منذ عام أو يزيد، كنتُ مشغولة بإنهاء الجانب التحليلي من دراستي للحصول على درجة الدكتوراه في تحليل مضمون مائة أغنية تمثل المشهد الموسيقي المصري الحالي؛ أتتبع الظواهر الموسيقية المعاصرة بأنواعها المختلفة حتى وصلت إلى الراب الذي لا أطيقه فيما تزعجني تراتبية إيقاعه وأرى المحاولات جميعها التي تصدت لتمصيره فاشلة، لانحسارها في استيراد اللحن والإيقاع والملابس من الراب العالمي وتحديدًا الأمريكي والاكتفاء فقط بتعريب كلماته، وبينما ألهث وراء زاب ثروت وأحمد مكي وأحمد الفيشاوي؛ أحاول، على مضض، تحليل الموضوعات والقضايا التي عبروا عنها من خلال مضامين أغانيهم بخطابية فجة، وصلت بفضل يوتيوب أو "اعتبرها علامة يامارد" إلى أغنية مروان بابلو الجميزة، وأنفقت يومي كله في البحث عن أعماله وإعادة الاستماع إليها لأكثر من مرة، ليس فقط لأنني باحثة، ولكن لأنني وقعت في حبها.
في اليوم التالي استيقظتُ مقررة عدم الاكتفاء فقط بتحليل مضمون أغاني بابلو، وإنما سأتخذه نموذجًا لدراسة الحالة في الرسالة أيضًا، استفيض من خلاله في استعراض تاريخ موجة التراب Trap Music الأخيرة في مصر، وهي موجة جديدة من موسيقى الراب تعددت تعريفاتها بين نسبتها إلى صيغتها الشعرية المتشابكة كالفخ، أو إلى الحالة الذهنية التي يوحي بها تناول المخدر، أو انشغالها بالانغماس في التعبير عن الهم الشخصي للفنان.
عرفتُ من خلال ما نشرته المنصة من تقرير أنجزه الزميل محمد طارق تضمن حوارًا طويلًا ومعايشة لبابلو في عام 2019، بعنوان "موت داما وميلاد بابلو: القواعد الخاصة لمتمرّد موجة الراب الجديدة؛ أن بابلو قد أصدر العديد من الأغاني عندما كان يطلق على نفسه لقب داما، قبل أن يعلن موت الأخير مجازيًا ويتخلص من كل إنتاجه دون الاحتفاظ بأي نسخة منه على كافة المواقع الإلكترونية لتبادل الموسيقى، معتبرًا حياة داما فترة تجريب، لا يجب أن تقترن بسيرة بابلو الذي كان يحضر لميلاده الوشيك، لكن أحد المتابعين لداما استطاع أن يحتفظ ببعض ما أنجزه وأتاحه على الإنترنت.
كسرت سن طلعلي ناب
كنت في قمة الغيظ من نظام النشر والتوزيع على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي فتح مساحات التعبير أمام مغنين كان يصعب عليهم تحقيق مساحاتهم في المشهد الموسيقى دونه، لكن ضغطة زر كانت كفيلة في الوقت نفسه أن تنسف مجهود سنوات، فما هي إلا أسابيع قليلة من نشر الحوار مع بابلو على المنصة، حتى قرر اعتزاله و"عودته إلى الله" مطالبًا جمهوره بالتوقف عن مطالبته بالعودة؛ حاولت تجميع أغانيه وحفظتها في ملف وصرفت النظر عن كتابة شيء مطول عنه.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2020، وجدت بثًا مباشرًا يتحدث فيه بابلو إلى جمهوره معلنًا أسباب اعتزاله التي ارتبطت بالضغوط والمنافسة غير الشريفة من جانب رفقائه ورفضه لفكرة تحول التراب "لنكش ودِّس" على حد وصفه، وحين علق واحد من جمهوره على الفيديو قائلًا "قتلت داما ياسطا" رد عليه غاضبا "متقوليش يا داما.. مسمعتنيش من أيام داما متقوليش يا داما"، عندها قررتُ العودة إلى العمل على أغاني بابلو واحترمت قراره بقتل داما وطريقته الخاصة في الاحتفاء بانتهاء مرحلته التجريبية، وكان ما صاغه من كلمات لأغنية الغلاف/أوزوريس يقول فيها "كسرت سن طلعلي ناب" كفيلًا بالنسبة لي بالتوقف عن البحث عن أغانيه القديمة والتركيز في تأمل ملامح تجربته عبر عشرة من أغانيه الجديدة التي أطلقها باسمه الجديد.
