مساء الأحد الماضي، ظهرت تونس في صورة لا تشبهها، أو لا يكاد كثير من أبناء الشعب يتذكرون شبيهتها من ستينيات القرن الماضي، فرغم انفتاح الوضع السياسي في البلاد على سيناريوهات عديدة، لم يكن أحد يتوقع ما أعدّه رئيس الجمهورية قيس سعيد، حينما أطل على الشعب مساء الأحد، معلنًا تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإقالة رئيس الحكومة، وإسناد صلاحيات لنفسه يتعارض بعضها ما نص عليه الدستور.
هذه الصورة التي بدت عليها تونس في ذلك المساء بينما تنتشر الوحدات العسكرية في محيط البرلمان والقصر الرئاسي وديوان الحكومة وأمام مبنيي التلفزيون والإذاعة الرسميين، جعلت الجميع، بمن فيهم غير التونسيين، يرى أن ما يشهدونه ليس سوى تجل لانقلاب وشيك، حدَّ أن البعض بدأ يربط بين ما يجري وما حدث في مصر عام 2013، من حيث الإطاحة باليمين الديني بمساعدة الجيش، رغم نأي المؤسسة العسكرية بنفسها عن الصراعات السياسية في البلاد، ليس منذ ثورة يناير 2011 فحسب، وإنما منذ محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس الحبيب بورقيبة في بداية الستينات.
لماذا لا يتشابه الجيشان؟
صعد الجيش التونسي إلى الصدارة منذ أن تولى مهام بسط الأمن في البلاد، خلال زمن فرض حظر التجول إبان الثورة وما تلاه بعد هروب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وكان قبله يعاني تهميشًا كبيرًا بسبب فشل محاولته الانقلاب على الرئيس الحبيب بورقيبة عام 1962، وهو النهج الذي استمر خلال ولاية زين العابدين.
ومع رفضه في أكثر من مناسبة استخدام القوة ضد المحتجين التونسيين ونجاحه في مهمته الأمنية، اكتسب الجيش مكانة تقترب من القداسة لدى السواد الأعظم من الشعب، لكن المؤسسة العسكرية، ربما متأثرة بالماضي القريب، لم تستغل ذلك الأمر في كسب مزيد من التأييد السياسي، رغم الفرصة التي واتتها بعد تولي رئيس أركان الجيش التونسي رشيد عمار مهمة رئاسة البلاد في ظل الفراغ الذي شهدته تونس عقب هروب بن علي.
الأمر الذي يعني أن مؤسسة لم تستثمر فرصة الإمساك بمقاليد الحكم عندما سنح لها ذلك، لن تكون فاعلة وحاضرة في الحل السياسي للأزمة التونسية في الوقت الذي امتلأ فيه الفراغ الدستوري ومضى فيه مسار الانتقال الديمقراطي رغم المطبات.
حتى أن التجربة السياسية التي خاضها عسكريون متقاعدون في تونس، من خلال حزب هلموا تونس، التي رأى فيها البعض فاتحة لانقلاب عسكري، لم يكتب لها النجاح، وكأن المؤسسة العسكرية في تونس والعمل السياسي المباشر خطان متوازيان لا يلتقيان.
أداة في يد السلطة؟
يعتبر الجيش التونسي مؤسسة حديثة نسبيًا مقارنة بنظرائه في الدول العربية الأخرى إذ تأسس بعد الاستقلال في عام 1953، لكن محاولة الانقلاب الفاشلة على بورقيبة عطلت من نموه وعزلته وحجمت ميزانيته، وهي أمور كلها ساهمت ثورة 14 يناير في معالجتها، لذلك لا يبدو أن الجيش الذي صار مؤسسة تتمتع باستقلال حقيقي قد تسعى لتقويض تلك الاستقلالية أو تقبل أن تعود مرة أخرى أداة في يد السلطة لتنفيذ هذه المرة أجندة سياسية بعيدة عن اهتمامتها.
ويظهر ذلك في التزام المؤسسة العسكرية الصمت، رغم الأحداث الكثيرة التي شهدها اليومين الماضيين، حيث لم تصدر عنها إلى حد الآن أية تصريحات بشأن الإجراءات الاستثنائية لرئيس الجمهورية ولا بشأن الحديث عن انقلاب يستعمل فيه رئيس الجمهورية الأمن والجيش لفرض سطوته على خصومه.
