تصميم يوسف أيمن، المنصة
تغيب المنافسة في الرياضة والسياسة مع إهدار القواعد الأخلاقية والاكتفاء بهندسة المنظومتين

كرة القدم التي لا نعرفها جيدًا: التاريخ الدموي للساحرة المستديرة

منشور الخميس 8 أبريل 2021

"إن الرياضة الجدية لا علاقة لها باللعب النزيه، فهي محكومة بالغيرة والكراهية والتبجح وتجاهل القواعد، والمتعة السادية المتمثلة في مشاهدة العنف، وإذلال الخصم، وبكلمات أخرى إنها الحرب من دون إطلاق الرصاص".

جورج أورويل، عن الرياضة عمومًا و كرة القدم خصوصًا.

يجلس أبي علي أريكته المريحة عقب انتهائه من يوم عمل شاق كالمعتاد، وبصوت عال يتخلله الإثارة والحماس يوصي أمي بسرعة إعداد الطعام والشاي لوجود حدث كبير لا يمكن أن يفوته أبدًا، يدعوني أبي للجلوس إلى جواره لتناول الطعام سريعًا والاستعداد لمشاهدة حدث تاريخي؛ مباراة نهائي كأس العالم لكرة القدم عام 1998 بين منتخبي البرازيل وفرنسا.

ننهي الطعام مسرعين ويدخل اللاعبون أرض الميدان، وتسود أجواء الحماسة في المنزل والملعب وتبدأ المعركة المنتظرة. كنت حينها في الثامنة من عمري ولا أعي قوانين اللعبة أو ما يحدث في المباراة بشكل كامل، ولكني كنت أتفاعل مع الكرة كما يفعل أبي، هجمة قوية هنا ودفاع حديدي هناك وصيحات في كل مكان، تعرفت حينها علي الممتع "زيدان" والظاهرة "رونالدو" وبكل حماس بقيت أشاهد المباراة حتى انتهت بفوز فريق الديوك على راقصي السامبا 3-0 في مباراة تاريخية لا تُنسى، وبانتهاء المباراة انتهى أمري معها وقعت في عشق الساحرة المستديرة.

أنا والساحرة المستديرة 

بعد بلوغي سن المراهقة كنت أشاهد المباريات وأنقل أخبارها وأحاول معرفة كل شيء عن تلك اللعبة، ليس حبًا فيها فحسب بل إكرامًا لأبي أيضًا، ولفتح مجال للحديث معه باستمرار، وبعد موته أصبحت أشاهدها تخليدًا لذكراه وتعليقاته البذيئة المضحكة وانفعالاته، والآن أشاهد مباريات كرة القدم بشغف لا يمكن وصفه أو مقارنته بشيء. أعشق اللون الأخضر للملاعب، أعشق الـ 22 لاعبًا الذين يتقاتلون طوال 90 دقيقة دون رحمة، أعشق الحكام وصافرتهم وبطاقات العقاب، أعشق القوانين والبطولات والجماهير العريضة وانفعالاتهم المختلفة وفقًا لمجرى المباريات، كما كان يفعل أبي بالضبط. 

لكنني أختلف عن أبي قليلًا، فأنا لا أعشق فريقًا بعينه، على عكس أبي الذي كان عاشقًا لـ "الشواكيش" نادي الترسانة على المستوى المحلي والنادي "الملكي" ريال مدريد على المستوى الدولي، أما أنا فلا أنتمي لمشجعين بعينهم، وليس لدي فريق مفضل، رغم أنني أعرف أن كرة القدم دون جماهير محبة وعاشقة لن تصبح رياضة من الأساس، فكما يقال "الكرة للجماهير"، ولكنني أرى أن كل من يلعب بشكل جيد وممتع ويقاتل للفوز هو فريقي المفضل ويستحق التشجيع. أرى أن كرة القدم أكبر وأكثر إمتاعًا من أن أشجع نادي واحد بعينه.

