أثره العميق في انتشار التصوف بين الجماهير فظاهرة التعلق بالأولياء واللجوء إليهم لاستجلاب الخير ودرء الشر توجد بكثرة في القطاعات المقهورة من السكان، وخصوصًا حين يعم الجهل والعجز وقلة الحيلة وحيث يتعرض الإنسان لدرجات عالية من الاستلاب، فالإنسان المقهور يكون بحاجة إلى قوة تحميه تجسدت في الأولياء.
تعد الصوفية خط دفاع نفسي واجتماعي أمام سلطة غاشمة ومشاهد استهلاكية مستفزة تتحدى وتطوق كتلًا بشرية من المحرومين والمسحوقين وهي تقوم بدور تعويضي لأولئك الذين يبحثون عن علاج مستحيل لأمراض مستعصية. [9]
شبكة منافع.. احتماء اجتماعي
لك حاجة. تقف أمام ضريح الولي وتدعو الله. يستجيب. تعود مرة أخرى حاملًا الهدايا لصاحب الكرامات، فتوزع على الزوار والضعفاء ممن قصدوا جوار المقام انتظارًا للحظة مماثلة، أو تدفع بالذبيحة لأهل بيت من خدام المقام يتولون توزيعها على الفقراء. أو تفعل ذلك قبل أن يستجيب لك الله لتضمن أن يتدخل الولي ويتشفع في قضاء حاجتك وتنفيذ طلبك.
تتطاير الأخبار هنا وهناك، يجري تضخيمها والإضافة إليها أثناء عبورها من الدوائر القريبة للحدث إلى دوائر أبعد، يأتي زوار جدد وباحثون عن حاجات لا تُقضى بالطرق التقليدية، وتُنسج شبكة من المنافع أطرافها: يائسون من الوسائل العادية لإنجاز الأماني، وموزعو صدقات وهدايا، وفقراء متلقون للمنح والذبائح.
الانتماء إلى إحدى الطرق الصوفية يعني إتاحة الفرصة للعضو ليجد نموذجًا اجتماعيًا يوفر له الشعور بالتضامن والتماسك داخل جماعة تمثل المرجع الثقافي والاجتماعي بالنسبة له وتميزه عن أولئك الفرادى الذين لا ينتمون إلى أي جماعة كما تمثل جماعة ضاغطة في اتجاه السلطة لها نفوذها من جراء الآلاف المنضوين تحت لوائها وبذلك تسعى لاستخلاص حقوق المنتمين إليها، إلا أنها قد تستغل ضد مصالحهم. [10]
تمرد على التقاليد وبوح بالمكبوت
اتخذ الاحتجاج على الثراء والتقاليد الاجتماعية الرسمية شكلًا حادًا في بروز حركات الدروشة، فهؤلاء الدراويش والمجاذيب الذين ارتدوا الملابس المناقضة للعادات وعاشروا الحرافيش والمعدمين باسم الدين كانوا في الحقيقة يدعون إلى التحرر من القواعد الاجتماعية الصادرة عن السلطة وينتزعون من المعممين الرسميين قسمًا واسعًا من الطبقات الشعبية التي تحترمهم لما يظهرونه من احتقار لحياة الرفاهة والترف التي تكون المحرك الفعلي للطبقة الحاكمة الطامعة. [11]
أما حركة المرأة في الفضاء العام فكانت مقيدة قديمًا، باستثناء زياراتها للأضرحة ومقامات الأولياء، والمرأة في المجتمعات التقليدية الأبوية، كائنات محرومة من أبسط حقوق العيش، تُحرم من التعليم والعمل والميراث، وتعاني من ضغوطات الحياة ومن تفشي الأمية، والاستغلال، ولم تجد سوى تلك الفضاءات المقدسة لتمارس فيها طقوسها وتطرح آمالها وخيباتها ومعاناتها، وتمارس عملية تفريغ المكبوتات، وتكاد غالبية الطقوس مثل الختان والزيارة وطقوس الفرح مقتصرة على المرأة، فالمرأة هي من تؤدي طقوس الختان داخل الضريح، وهي من يؤدي طقوس التبرك للعروس داخل الضريح، وهي أكثر فئة ترتاد تلك الفضاءات وتتفاعل معها دينيًا [12]