قابلني في الميدان
بدأ بابلو مشواره الموسيقي في عام 2015، حين كان طالبًا في المرحلة الثانوية، وولدت أغانيه الأولى من رحم سياق عج بالتغيرات السياسية التي أعقبت ثورة يناير، تزامن مع حالة من الانفتاح الثقافي والتطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال أتاحا مساحات للغناء البديل مكنت المغنين/ات من سهولة إنتاج موسيقاهم عبر طرق بسيطة من المنزل.
وجاء التراب كحل فني ناجح للتعبير عن حالات التيه والانكسار التي أصابت الشباب اليائس من المشهد الثوري الآفل، بعد أن فقدوا الثقة في الحلول الجماعية الثورية، وبدا لهم أنه لا بديل عن الحل الفردي لمحاولة البقاء في هذه الحياة، لذلك استطاع التراب أن يجمع حوله تلك الفئة من الجمهور الذي توحد مع المغنين من أمثال بابلو وغيره، الذين عبروا بجرأة عن تناقضاتهم الداخلية باستحضار حالة القوة واستعراض القدرات مع الحديث عن أزماتهم مع المخدرات وتصوراتهم الوحشية عن الحياة، متخلصين من التكلف في التعبير الذي تلتزم به الألوان الغنائية الأخرى، مثلًا، يعرف معجبون بابلو جيدًا ذوقه في الخمور والمخدرات "بتخفف الآلام...نقضيها بكيتوفان.. مسحول جوا Trap"، و"فركة دايرة مع الفودكا.. لو في إيدك چوب باصي".
https://www.youtube.com/embed/-jy7JQKBdaAكان بابلو وجيله صغارًا حين قامت الثورة، ولكن لغتهم تأثرت بالمعجم الثوري، وهو ما يظهر من لقب صديق بابلو ومنتج أغانيه السابق، قبل القطيعة، مولوتوف، ومن خلال كلمات بابلو نفسه الذي يقول في الجميزة "دكر قابلني في الميدان.. كبريت بنولع في العيدان"، وفي الغلاف/أوزوريس "ملناش أسياد ملناش كبير.. خرطوش وحي وإزاز وفتيل"، كما يعبر عن علاقته بالدولة في سياق المشاكل الذاتية مع الحكومة (الشرطة) في أتاري (سيارة النجدة) "بيبي أنا من المجاري.. مبنمارسش أي رياضة.. هنا بنجري من الأتاري"، وفي عايز فين "تعالى نقدرها ماراثون.. بجري أكن حكومة بتطاردني.. عُمر ما حد فيكو كان شاغلني".
عايزين عيشة من النضيفة
يتحدث بابلو في لقاء مصور عن طبقته الاجتماعية، مشيرًا إلى اضطراره للعمل في وظائف بسيطة لتأمين مصاريفه الشخصية "اشتغلت في محل هدوم واشتغلت في كارفور واقف في القسم الرجالي اتعاركت فيه وقفوني في قسم الأطفال"، وربما ساهمت تلك التجارب في تشكيل وعي بابلو الطبقي الذي يدرك من خلاله معاناة أبناء جيله الذين ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية نفسها، ومكنته من التعبير عن الصراع الذي يغلب على كثيرين لم يعد باستطاعتهم تحقيق ظروف أفضل للمعيشة؛ يبدأ بابلو تراك أتاري بـ "ناس فوق وناس تحت هي كدا بتمشي.. بيبي أنا من المجاري"، وتعكس كلمات أغنياته تقديره الطبقي وتطلعاته، فهو مثل كثيرين تأثروا بقبضة يد النظام الرأسمالي الذي يقدر الإنسان وفقًا لقدرته الشرائية، فيقول في تراك أفتر بارتي "أنا غير الكوتشي نايكي.. الجاكت بول أند بير".