منذ  فترة كنت أشاهد مباراة في بطولة الدوري الإنجليزي الممتاز بين فريقي ليفربول وشيفيلد يونايتد على ملعب الأخير، وفجأة علا صوت المعلق "هذا الملعب العريق لأقدم نادي كرة قدم في العالم، هذا الملعب الذي أقامت فيه الملكة "إليزابيث" منزلًا وحديقة مَلكية ومنعت الناس من ممارسة كرة القدم عليه، ومنعت كرة القدم نهائيًا في إنجلترا، وجعلتها جريمة يعاقِب عليها القانون، لأنها كانت ترى أن لعبة كرة القدم هي لعبة الغوغاء، وليست الملكة إليزابيث وحدها، منعها ملوك آخرون، والآن هو واحد من أكبر وأعرق الملاعب في العالم، تقام عليه مباريات تاريخية في البطولة الأعرق والأقوى". 

كانت جملة المعلق ذات وقع شديد على عقلي وأذني، وشعرت حينها أنني جاهل تمامًا بتاريخ لعبتي المفضلة ولا أعرف عنها شيئًا، وأنا من كان يعتقد أنه يعرف كل صغيرة وكبيرة عنها، ذهبت مسرعًا إلى صديقي "الفضاء الإلكتروني" لعلي أتعرف من خلاله على تاريخ لعبتي المفضلة، أتصفح النتائج مقالًا تلو الآخر، سطور من كتاب، مقطع فيديو متحرك، بعدها تأكدت أنني لا أعرف شيئًا عن تاريخ كرة القدم فعلًا، وأن هناك كرة قدم أخرى لم نعرفها من قبل وليست كتلك التي نراها اليوم.

تاريخ دموي وأسود من قبل الميلاد

لعبة كرة القدم عمرها آلاف السنين من قبل الميلاد، لا يعلم أحد متى خُلقت تحديدًا، ولا لأي الشعوب تنتمي على هذا الكوكب، أو أين بدأت حياتها، فالأمر يعود لقرون مضت؛ ما نعرفه أن هناك دلائل على محاولات بدائية عديدة عبر التاريخ للعب كرة القدم كانت أغلبها خشنة ودموية، ادعى فيها الجميع أنه من بدأ المغامرة واخترع كرة القدم، ولكن من المؤكد أنها جميعًا نسخ أولية من اللعبة ولا تشترك أو تشبه اللعبة الحديثة بأي شكل، عدا أنها لُعبت بكرة مستديرة مثل اللعبة الحديثة تمامًا.

سجل التاريخ ممارسة العديد من الحضارات القديمة ألعابًا شبيهة بكرة القدم في جميع أنحاء الكرة الأرضية، المصرية والإغريقية واليابانية والرومانية والأوليمكس والمايا والأزتيك والإنكا وغيرها، دون تحديد واضح مَن كان صاحب ضربة البداية.

ومن تلك النسخ البدائية لكرة القدم إشارة القطع الأثرية والرسومات الفرعونية بين عامي 2000 و2500 قبل الميلاد إلى ممارسة المصريين القدماء لعبة ما بكُرة دائرية دون تفاصيل واضحة عن تلك اللعبة وقواعدها وشكلها، ويعتَقد أنها أشبه بلعبة البيسبول والهوكي، وهناك لوحة جدارية في قبر الملك باكيت الثالث تظهر نساء يلعبن بالكُرة دون معلومات تفصيلية.

 

صورة للعبة كرة قدم بدائية في حضارة الأزتيك. برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا

 أنتجت حضارات أمريكا اللاتينية هي الأخرى نسخة من لعبة كرة القدم، فصنعت حضارة الأزتيك وغيرها في المكسيك وأمريكا الوسطى عام 3000 قبل الميلاد تقريبًا لعبة تشبه إلى حد كبير كرة السلة في الوقت الحالي، كانت الكرة فيها مصنوعة من المطاط، وتقام المباريات على ملعب كبير، ويحاول كل فريق وضع الكرة في حلقة مثبتة عند طرف الملعب للفريق الآخر، وكانت لعبة دموية أيضًا، يقدَّم فيها الفريق الخاسر تضحية قربان للآلهة.

