عملة "بنك الحظ" كان تعبيرًا شائعًا بين الكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي، مع الإعلان عن نسخ جديدة من العملة المصرية مصنوعة من البلاستيك، أو ما يعرف بعملات البوليمر. وهو ما يعكس إحساسًا لدى البعض بأن العملة الجديدة أشبه بألعاب الأطفال وليس لها هيبة العملة الحالية.
ربما تتشابه ردود الأفعال تلك مع أحوالنا قبل 120 عامًا، عندما ظهر الجنيه الورقي لأول مرة، وكانت شعبيته محدودة في مواجهة الجنيه الذهب. فما العوامل التي تؤثر على ثقة الناس في العملة؟ وهل مشوارها الطويل من الذهب إلى البلاستيك يعني أنها فقدت الكثير من قيمتها ؟ سأحاول أن أجيب في هذا المقال عن هذين السؤالين.
هل كان للجنيه عصر ذهبي؟
إذا كنت من متابعي المنتديات الملكية كثيرًا ما سيقابلك بوستات تتحدث عن أن الجنيه المصري كان ذهبيًا في زمن أبناء محمد علي، أو أن قيمته كانت تساوي قيمة الجنيه الإسترليني. هي معلومات صحيحة في ظاهرها، ولكن يتم تداولها لإعطاء إيحاء بأن الجنيه الذهبي القديم كانت قيمته أكبر من الجنيه الحالي، بدليل أنه يساوي قيمة الإسترليني بينما تساوي العملة البريطانية حاليًا أكثر من 20 جنيه.
هذه التصورات تغذيها بقوة الصور القديمة لوسط البلد وهي نظيفة وحضارية وخالية من الزحام والمحال العشوائية، ما يعطي إيحاء بأن الحياة تدهورت منذ أن غادرنا ذلك العصر الذهبي.
الواقع أن بريق وسط البلد لا يعني بالضرورة أن العملة المصرية كانت في أحسن أحوالها في ذلك الزمان، فخلال القرن التاسع عشر كانت مصر تتعامل بعملات ذهبية كوسيط للتبادل، وفي هذا السياق كان الجنيه المصري مصنوع من معدن الذهب، وكانت قيمته تساوي الإسترليني فعلًا ولكن ذلك لا يعني أن الاقتصاد المصري كان في قوة الاقتصاد البريطاني.
أغلب دول العالم آنذاك كانت تتعامل بعملات ذهبية، وكان المعدن النفيس يقوم بدور هام للغاية في تعزيز الاقتصاد العالمي في تلك الحقبة، فقد كانت الليبرالية القديمة تقوم بشكل أساسي على التبادل التجاري، وكان الذهب بمثابة العملة الأكثر موثوقية في التعاملات العابرة للحدود.
قيمة الجنيه المصري في ذلك العصر كانت تعكس وزن الذهب الصافي في العملة، وبالتالي فإن تساوي قيمته مع الإسترليني هو مجرد تساوي في أوزان الذهب بين العملتين، وهو الوزن الذي قررته السلطة للجنيه المصري، أي أننا نتحدث عن مجرد قرار رسمي بوزن الجنيه، وليس تقديرًا عالميًا لقيمته كما هو الحال في عصرنا الراهن.
ولا يعني تساوي "الجنيه" و"الإسترليني" أننا كنا بلدًا غنيًا ينافس اقتصاد البلد الذي صار "يحتلنا" منذ 1882، بل إن العديد من المصادر التاريخية تشير إلى أن سك الجنيه المصري الذهبي كان محدودًا، وكان التعامل الشائع بالجنيه الذهبي الإسترليني.
تحت نظام الذهب عرف الاقتصاد العالمي العملات الورقية، وكان اختراعا جديدا يساهم في تيسير التعامل بالمعدن النفيس، فكل عملة ورقية كانت تحمل تعهدًا من البنك المصدر لها بإمكانية استبدالها بالذهب في أي وقت، وقد عرفت مصر هذا الاختراع وهي على مشارف القرن العشرين.