في القرى يميل الرجال إلى تبرير العجز الجنسي أو قلة الخبرة الجنسية في ليالي الزواج الأولى بما يُسمى "الربط"، أي تدخل الجن ليمنع الرجل من إقامة العلاقة مع زوجته، ويرضى الأهل بتفسير الغياب المفاجئ لإحدى بناتهم باختطافها إلى تحت الأرض على يد جني عاشق، بدلًا من القبول برواية أنها هربت مع خليل من البشر، ويُفسَّر الشجار الأسري بالحسد والسحر الذي يقف وراءه أقارب أو معارف غير راضين عن الزيجة، فإذا كان هناك عالم ظلامي يستطيع التأثير في حياة الناس، وجب أن يكون هناك عالم مقابل نوراني يلجأ إليه الضعفاء للاحتماء، وهكذا يؤمن الناس بوجود الشياطين (الجن الشرير) ووجود الجن الصالح، الذين لا يساعدون المؤمنين فقط، بل في أحيانٍ كثيرة يتحولون إلى أولياء صوفيين، يظهرون للناس في المنامات ويطلبون بناء مقامات لهم في بقع يحددونها بدقة.
الشيخ والمريد.. مرشد قديم لحديث عهد بالطريق
يؤمن المتصوفة بأن "من ليس له إمام فإمامه الشيطان". والمقصود بذلك أن من لا يتمسك بتراكم التجارب الحية للبحث عن الحق والحقيقة (الشيخ)، أي خارج تكامل التجارب التاريخية للثقافة الخاصة ومرجعياتها في العلم والعمل، فإنها عادة ما تؤدي بالفرد (المريد) إلى الزيغ والضلال، أو الدوران الفارغ في ما لا قيمة له وفيه. وبشكل عام فإنه "لم يدخل الطريق اثنان بصورة متشابهة. [13] ويطيع المريد شيخه طاعة عمياء، ويؤمن بقدرة الشيخ على تربيته ومراقبة أفعاله ولو فصلت بينهما الجغرافيا بمئات الكيلومترات، أو حتى من وراء البرزخ، إذا كان الشيخ متوفيًا، عن طريق المنامات والرسائل المشفرة التي يرسلها الشيخ للمريد عبر الرؤى والأحلام.
الطعام مقابل الدعاء والحماية السماوية
لم يعد الانتماء للطرق الصوفية مقصورًا على الفقراء بسبب الظروف الاجتماعية، بل إن الطرق المصرية تشهد تزايدًا في إقبال الفئات الاجتماعية ذات المكانة، فأصبح منها المهندس الصوفي والطبيب الصوفي والصحفي الصوفي وأستاذ الجامعة. لذلك تظل علاقة الطرق الصوفية بفئات المجتمع المصري سواء كانوا عمالًا أو موظفين أو أرزقية قائمة على الحب والمودة والأمان والاطمئنان.
وتطور العلاقة بين الصوفية وأفراد المجتمع المصري وفئاته، والذي يظل المحدد الرئيسي في رسم ملامح الخريطة الصوفية المصرية، يرتبط بعدة قضايا، أولها الدور الاجتماعي للتصوف، وإن كانت تتزايد في مواسم بعينها، فما تتمتع به الزوايا والساحات المركزية، وتقدمه من وسائل المعيشة الناتجة عن المنح والعطايا من الأثرياء جعلت الجماهير تلتف حول المتصوفة لتنال ما لديهم من أرزاق رغم أن هذه الظاهرة بدأت تتضاءل في الفترة الأخيرة.