 

نقوش لممارسة كرة القدم في حضارة اليونان القديمة. صورة برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا

لم تقف حضارة اليونان القديمة مكتوفة الأيدي وقدمت نسختها من لعبة كرة القدم عام 2000 قبل الميلاد، فاخترعت لعبة تدعي "إيبس كيروس"، وهي تشبه كثيرًا كرة القدم الأمريكية في الوقت الحالي، يتنافس فيها فريقان لعبور الكرة الخط الأبيض للفريق الآخر للفوز بالمباراة، كانت لعبة قاسية تعتمد على الخشونة والقوة البدنية بالدرجة الأولى.

لعبت نسخة من كرة القدم كذلك على يد الجنود الصينيين في فترة حكم أسرة هان في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، وتضمنت اللعبة محاولة ركل كرة صغيرة مصنوعة من الجلد محشوة بفراء الحيوانات إلى داخل حفرة صغيرة، ومُنع فيها استخدام الأيدي، وأطلقوا عليها اسم كوجو أوسوجو وكانت تلك النسخة هي الأقرب والأكثر تشابها مع لعبة كرة القدم الحديثة التي نعرفها اليوم، وبسبب هذا التشابه هناك اعتقاد  شبه خاطئ أن الصين هي من اخترعت أول لعبة لكرة القدم في التاريخ، ويزعم الصينيون أن اللعبة لها جذور أقدم من ذلك بكثير في التاريخ، تعود لعام 3000 قبل الميلاد أثناء فترة حكم الملك الأصفر الأسطوري.

 

رسم لممارسة كرة القدم في الصين القديمة. برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا

وفي عام 600 قبل الميلاد، جاء اليابانيون بمحاولة جديدة لممارسة كرة القدم، التي كانت مصنوعة من الجلد والمحشوة بنشارة الخشب، والمأخوذة عن لعبة كوجو الصينية ولكن طورها اليابانيون بشكل كبير وعلى نحو أفضل، أقيمت المباريات بين لاعبين إلى ثمانية لاعبين، وسط ملعب كبير محدد بأربع أشجار، وسميت كيماري، وقيل عنها إن الفريق الخاسر كان يعاقَب بالضرب والموت.

هنا انتهى تاريخ اللعبة غير الموثق بدقة وبدأ التاريخ المكتوب، الذي اتُهمتْ فيه بالقومية والعداء والدموية وإثارة الفتن والصراعات ومعاداة الكنيسة والرب والجيوش النظامية، وحاول الملوك والرؤساء منعها وطمس وجودها، واحد تلو الآخر. يعتقد البعض أن أزمة كورونا وتوقف لعب كرة القدم على المستوى الدولي هي المرة الأولى التي توقفت اللعبة فيها، ولكنها ليست الأولى وإن كانت الأقل خطرًا وتهديدًا، وعلى مر العصور حاول الكثيرون منعها وقتلها ولكنها كانت قوية شامخة، لم يستطع أحد إنهاء وجودها.

ركل الرؤوس المقطوعة

في عام 700، عقب انتصار بريطانيا على الدنمارك في الحرب وطرد الغزاة، قامت احتفالات أسطورية في بريطانيا، مارس فيها الإنجليز في شرق إنجلترا لعبة تشبه كرة القدم وكانت دموية للغاية، قام فيها الإنجليز بركل رأس أحد أمراء الحرب الدنماركيين المقطوعة، وهنا كانت البداية؛ ظلت الاحتفالات مستمرة عامًا تلو عام، وتحظى بشعبية واسعة في البلاد، وحلت رؤوس الخنازير أو المثانات المحشوة للحيوانات الميتة محل رأس الأمير المقطوعة.

كانت اللعبة تمارَس بين قريتين دون مسافات محدَّدة، وربما تظل المنافسة مشتعلة لأيام تقوم فيها كل قرية بمحاولة الدخول بالكرة للقرية الأخرى للفوز بالمباراة، وكان الركل والمصارعة وحتى الطعن متاحًا. كانت لعبة دموية حقًا تخلّف عنها قتلى وجرحى ومصابون، ونتج عن هذا الاحتفال حالة من عدم الاستقرار والزحام في المدينة وتخريب للممتلكات، حتى عام 1331 حين أصدر الملك إدوارد الثالث قوانين تمنع لعب كرة القدم التي كانت تسبب الموت والإصابات والفوضى، وكانت تلك أولى محاولات منعها بشكل حقيقي.