وتظهر تلك الثيمة: البحث عن تحقيق الاستقرار المادي والتطلع الطبقي، في أغانيه مثل جيب فلوس والجميزة وبواكيز وديناميت وسندباد التي يعرب من خلالها عن أحلامه بتحقيق النجومية والثراء قائلا "بيبي أنا ستار مفيش نوم في حساب بنك عايز أملاه أصفار".
يمتلك بابلو وبعض رفقائه الذين أصروا على إنتاج التراب، في خصومة واضحة مع المهرجانات التي خرجت من طبقتهم نفسها وعلى لسان جيرانهم، رأس مال اجتماعي مختلف، بحسب فرضية عالم الاجتماع الفرنسي بير بيرديو، ساعد في تشكيل وعى طبقي واحتياجات وإشباعات ذات طبيعة مختلفة، حيث حصدوا رأس مالهم الاجتماعي من فرصهم في التعليم. يقول مروان بابلو في حوار لـفايس عن مجتمعه "يعتبر مقسوم اتنين، شباب روشة ومدرسة مختلطة بنات وولاد والحياة جميلة وأرجع هنا للحضرة. الحضرة شعبية، فاهم، فرق الفكر مختلف خالص. فأنا كنت شعبي بالنسبة لدول وفرفور بالنسبة لدول".
هواية بابلو المفضلة هي السكيتبورد، وهي ركوب لوح التزحلق صغير للتنقل بين الشوارع، سأله معن أبو طالب في مقابلة لموقع معازف، عن إذا كان يمتلك لونج بورد longboard وهو لو تزلق أكبر وأكثر احترافية فأجاب "ما عنديش بس أكيد عايز أجيب. كنت باخد لونج بورد من واحد صاحبي، كنا نمسك في العربيات ويسحبونا. ونلف في الشارع"، وهو تصريح ينطوي على رغبة الوصول للرفاهية من خلال شبكات الأمان الاجتماعي لتحقيق رأس المال بتعدد وجوهه الاقتصادية، وهى عادات تنتج نفسها في المجتمعات الأفقر كالجمعيات الشهرية، مشاهدة الماتشات المشفرة على المقهى أو باشتراك واحد مقسم على مجموعة بيوت، أو استعارة البدل أو تأجير الفساتين، وغيرها.
ويكشف بابلو في الحوار الذي أجراه خلال مرحلة "داما" في 2016، صراعه النفسي بين الفن وإصرار أسرته المتعلمة على إكمال شهادته الجامعية "بص أنا في ثالثة ثانوي، سقطت في ثالثة ثانوي دي اللي بتدخلك الكلية، سقطت بسبب المزيكا، في البداية كنت عايز أخش فنون جميلة، من وأنا صغير يعني، حلمي وكدا. بس عندنا فيّ المجموع، مجموعي ما جبش فنون جميلة فدخلت حقوق، والدي محامي، فدخلت حقوق أهو وماشي. سقطت سنة [يضحك] وإن شاء الله أنجح السنة دي".
يتحدث بابلو عن علاقته المتناقضة بالتعليم فيحقر منه تارة كما يظهر مثلا في تراك بس "كـ*م العلام"، ويرفع من شأنه تارة أخرى مثلما جاء في الغلاف/أوزوريس "دماغ شغالة مش بتنام.. ده سبب فشلنا في العلام.. عربي وأفرنجي بنرطنوا.. أزميلي تصحى للكلام"، وينعكس ذلك أيضًا في تضمين تلك الأغاني أسماء الأعلام في الموسيقى والفلسفة والفنون التشكيلية، حتى إنه اختار لنفسه اسم بابلو متأثرًا بـبابلو بيكاسو، وليثبت ذلك ظهر يغني أمام صورة مطبوعة للوحته التكعيبية المشهورة المرأة الباكية في كليب فلكلور، وكأنه يقول أنا من امتلكت الموهبة والمعرفة، وهو خطاب مختلف عما تطرحه أغاني المهرجانات.