والقضية الثانية، تتمثل في ارتباط الطرق الصوفية بالطوائف الحرفية المختلفة فقد كان أرباب الطوائف الحرفية يلجأون لمشايخ الطرق ومشايخ الساحات لحل مشكلاتهم، وانضم العديد من تلك الفئة للطرق الصوفية، ولم يقتصر الأمر على طوائف المدن بل تشابك معهم العمال والمزارعون وسمحت الطرق الصوفية بتجنيد المهمشين اجتماعيًا والأرزقية في المدن.
ولم يتوقف شكل العلاقة بين الطرق الصوفية وفئات المجتمع عند هذا الحد، بل حدث تقارب بين الصوفية ورجال الأعمال، والذي انتهى في أغلبه بزيادة الدعم النقدي المقدم للطرق المصرية. تمثل في التعاون بين أصحاب الشركات والأثرياء وبعض الطرق الصوفية في تمويل مقراتها وساحاتها وكذلك تمويل احتفالاتها وانتقالاتها في الداخل المصري أو في الخارج [14]
التحليق في عالم البرزخ.. الولي مأذون من الله بجبر المكسورين
"فيما وراء السماء الظاهرة هناك سماوات خفية عن الأنظار وغير معروفة تكون موضوعًا للخيال والتأمل والإيمان أكثر منها موضوعًا للملاحظة أو المشاهدة. إن الفضاء المتخيل للسماوات غير المرئية يؤلف عالمًا تعيش فيه الأرواح والملائكة وكائنات أخرى بشرية وطبيعية تختلف في خصائص جوهرية عن تلك التي تخص الكائنات التي تعيش على الأرض". [15]
وفق تصور القرويين يوجد بين السماء الثانية والسماء السابعة ملائكة كثر مثل هؤلاء الذين يهبطون إلى الأرض أو يعيشون بالقرب من البشر، كما تقطن أرواح الموتى في واحدة من تلك السماوات وفق مراتبهم، حيث يتمتع الأولياء بالقدرة على التحرك بحرية داخل السماوات، إذ تعزى إليهم قوى خاصة متفردة لقربهم من الله الذي يمنحهم القوة والبركة.
في عالم البرزخ المحجوب الخفي عالم الغيب، يعتقد القرويون أن الأولياء الذين انتقلوا إلى هذا العالم بالموت، ما يزالوا قادرين على فعل الكرامات وتقديم يد العون لطالب المساعدة. هذه الصورة تؤلف رؤية خيالية وإنسانية تقدم الأمل لهؤلاء الذين ابتلوا بأمراض عضال.
البحث عن الشفاء من الأمراض المستعصية
إن الأمر ليس مجرد اعتقاد ساذج في قوة الموتى على أن يحكموا ويسيطروا على الأحياء، بل بالاعتقاد في مشاركة الولي في البعد المستتر أو غير المنظور من الواقع وقربه من الله الذي يعطيه القوة للقيام بالكرامات والأفعال الإنسانية الخارقة وغير المألوفة.