استمر الوضع كما هو عليه مع مرور الوقت، إذ رأى ملوك أوروبا أنها لعبة سيئة تمنع الناس من ممارسة الشعائر الدينية ورياضة الرماية بالقوس والانضمام للجيش، وتثير المشكلات والفوضى، فحاولوا وقف دوارنها، ومنهم إدوارد الثالث الذي منعها في بداية حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا، وانتشر المنع في كل أرجاء أوروبا، وأصدر ملوك بريطانيا اللاحقون، ريتشارد الثاني وهنري الرابع وهنري الخامس قوانينَ تنص على إلغاء تلك اللعبة نهائيًا.

وفي فرنسا أصدرت إحدي الكنائس مرسومًا يحرِّم ممارستها بأي شكل ويصفها بعدو الرب والكنيسة، وفي عام 1424 أصدر ملك اسكتلندا جيمس الأول قوانينَ صارمة تجرم لعب كرة القدم، ورغم الخوف وكل القوانين ومحاولات المنع كان البسطاء وعامة الشعب يحاولون ممارسة اللعبة خلسة وبهدوء شديد، وأخيرًا جاءت الملكة إليزابيث الأولى عام 1572، ورأت أنها لعبة فوضوية يمارسها الغوغاء والفقراء، وعليه أصدرت مرسومًا ملكيًا يجرمها، وينص على عقوبة بالسجن وحتى النفي لمن يلعبها.

ظلت كرة القدم ممنوعة لوقت طويل، ولكن الجمهور لم يُهزَم واستمر في ممارستها سرًا بعيدًا عن أعين السلطة، وبدأ أبناء كبار العائلات الإنجليزية في ممارسة اللعبة أيضًا، حتى عام 1605 حين أصدرت العائلة المالكة البريطانية مرسومًا يسمح بممارسة كرة القدم من جديد، وفي النهاية انتصرت كرة القدم وانتصر الجمهور العاشق وأصبحت رياضة للطبقة الأرستقراطية، تجذب الأغنياء أيضًا وليس الفقراء وحدهم، حتى جاءت الثورة الصناعية وبدأ فصل جديد مع معشوقة الجماهير.

مولد كرة القدم التي نعرفها

كانت الثورة الصناعية الأولى والثانية بمثابة الفرصة الذهبية لكرة القدم للانتشار والتوسع، وكانت إنجلترا هي الأرض الخصبة للانطلاق كالعادة، فيها حدث كل شيء، فمع بداية الثورة الصناعية عام 1784، انتشرت المصانع وازدادت الأيدي العاملة وبدأت السكك الحديدية في ربط المدن والدول مع بعضها بعضًا، وأصبحت الظروف مناسبة للانتشار والتطور بشكل أكبر داخل وخارج إنجلترا، تكونت اتحادات العمال والمدارس والجامعات، وراح الجميع يمارس كرة القدم بشكل مستمر، ولكنها لم تكن كرة القدم التي نعرفها اليوم، كانت لعبة مختلطة بين كرة القدم والرجبي، فكان اللعب متاحًا بالأيدي والأرجل.

ثم بدأت الأندية في الظهور دون صفة محددة، وأصبح للعبة جماهير غفيرة، ولكنها ظلت دون قواعد أو قوانين موحدة؛ يلعب الإنجليز بطريقة مختلفة عن الأمريكيين وعن الأستراليين، غير أنها كانت فترة جيدة تحولت فيها اللعبة وأصبحت لعبة الجميع، الصفوة وعامة الشعب من العمال والطلاب، أصبحت معشوقة الجماهير حقًا.