https://www.youtube.com/embed/I62THUqMU0Aإسكندرية هي الدولة
يؤكد بابلو في لقاءاته كلها حبه للإسكندرية، ولكنه حب ليس فيه شوفينية وإنما يختلط برغبته في رفض المركزية الثقافية للقاهرة، ومنه أيضًا يمكن تفسير كراهيته للعاصمة وأمنيته أن يتطور ما يفعله إلى الحد الذي يجعل القاهريين يرتحلون إلى الإسكندرية ليسمعوه.
يقول بابلو إن العلامات الإلهية دوما ما تكشف له ضرورة الانتقال إلى القاهرة، و إن كل "الرابرز الجامدين طاروا على القاهرة" ليدركوا النجاح ويقيمون الحفلات ذات الجمهور الواسع، ويقابلون شركات الإنتاج، لكنه لايزال يحب الحضرة (حي شعبي شهير بالإسكندرية)، ويحافظ على لكنته السكندرية، ويتحدث بضمير الجمع فيقول في فري "نسوقوا الدنيا للمريخ.. نسوقوا الدنيا بدون بنزين"، وينسج كلمات أغانيه من لغة شبابها فيستخدم ألفاظهم مثلما يبدأ ديناميت "زميلي دي صحابي ومبتقصرش.. زميلي دي الفورة ودوه الماتش.. زميلي دي أجازة متتعوضش.. معايا المكنه مبتبطلش.. في ناس كتير بالهيلة.. سايق حتة مش عيلة.. عوق ده مش درويلة (خناقة).. فيه منكوا كتير بالشيلة".
وللمدينة الساحلية حضور قوى وخاص جدًا في إنتاج مروان بابلو سواء على مستوى الموتيفات البصرية التي يختارها لتصوير كليباته كالبحر وسيارات النقل والشوارع المتهالكة والعمارات التي تحت الإنشاء والجراجات المظلمة والأسواق المزدحمة وغيرها التي تعبرعن أغنية خرجت من وجه المدينة البائس، أو على مستوى المضمون فينتقي لغته من الشارع أو كما يقول في فري "بغنى بس اللي أنا عايشه.. أنا مش رابر أنا بيكاسو" وفي أبومكة "صاحبي أنا مـ الشارع مبيسلكش معايا السوس.. أنا وأنت عارفين إن اللعبة دي مفيهاش حظوظ".
ويؤكد في سندباد "ركز مين بيسوق هيتعملى شارع باسمي لما أموت.. عندي صحاب كتيرة ومؤذية.. مش من مصر أنا من إسكندرية.. السنة دي أنا هاخدها ليا"، وكأنه يصور الإسكندرية بكل ما يعيشه فيها لأنه كما قال في كاس "الجو حر هنا ساونة.. إسكندرية هي الدولة.. ريحلي كل العتاولة".
ثابتة زي الموناليزا
يشتهر الراب والتراب بحضورهما الذكوري الفظ، وفي المقابل يحافظ على صورة محدودة ومنمطة للنساء متضادة مع الشجاعة والبسالة والقوة الرجولية وملزمة لهن بسمات الجمال والإثارة والتلاعب والاستهلاك والخيانة، هذا المضمون كثيرا ما يؤكد بمشهد المغني الذي تتراقص حوله نساء كثيرات، أو ربما من خلال شكواه من خيانة الحبيبة أو احتقارها مستواه الاجتماعي.
وغالبًا ما يتم تصوير الحب كنقطة ضعف في ذلك الخطاب المغالي في ذكوريته فينحاز المغنين إلى الحديث عن الصداقة أو القدرة على الانتقام من الخصوم وتحقيق الثراء، وهو خطاب يتبناه بابلو أيضًا كما يظهر في فولكلور "جيب لي الرموت نطفي النفوس.. خليلك الحب أنا هاكتفي بالفلوس"، ولكن على النقيض وفي شاعرية غير مكررة في التراب وتحديدا المصري يصيغ بابلو كلمات الغزل ضمن باراته في احتفاء بقوة الشريكة فيقول في الغلاف/أ وزوريس "عينيها زي شبابيك.. قالتلي نط قولتلها بس دا يبقا اسمه انتحار".