وركون المؤسسة إلى الصمت عن أي تعليق حتى عبر بيان رسمي لا يخلو من رسائل وكأن لسان حالها يقول إنها لن تنساق وراء أية تأويلات ولن تكون طرفًا في التجاذبات السياسية وستظل على المسافة نفسها من كل الأطراف دون دخول معترك السياسة.
لكننا نشبه مصر جزئيًا
على العكس من المؤسسة العسكرية، لم تقف الأحزاب السياسية معقودة اللسان، حيث أفصح العديد منها عن موقفه من القرارات الاستثنائية لرئيس الجمهورية، وهي مواقف تعري في الوقت نفسه الهاجس من انقلاب عسكري في تونس من جهة، وتحمل مسؤولية تأزم الأوضاع لحركة النهضة من جهة أخرى.
وإن كان البعض يتحدّث عن تكرار السيناريو المصري في تونس، فإن التشبيه جائز في علاقة حالة عدم الرضا عن حكم الإسلاميين في كلا البلدين، وردود أفعال قادة حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية التي اعتبرت ما حصل انقلابًا في انتظار تمكين الجيش من مقاليد السلطة، تنم عن تخوفاتها الفردية من استنساخ مآل الإخوان في مصر.
وفي دعوة النهضة أنصارها إلى التظاهر، وهي الدعوة التي لقيت صدى عند العشرات من أنصارها الذين هبوا إلى محيط مجلس النواب، محاولة لتحويل الصراع إلى الشارع للضغط على رئيس الجمهورية قيس سعيد للتراجع عن قراراته الاستثنائية التي من شأنها أن تحشرها في الزاوية، ولا تطمح إلى أكثر من ذلك، وهو ما يتضح في اتجاه النهضة نحو تغيير موقفها والرضوخ إلى هذه القرارات الاستثنائية، خاصة بعد إعلان رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي عن قبوله بها، ولعل دعوتها لحوار وطني بعد مطالبتها أنصارها بالانسحاب من محيط البرلمان مساء أمس من بوادر ذلك التغيير.
يريدون حصة من المشهد
بالنظر إلى مواقف الأحزاب التي انقسمت بين رفض وتأييد وحياد، فإنها كلها تعكس خوفًا ظاهرًا، من منظورات مختلفة، على الشرعية وعلى خرق الدستور، لكنها تحمل في باطنها رغبة نحو البقاء والحصول على مواقع أبرز داخل الخريطة السياسية التونسية في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، ذلك أن البرلمان حادَ منذ مدّة عن دوره التشريعي الرقابي وصار ساحة للصراعات السياسية والتناحر دون إيلاء أي اهتمام للشعب وحاجياته، وهو ما دفع المواطنون في الأساس للتظاهر ضده والمطالبة بحله.
لذلك بدا الموقف الحزبي متشظيًا، حيث اتخذ قلب تونس الكتلة البرلمانية الأكبر في البرلمان بعد النهضة وحليفها في الحكم موقفًا داعمًا للأخيرة، وهو موقف متوقع من الحزب الذي تربطه تحالفات سياسية مع الحركة، ويرتهن بقاؤه في صدارة المشهد بموقعها، خصوصًا بعد الهبة الشعبية ضدّها، كذلك اختبأ حزب التيار الديمقراطي، وهو حزب وسطي اجتماعي، وراء تأويل الدستور ليرفض الإجراءات التي اتخذها الرئيس، لكن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد ذو المرجعية اليسارية وأمينه العام السابق شكري بلعيد، الذي فُتح معه قوس الاغتيالات في تونس بعد الثورة، رحب بالقرارات على أن تكون محدودة في الزمن وتهدف إلى تخليص البلاد من هيمنة عصابات الفساد والإرهاب.
وهذا الموقف الأخير غير مستبعد من الحزب الذي طالما طالب بالكشف عن حقيقة الاغتيالات في تونس، التي طالت الراحلين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، كما إنه يحمل حركة النهضة مسؤولية هذه الاغتيالات والأحداث الإرهابية التي شهدتها تونس، لكن على عكسه، حذر حزب العمال ذو المرجعية اليسارية من أن الخطوة التي أتاها رئيس الدولة "تدشن مسار انقلاب باتجاه إعادة إرساء نظام الحكم الفردي المطلق من جديد"، منبها مما وصفه بـ"سقوط البلاد في دوامة العنف والاقتتال والإرهاب".