 

صورة للقوانين الموحدة لأول اتحاد كرة قدم في العالم في انجلترا عام 1863. برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبديا

تصارعت كرة القدم مع الأندية والمدارس والجامعات المختلفة، وكانت الجماهير من خلفها خطوة بخطوة، وفي النهاية نجحت في سنّ قوانين وضوابط موحدة ما زال بعضها يستخدَم حتى اليوم، وفي عام 1863 تأسس أول اتحاد لكرة القدم في التاريخ، حين اجتمع 11 ناديًا ومدرسة في حانة للماسونيين بلندن ووضعت القواعد الموحدة للعبة، انفصلت فيها عن الرجبي، وهكذا ولدت كرة القدم التي نعرفها اليوم.

في نفس العام أقيمت أول مباراة في إنجلترا لكرة القدم بين فريقي بارنز وريتشموند، وانتهت بالتعادل السلبي، ومن هنا بدأت كرة القدم في الإنتشار بين الدول، وفي عام 1882 أقيمت أول مباراة دولية بين إنجلترا واسكتلندا، ثم أمريكا وكندا، ولكن الانتصار الدولي الأكبر كان ضمّ كرة القدم للألعاب الأولمبية عام 1900، حينها أصبح العالم كله يعرفها يشاهدها ويحبها، أصبحت الساحرة المستديرة، وفي عام 1904 تأسس الاتحاد الدولي لكرة القدم فيفا في باريس، ونظمت أول بطولة لكأس العالم عام 1930 في الأوروجواي بمشاركة 13 فريقًا فقط، وهكذا انطلقت البطولة الأكثر جماهيرية في العالم حتى وقتنا الحالي.

كان صراع كرة القدم مع تعديل القوانين الموحدة طويل ومعقد، فقد تغيرت القوانين الموحدة كثيرا ومرت بالعديد من المراحل حتى وصلت لشكلها الحالي، ومن أكثر المحطات جدلًا، منع إستخدام الحارس ليده في حالة عودة الكرة من زملائه، واستخدام الحكام الصافرة لأول مرة وكروت العقاب، ووضع قانون التسلسل، وقانون احتساب ضربة الجزاء، والاتفاق على تطبيق الركلة الركنية، والموافقة على لعب كرة التماس باليد بدلا من الأرجل،  وأخيرا قانون الفار المستحدث.

 هي المناضلة، هي البطلة، هي في كل شيء 

حياة كرة القدم طويلة وصعبة، ورحلة كفاحها مليئة بالصراع والنضال، فعلت المستحيل من أجل النجاة والتتويج ملكة على عرش الألعاب الرياضية، صارعت من أجل البقاء حين حاول الملوك الأوروبيين في العصور الوسطى ومن بعدهم الرؤساء الأوروبيون في الحرب العالمية الأولى والثانية منعها وإيقافها، ناضلت لتكون لعبة مستقلة، تحدت القوانين واتحادات الكرة المختلفة حتى وضعت قوانين خاصة بها تجعل منها لعبة أكثر إمتاعًا، ونجحت في النهاية.

لم تمنعها الحروب والنزاعات من السعي والاستمرار، فأصبحت اللعبة الأكثر جماهيرية حول العالم، تغلغلت بين البشر فوجدت نفسها في كل كبيرة وصغيرة لديهم، فصاروا كل شيء بالنسبة لها وأصبحت حياة بالنسبة لهم.

يقول عنها الكاتب الإنجليزي جورج أورويل إنها رياضة ملعونة، لا يوجد بها أي روح رياضية، تحمل بذور الحقد والكراهية والتعصب، وهي أشبه بالحرب لكن دون إطلاق نار، وإنها سبب في إندلاع الفتن والعداوات، ونسى تمامًا أن البشر هم من صنعوا النزاعات والمشكلات والفتن المختلفة، وهم من صنعوها هي أيضًا واستغلوها لتنمية مشاعر الكره والحقد فيما بينهم كما يستغلون كل شيء لتحقيق أهدافهم.


اقرأ أيضًا: كيف أدار "هافيلانج" إمبراطورية فساد كرة القدم؟


في الحقيقة لا يمكن تعريف كرة القدم بشكل واحد دقيق، فهي رياضة من وجهة نظر الأغلبية، ولكنها أكبر من مجرد رياضة، هي المناضلة المشاغبة، هي الشيوعية والرأسمالية، هي الحرب والدم والسلام والمحبة، هي الفرح والحزن، هي السياسة والمجتمع، هي الثورة والحرية، هي في كل شيء. وهناك العديد من الأحداث والدلائل على مر التاريخ تثبت ذلك.