يقول بابلو في لقاءه المصور، أشرنا له سابقًا، إن من بين مصادر إلهامه للكتابة "لما بتمر بحاجة في حياتك وتكتئب وتيجى تقعد في الأوضة تقعد تبص في السقف وتفكر طب سابتنى ليه؟ طب عملوا معايا كده ليه"؟ وربما كان ذلك وراء البداية الحالمة لتراك سندباد الذي يقول فيه "سنة جديدة وإنتي لسة في مخي ثابتة زي الموناليزا" ثم يقول في منتصف الأغنية "ياخي سبحان الله مفيش رزق جه بالعافية مفيش حب بالإكراه".
الحمد لله.. قربت أكون إله
أثناء بحثي عن تراك عايز فين، وجدت منه نسختين مختلفتين، يكمن اختلافهما في خلوهما أو احتوائهما على جملة "الأب الروحي للتراب.. خلاص قربت أكون إله"، وحسبما يذكر بابلو في حواره للمنصة أن السادات أعاد إنتاج التراك لكنه شعر بالحرج من الجملة فأزالها، فيما احتفظ التراك الأصلي بالجملة الشعرية التي رفض بابلو حذفها.
ورغم ذلك تبدو علاقة بابلو بالله هي أكثر الثيمات تكرارًا في أغانيه كلها، بداية من سندباد التي يقول فيها "سنة ريحتها فلوس.. ريحتها خمرة ريحتها دروس.. جت سليمة و مش محبوس.. الحمدلله" وهي المفردة التي يكررها بالإضافة إلى "على الله" مع نهاية كل مقطع من الأغنية وكأنها إجمالًا أقرب إلى حضرة صوفية تحتفي بذكر الله.
في تراك أتاري يقول "هنا كله علي الله وربنا مش بعيد.. العيال عند الجامع مستنية هدوم العيد.. ما في حيلة بالإيد قولي نشكي لمين"، ثم ينهى التراك بـ "الحاجة الوحيدة اللي هتطلع في الدنيا دي هي دينك"، يكرر بابلو تصوره عن علاقة إيمانية عميقة بالإله فهو قريب كما يذكر في تراك أبو مكة "معايا ربي.. صاحبي أنا مش قلقان" ويؤكد المعنى نفسه وكأن حديثًا دار بينه وبين الله في الغلاف/أزوريس "ربي قالي متتحَوَجش لعبد وإوعي تروح لغيري في يوم و تلجأ".
ويشكل انشغال بابلو بأسئلته الوجودية علاقة خاصة مع الله وفي الحياة، تظهر في لغته خلال لقاءاته المصورة أو اللايف مع الجمهور التي لا تكاد تخلو من كلمات "الله، ربنا، ربي، قدر، موت"، وهي الصورة التي تكتمل في الصورة الشعرية من أغنية فلكلور "أنا زهدت الدنيا زي بودا.. في العتمة لقيت النور"، وعن الفلسفة الدينية المصرية القديمة التي استحضرها مجسدة في الغلاف/ أوزوريس "خلاص مفاضلش مني غير شوية حطام.. لو أوزوريس حاسبني قلبي هيوزن جرام.. ما اخترتش كده بس إشطا أهو دوا اللي صار"، حتى تراك فري الذي فسره كثيرون باعتباره حالة من التغييب العقلي تحت تأثير المخدر، فإنه يقول فيه "هنتسحل في الطريق هنتدفن في السرير.. الجنة فيها حاجات كتير".
لذلك كان منطقي بالنسبة لي تفسيره الاعتزال الذي عاد منه مؤخرًا نتيجة لارتباك رحلته الإيمانية تلك وعلاقته مع الله، خصوصًا في ظل تنامي الآراء التي تضع فاصلًا بين الاشتغال بالفن والعبادة، وفي تصوري إن احتدام الأمر تعاظم مع تعرقله وسط شبكات الإنتاج والصراعات التي تنشأ بين رفاقه كما قال في اللايف "بعدت عشان الضغوط الراب بقى دِّس ونكش.. ونكش ودِّس".