وفق دراسة، فإن 35.4% ممن يترددون على أضرحة الأولياء، يطلبون منهم التدخل لفك الأعمال وإفساد السحر المتسبب في الأذى، ويؤمن 28.2% منهم بقدرة الأولياء على فك كربات الناس، وأفاد 5.2% بأنهم يتوسطون بين الناس والله، ويرى 13.5% أنهم يمنعون الأذى، و9.4% يعتقدون في قدرتهم على شفاء المرضى [16]
ارتبطت الممارسات العلاجية منذ أمد بعيد بالدجل والشعوذة والتطير. وفي مصر لا تبحث الطبقات الفقيرة عن المساندة الطبية إلا والمريض في حالة احتضار. كان الحلاقون وعجائز النساء يستدعون لتطبيب المرضى. وكان هناك إيمان أكيد بالشفاء عن طريق الأحجبة المكتوبة التي تحتوي على خليط من آيات القرآن أو عبارات من المزامير والأناجيل أو تحتوي طلاسم وكتابات لا معنى لها. في المقابل كانت المستشفيات في حالة يرثى لها، وكان الفلاحون يخشون دخولها لأنهم على ثقة بأنهم سيضربون وتسرق متعلقاتهم على يد العاملين فيها 17. "قبل حكم محمد علي (1805-1848) كان من النادر أن تجد طبيبًا في القرى، وتُرِكَ علاج المرضى بين أيدي الحلاقين والنسوة العجائز". [18]
في انتظار الفرج.. الولي يحرس الأحباب
تضررت شبكة منافع الطرق الصوفية بفعل القيود التي فرضتها الدولة في مواجهة جائحة "كورونا" والتي تأرجحت بين الإغلاق العام والجزئي، فضربت سورًا بين المحبين وزيارة الأضرحة. ويبدو أن الظروف تآمرت لخدمت الشيخ محمود، فبعد أن حصل على وحدة سكنية مدعومة خارج حدود القرية، وثق فيه سكان بقعة العمران الجديدة، وأصحاب الورش والمحلات التجارية واختاروه لخفارة المنطقة، فبات يحرسها من اللصوص كما يحرس الولي أحبابه من الشياطين والأرواح الشريرة ومفاسد السحرة.
وورث شقيقه الأوسط "الأسرار الروحانية" منه لكنه راح يمارس سطوته خارج حدود قريتنا، حيث يمنحه جهل الزبائن بسيرته هيبة تضفي عليه قداسة، فينجح في فك المربوط (الزوج يفشل في معاشرة زوجته)، ويفك الأعمال (اتفاقات بين السحرة والشياطين لإفساد حياة أشخاص معينين بناءً على طلبات مدفوعة الأجر من خصوم أو راغبي انتقام)، ويرشد المنقبين عن الآثار إلى الاتجاهات الصحيحة لدخول المقابر المدفونة أو يعقد الصلح مع الجن حراس المقابر ليسمحوا بفتحها. والشقيق الأصغر يغيب عن البلد شهورًا ويعود أيامًا، وربما يجهز نفسه ليكون وليًا جديدًا بعد أن يقطع شوطًا طويلًا في طريق العزلة المطهرة للنفس المؤذنة بالتواصل مع الكائنات الروحانية المرشدة، لتتكرر دورة أصحاب الكرامات.
1. أضرحة الأولياء في مدينة معان الأردنية، من الفاعلية إلى الزوال: صالح أبو طويلة- مجلة أنثروبولوجيا مجلد 5 عدد 10 سنة 2019.
2. مختصر تاريخ الأديان: ريتشارد هولواي، صفحة 74.
3. السحر والسحرة عند الفراعنة: إيفان كونج - صفحة 54.
4. المرجع السابق- صفحة 41.
5. المرجع السابق - 62.
6. الكهانة العربية قبل الإسلام: توفيق فهد- صفحة 363.
7. خريطة الطرق الصوفية وتطوراتها في مصر: أبو الفضل الإسناوي - مركز الأهرام للدراسات، 2017.
8. الله لماذا؟ كارن أرمسترونج- صفحة 35.
9. الصوفية والسياسة في مصر: عمار علي حسن - صفحة 108.
10. المرجع السابق.
11. المرجع السابق.
12. صالح أبوطويلة- مرجع سابق.
13. مجلة الفيصل: العددان 513-514 يوليو-أغسطس 2019- شقيق البلخي: دهاليز البحث عن الحقيقة- للمفكر العراقي ميثم الجنابي.
14. أبو الفضل الإسناوي- مرجع سابق.
15. الدين والتصور الشعبي للكون: سيناريو الظاهر والباطن في المجتمع القروي المصري- السيد الأسود ، صفحتا 121-122.
16. الطهر والكرامات: شحاتة صيام - صفحة 161.
17. ساعة عدل واحدة: سيسيل ألبورت - صفحة 154.
18. أرواح في خطر: الصحة العامة في مصر القرن التاسع عشر - لافيرن كونكه صفحة 200.