عندما أصبح الجنيه من ورق
"كان تداول الأوراق بطيئًا في البداية، إذ لم يكن قد اعتاد الجمهور بعد التعامل بالعملة الورقية"، كما يقول البنك الأهلي في واحدة من وثائقه القديمة*.
نشأ البنك الأهلي في مصر كبنك خاص مملوك للأجانب، وقد لعب دورًا مشابهًا لدور البنك المركزي في عصرنا الراهن، فقد منحته السلطة آنذاك، 1898، امتياز إصدار النقود الورقية الرسمية في مصر.
نستطيع أن نتخيل كيف استقبلت الأجيال التي اعتادت على حمل أكياس الذهب الثقيلة هذه العملات الورقية، ربما سخر منها البعض أو اعتبرها نذيرًا على قرب نهاية العالم. فبحسب بيانات البنك الأهلي لم يتداول المصريون سوى 15 ألف جنيه من الإصدار الأول للجنيه المصري الذي بلغ في مجمله 60 ألف جنيه.
ومع محاولات ترويج الجنيه الجديد ظل الذهب حاضرًا بقوة في خلفية المشهد، فقد وضعت الدولة على البنك الأهلي التزامًا بأن يكون في خزائنه من المعدن النفيس ما تساوي قيمته نصف قيمة النقود الورقية المُصدرة، على الأقل، ما يعرف بـ "الغطاء الذهبي"، ويساهم هذا الغطاء في مساعدة البنك على الوفاء بالتزامه بتحويل "الورق" إلى "ذهب" في أي وقت.
اضطر أجدادنا للتوسع بقوة في التعامل بالعملات الورقية مع نشوب الحرب العالمية الأولى، فقد ساهمت الحرب في تعطيل حركة استيراد الذهب من الخارج، من هذا المنطلق صدر أمر عالي في 1914، بالتوقف مؤقتًا عن الالتزام بتحويل "الورق" إلى ذهب، وتعزيز الجنيه الورقي باعتباره "موجبًا لبراءة الذمة كما لو كان الدفع حاصلًا بالعملة الذهبية".
وبالتدريج تحول هذا الوضع المؤقت إلى أمر دائم، وذلك لسببين أولًا أننا أدركنا أن التعامل بالورق أكثر "مرونة " على حد تعبير قيادات البنك الأهلي في هذا الوقت، كما أن الفترة بين الحربين الأولى والثانية، شهدت عملية انهيار تدريجي لنظام الذهب في العالم.
حيث لم تقدر بريطانيا على الاستمرار في الالتزام بإصدار نقود ورقية معززة بغطاء ذهبي، خاصة في ظل ظروف الكساد الكبير 1931، من هنا تحولت مصر من تغطية الجنيه الورقي بـ "الذهب" إلى تغطيته بأوراق مالية محلية أو أجنبية، مع تمثيل هامشي للذهب في الغطاء.
سراب النقود
بدءًا من 1971، كان نظام الذهب انتهى بلا رجعة في العالم كله، وفي عصر الورق لم يعد هناك قيد على قدرة البنوك المركزية على إصدار النقد، فهي ليست ملزمة بالاحتفاظ برصيد من معدن نفيس ونادر كغطاء نقدي، ولكن يستطيع البنك المركزي ببساطة أن يخلق نقودًا ويضخها في الاقتصاد بطرق عدة.
غياب قاعدة الذهب، زاد من حساسية مسألة إصدار النقد، حيث صارت البنوك المركزية تراقب إلى أي مدى تساهم النقود المُصدرة في زيادة قدرة المواطنين على الشراء، بحيث لا ينمو الطلب بوتيرة أسرع من نمو الاقتصاد نفسه، فتصبح لدينا نقودًا كثيرة تلاحق سلعًا قليلة، مما يخلق موجة من التضخم.