هي الشيوعية جمعت العمال والطلاب تحت راية واحدة، ومثلت الطبقات الفقيرة والمهمشة وكانت لهم خير رفيق وداعم فازدادوا قوة وتنظيمًا معها.

وهي الرأسمالية، يشاهدها أكثر من مليار إنسان حول العالم، ويعمل لديها أكثر من 130 ألف لاعب محترف، وآلاف الموظفين الاختصاصيين حول العالم، وتقدَّر سوق الأموال المستثمرة فيها حول العالم بالمليارات والتي تتعدى ميزانيات دول، فعلى سبيل الذكر لا الحصر قُدِّرت ميزانية سوق كرة القدم الأوروبية فقط للمحترفين لعام 2019 بما يقارب الـ 30 مليار دولار.

هي السياسة والمجتمع، يقول كارل ماركس إن "الدين أفيون الشعوب" وأقول له ليس الدين وحده، كرة القدم أيضًا أفيون الشعوب والمجتمعات، يفرحون معها عند الفوز، ويحزنون معها عند الهزيمة، يستغلها أصحاب السلطة وصناع القرار لإلهاء الشعوب، أو محاولة التقرب منهم بإظهار حبهم واهتمامهم بها فيحصدون الأصوات الانتخابية و مقاعد الحكم، ويمنعون الجماهير عنها للتحكم بهم ولفرض قوانينهم ورغباتهم على الجموع، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصي، وكأن التاريخ الدموي والأسود يلاحقها في كل الأزمنة والعصور.

نذكر محاولة الفاشي موسوليني استغلالها لتحسين صورته ونشر أفكاره، حين رتَّب إقامة كأس العالم في إيطاليا عام 1934 عن طريق الرشوة والفساد، ونشر أفكاره وشعبيته على اللافتات في الملاعب والشوارع.

ومن بعده جاء الديكتاتور الأرجنتيني خورخيه رافيل فيديل، الذي حاول تحسين صورته دوليًا وإخفاء جرائمه بحق الشعب الأرجنتيني عقب انقلابه العسكري على السُلطة، بإظهار دعمه وحبه للكرة في مونديال الأرجنتين عام 1978.

وبالنظر للتاريخ الأحدث نسبيًا نجد استغلال بعض السياسيين في ألمانيا إقامة كأس العالم على أرضهم عام 2006 ودعوتهم الفجة لمنع اشتراك دولة إيران في المونديال على خلفية تصريحات وصفت بمعاداة السامية من قبل السلطة الإيرانية، في محاولة منهم لتحسين أوضاعهم السياسية عالميًا. 

وهناك أيضا استغلال كل من الرئيس الروسي بوتين والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة كرواتيا كوليندا جرابار،  كأس العالم روسيا 2018 لمحاولة التقرب من شعوبهم وتحسين صورتهم الدولية والمحلية بدعم معشوقة الجماهير، وأخيرًا اتهم أساطير الكرة الإنجليزية وعلى رأسهم، لامبارد وروني وجاري نيفيل، السياسيين البريطانيين باستغلال كرة القدم بعد تفشي وباء كورونا للتقرب من الشعب والهروب من المساءلة القانونية بسبب التقصير في التعامل مع الجائحة.

كرة القدم أيضًا هي الدم والحرب، استخدمها الحكام كذريعة للحرب ونشر الكره والعنف وأبرز مثال على ذلك ما سمي مجازًا حرب كرة القدم عام 1969 بين السلفادور والهندوراس، حين استغلتها القوات العسكرية لإشعال فتيل الحرب عقب انتهاء مباراة بين البلدين في تصفيات كأس العالم بالمكسيك، وبالفعل قامت حرب قصيرة راح ضحيتها المئات وتشرد الآلاف.