ويبدو أن حزب العمال يتوجس من نظام الحكم الفردي المطلق، على اعتبار أن القرارات الاستثنائية المعلن عنها، تضع السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية تحت يد رئيس الجمهورية ، الأمر الذي يحيل إلى أسلوب الحكم في تونس ما قبل الثورة.
وبعيدًا عن موقف الأحزاب، اتجهت كل الأنظار إلى موقف اتحاد الشغل الذي جاء متوازنًا وصريحًا، وضع فيه الاتحاد أصابعه على مكامن الداء في تونس ، وإن كان الموقف مساندًا لجملة القرارات الاستثنائية فإنه طرح جملة من النقاط لضمان مضيها في النهج الصحيح.
وفي بيان صدر عن الاتحاد، إثر لقاء أمينه العام نور الدين الطبوبي برئيس الجمهورية قيس سعيد، ورد أنه من الضروري أن تُرفق جملة الإجراءات الاستثنائية بضمانات دستورية تحدد أهدافها بعيدًا عن الاجتهاد إلى جانب تحديد مدتها حتى لا تتحوّل إلى إجراء دائم مع ضمان احترام الحقوق والحريات.
ويبدو من موقف الاتحاد أنه هو الآخر سأم تعاطي رئيس الحكومة هشام المشيشي مع الملفات الاجتماعية رغم تواصل المفاوضات بين الحكومة والمنظم العمالية، الأمر الذي جعله يرحب بهذه القرارات مع وضع جملة من الحواجز التي تحول دون انحرافها إلى أهداف أخرى تقوض الحقوق والحريات.
وإلى جانب موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، تكتسي مواقف الهيئات والمنظمات الوطنية أهمية في تحديد مسار القرارات الاستثنائية في الأيام القادمة وفي تطورات الخطوات التي قد يتخذها رئيس الجمهورية لاستكمالها، وقد أتت أغلب المواقف رصينة متزنة تتسم بالدبلوماسية إذ أقرت في أغلبها بضرورة التغيير لكن دون المساس بمكاسب الديمقراطية.
رئيس متذبذب
في الساعات القليلة الماضية، تواترت لقاءات رئيس الجمهورية مع رؤساء منظمات وهيئات وطنية، وهو إن دل على شيء فهو يدل على أن رئيس الجمهورية يعيش حالة من التذبذب على ضوء المواقف المتتالية كما أنه يريد أن يستفيد من هذه المواقف خلال النقاشات الجارية بقصر قرطاج.
ومع تواتر صفارات الإنذار بخصوص التضييق على حرية الصحافة وضرب مكاسب الديمقراطية، يظهر أنه كان لزامًا على رئيس الجمهورية أن يوضح لهذه الأطراف وجهة نظره، أو بالأحرى يعرض عليهم ضمانات لكي لا تُفتح عليه النار على أكثر من واجهة على اعتبار أن القرارات مفتوحة على سيناريوهات عديدة.
واللقاءات التي عقدها رئيس الجمهورية ليست اعتباطية، فكأنه يحاول أن يصنع لنفسه حزامًا حقوقيًا يجابه به الحزام السياسي الذي تتزعمه حركة النهضة، وأن يكسب الجمعيات والمنظمات والهيئات التي سارعت إلى إعلان مواقفها مما حصل والتقت جميعها عند عدم المساس بمكاسب الثورة.
وكان لممثلي السلطة القضائية نصيب من هذه اللقاءات، على اعتبار أن رئيس الجمهورية منح لنفسه حق ترؤس النيابة العمومية لمتابعة ملفات قال إنها تمس أمن البلاد، وهي خطوة يجيب بها قيس سعيد من يتهمه بمحاولة وضع يده على السلطة القضائية وضرب معركة استقلال القضاء.
وبين مساند للخطوات التي أتاها قيس سعيد ورافض لها، يتموقع السواد الأعظم من الشارع التونسي في صف التغيير ويظل الوضع في تونس مختلفًا عن بقية الدول العربية ويبدو فيه أن استنساخ تجارب أخرى غير قابل للتحقيق وسط صحوة من الهيئات والمنظمات الوطنية.