وقد لجأ البنك المركزي المصري على مدار تاريخه الحديث، في بعض الفترات، للإفراط في طباعة النقود كطريقة لتخفيف الضغوط الاقتصادية، لكن لم يحدث في مصر واحدة من موجات التضخم العنيف التي أدت لانهيار العملات الورقية في بلدان أخرى.
بحسب دراسة قديمة للبنك الدولي**، فإن المصريين كانوا أسرى لما تسميه الدراسة بـ "وهم النقود" بمعنى عدم إدراك أن قيمتها الحقيقية كانت أقل، وقد كانت الدراسة الصادرة في 1990، تتحدث عن الأحوال خلال الثمانينات.
الثمانينات، كانت واحدة من الفترات العصيبة، وبحسب الدراسة كان ثلث تمويل عجز الموازنة العامة يتم من خلال "طباعة النقود" أي في صورة قروض مباشرة من البنك المركزي للدولة.
وقد وضع قانون البنك المركزي الصادر في التسعينات شرطًا بعدم تمويل المركزي لعجز الموازنة بأكثر من 10%، وتم الالتزام بهذا الشرط في بعض الفترات، ومخالفته في أوقات أخرى تصاعدت فيها الضغوط الاقتصادية، خاصة خلال الفترة التالية لثورة يناير وحتى اتفاق قرض صندوق النقد الدولي في 2016***.
لماذا يريدونها بلاستيكية ؟
باختصار، فإن الضجة حول النقود عادة ما ترتبط بتغير شكلها الخارجي، أما مضمونها فهو أمر يصعب على الكثيرين متابعته لأنه يحتاج لخبرة فنية في السياسة النقدية ووقت وجهد ومتابعة.
جاءت الانطباعات عن النقود البلاستيكية متفاوتة، بين من رأى أنها أشبه بنقود الألعاب، ومن انتقد مستوى التصميمات الجديدة مقارنة بالعملات الحالية، ومن أثاروا تخوفات لا صحة لها حول إمكانية تعرضها للذوبان في حرارة الشمس أو عدم قابليتها للطي داخل المحفظة، لكن الملمح المشترك بين الكثيرين هو الكوميديا السوداء عن أحوالنا مع النقود. إذ جاء إصدار النقود البلاستيكية في توقيت نشعر فيه بضغوط اقتصادية ناتجة عن أزمات متتابعة خلال السنوات الخمس الأخيرة، من تعويم الجنيه في 2016 ومع انخفاض قيمة الأجور الحقيقية، إلى تباطوء الاقتصاد منذ 2020 بسبب أزمة كورونا، وهو ما آثار حالة من الإحباط لدى البعض بشأن الجدل الدائر حول شكل العملات الجديدة "كدة كدة معييش فلوس".
وبغض النظر عن حالة الإحباط العام، فإن دخول مصر إلى عالم عملات "البوليمر" الجديدة، يمثل توجهًا صاعدًا في العالم، فصندوق النقد يتحدث منذ سنوات عن أن "المستقبل هو البلاستيك ".
تتميز النقود الجديدة بأنها أقل في التكلفة البيئية، حيث يقدر الصندوق أن نفقات طباعة 3 مليار يورو، تساوي الأثر البيئي لسفر سيارة حول العالم 9.2 مرة.
كما أن النقود البلاستيكية، التي ظهرت لأول مرة في أستراليا عام 1988، تعيش أكثر من ضعف عمر النقود الورقية، وأقل قابلية للتزوير. وتشهد انتشارًا متصاعدا حيث تقوم على طباعتها أكثر من عشرين دولة، وبدأت المملكة السعودية في إنتاجها منذ العام الماضي.
- البنك الأهلي الكتاب التذكاري 1898- 1948
- MONEY, INFLATION AND DEFICIT IN EGYPT
- الاستنتاجات وفقًا لورقة للدكتورة سلوى العنتري ضمن دراسة لمعهد التخطيط القومي بعنوان تقييم السياسات النقدية المصرية منذ عام 2003.