في لقائه مع فايس أجاب بابلو مرتبكًا حين سأله المحاوِر عن شعوره خلال أول حفل له في الإسكندرية "على الله.. نـ*ك" هذه الجملة جعلتنى أتنبأ عودته بتلك الخلطة السرية الغاضبة المؤمنة والمتناقضة، وعلينا إذا درسناه أو وقعنا في حب استماعه أن نصغي لتلك التناقضات، التناقضات التي حملها جميعًا لنا في الغابة.
بابلو راجع إلى الغابة
قبل أسبوع أصدر بابلو تراك الغابة الذي عاد به إلى الساحة، ويخبرنا من خلالها، وخلال ثلاث دقائق ونصف فقط، عن تفاصيل عامه المنقضي، وبالتوليفة الساحرة نفسها ينسج بابلو غابته، فيبدأ بالسلام "السلامُ عليكم اظهر يا مختفي.. صورة مش واضحة بس مش هتفرق" وكأنه يؤكد عودته دون زوال بحثه وتساؤلاته، ومؤكدًا كذلك ديناميكية الحياة واقتناص النضج من التجارب "كبرنا وفهمنا.. خسرنا وكسبنا.. دايمًا حاضرين مهما غبنا"، وإلى جانب سؤاله الوجودي يظهر كذلك سؤاله الطبقي "الفقر شوفنا.. والقحط عيشنا.. ربك بيعوض الحمدلله"، ثم يسرد بعضها تفاصيل ما وصل إليه، وكأنها إجابة على سؤاله عن العدالة الإلهية "صاحبي الدنيا دي مبتنصرش البريء.. عشان البشر جم سنوا القوانين.. دا الموضوع، دية الغريزة بإيدك وسنانك وما تحلش الفريسة.. وفي قلب الوحل لازم تلاقي الميزة.. بقينا عايشين كإننا جوا غابة".
يبدو الفيديو المصور للأغنية وكأنه ابن تلك الكلمات التي صاغتها الأغنية، إذ كانت البداية خروجه من الظلام إلى النور، نور تلقاه بينما هو يقف وخلفه عمال يشتغلون بتركيب لوحة إعلانية كبيرة، وهى مهنة خطيرة يعمل بها العمال في ظروف قاسية ودون تأمين على حياتهم مع احتمالات جمة بالسقوط أو الصعق، ثم يستكمل غناء إجاباته الجزئية وهو يمتطي سيارة نقل تسير على كوبري صفط اللبن وبمنتهى السرعة حتى توصله للغابة.
لم يكن تصور الغابة بعيد عن ذهن بابلو، ففي حديثه لمعازف قال "إحنا كلنا سفاحين. يعني عشان نعيش في الواقع لازم نبقى سفاحين. زي الغابة كدا فاهم. في الغابة في أسود وحيوانات ثانية بتتاكل من الأسود، فأنت أكيد مش حتختار تبقى حاجة بتتاكل فاهم. أكيد حتختار تبقى سفاح".
كباحثة راهنت على الأصوات المستقلة منذ دراستى لأغاني المهرجانات، أستطيع القول إنها ستحدث تغييرا في ملامح الثقافة وعلاقتنا الذاتية والشعورية والجمالية بها وأن التغييرات الثقافية ليست بمعزل عن التغيير الاجتماعي والسياسي، وهو ما حملته لنا أفكار ميشيل فوكو حول مساهمات الخطابات البديلة في مقاومة الخطابات السائدة، وهي محاولت أنفقت سنين فيها لأشرحها، لكن بابلو استطاع أن يعبر عنها بسهولة شديدة في جيب فلوس "محطوطين عالماب اتعمل لينا هنا حساب.. ماليين الـ gap.. لو عندك بيف (أغنية هجاء) اتغطي وانساها.. فتح عنيا الاتنين.. بفكر أصلي في الحسين.. نخلق حفلة في الميدان".