ولا ننسى حين ورطها الساسة البريطانيون في الحرب العالمية الأولي والثانية، بعد مطالبتهم بوقف الدوري الإنجليزي بسبب الحرب ودعوتهم اللاعبين للقتال على الجبهة بحجة "إذا كان لدى اللاعبين القدرة على الركض والصراع في الملعب أثناء الحرب فليفعلوا ذلك على الجبهة أفضل، لأن إنجلترا بحاجة إليهم"، وبالفعل تم تشكيل كتيبة كاملة من اللاعبين سميت كتيبة كرة القدم، مات منهم كثيرون أثناء المعارك.

ونجد أيضًا محاولات الجنرال فرانكو إقحامها في صراعه السياسي أثناء الحرب الأهلية الأسبانية وهجومه بالطائرات على مدينة برشلونة وملعب الكامب نو اليساري، والعداء السياسي والرياضي الذي خلَّفه بين إقليمي العاصمة مدريد وكتالونيا منذ تلك اللحظة وحتى الآن، فيما يعرف حاليًا على المستوى السياسي بقضية انفصال كتالونيا، ورياضيًا بالكلاسيكو الإسباني بين فريقي ريال مدريد وبرشلونة.

وفي الوقت ذاته، هي السلام والمحبة، هناك العديد من التقاليد المتبعة في مختلف الملاعب حول العالم، التي تعزِّز التضامن بين الشعوب وتبرز المحبة والسلام وتنشر القيم الإنسانية النبيلة، ومنها العلامات الحمراء التي يضعها اللاعبون على وجوههم في مختلف الدوريات لمناهضة العنف ضد المرأة. إلي جانب تقليد دقائق الحداد والصمت المعهود على ضحايا الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية، ومؤخرًا تقليد الركوع المتبع في الكثير من الدوريات لمناهضة العنصرية والمرتبط بحادثة قتل الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد.


اقرأ أيضًا: دماء في حوض السباحة: كيف قاوم لاعبو المجر الاحتلال السوفيتي في الأولمبياد؟

 


في خضم الحرب والنزاعات، ظللت جميع الشعوب تلعب كرة القدم سويًّا رغم خلافاتهم، ولعل المثال الأشهر ما سمي بـ "هدنة عيد الميلاد" في الحرب العالمية الأولى، حين قام الجنود الألمان والبريطانيون بلعب كرة القدم في منطقة "اللا أحد"، وقتها خرج الجنود من الخنادق عشية عيد الميلاد للاحتفال، وتقابل الخصمان وتبادلوا الطعام والهدايا التذكارية ولعبوا كرة القدم متجاهلين الأوامر والقوانين الصارمة من القادة.

وأيضًا المباراة الشهيرة بين أمريكا وإيران في كأس العالم عام 1998، التي قدم فيها لاعبو إيران الورود البيضاء للاعبي المنتخب الأمريكي رمزا للسلام، وهناك ما سمي مباريات السلام التي جمعت بين الخصوم مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، وأيضًا قطر والسعودية أثناء أزمة الحصار والخصام، وغيرها الكثير من الأمثلة.

كرة القدم هي الثورة والحرية؛ تزداد مجموعات الأولتراس حول العالم وتزداد قوتهم مع الوقت، يأخذون من المباريات منصة حرة للتعبير عن غضبهم وغضب شعوبهم، ويكونون خير قوة في الثورات والحراك الشعبي والأزمات، كما حدث في ثورة يناير المصرية عام 2011 من دعم أولتراس الشياطين الحمر وأولتراس وايت نايتس للثورة، ونتذكر أيضًا كيف اتخذ الشعب البرازيلي من كأس العالم في البرازيل 2014 فرصة للتعبير عن الغضب والثورة على الأوضاع الاقتصادية السيئة في البلاد، وهناك مجموعات الأولتراس الثورية المعروفة في المغرب العربي التي تلعب دور كبير في حرية التعبير عن الرأي والحراك السياسي هناك.

تلك اللعبة الشعبية يا صديقي، هي البطلة، هي المناضلة والمشاغبة، هي كل شيء، هي كرة القدم التي لا نعرفها جيدًا.