أجمع محللون وخبراء، بينهم مسؤولان مصريان كبيران سابقان، أن على الشركة المصرية للاتصالات، TE، مراجعة الأسعار التي تفرضها على كابلات الإنترنت البحرية التي تمر في مصر، وتخفيف قبضة الاحتكار، حتى تستطيع تقديم خدمة تنافسية في مواجهة إسرائيل وعدد من دول الخليج على رأسها السعودية، بعد دخولهم مجال الكابلات البحرية. وربط المحللون لجوء الشركات إلى طريق جديد بعيدًا عن مصر؛ بتغير الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط بعد تطبيع دول خليجية علاقاتها مع إسرائيل.
البداية، كانت في أبريل/ نيسان الماضي، عندما كشفت شركة جوجل، عن مدّ كابل بحري لنقل البيانات يربط بين الهند وأوروبا عن طريق سلطنة عمان والسعودية ثم إسرائيل، ليصبح بذلك أول طريق يربط العالم القديم دون المرور على مصر.
وفي أول محاولة من الحكومة المصرية، ممثلة في الشركة المصرية للاتصالات، لمواجهة هذه الخطة؛ وقّعت اتفاقية مع شركة جوجل لتقديم خدمات أفضل على مستوى الجودة، لا الأسعار، عبر توفير مستويات حماية عالية من خلال إعادة توجيه حركة مرور البيانات الدولية الخاصة بجوجل من مسار إلى آخر عند اللزوم بمرونة عالية وبشكل تبادلي في زمن توجيه لايتعدى 50 ميللي ثانية، إضافة إلى تقديم أعلى مستويات الإتاحة للحركة الدولية العابرة لشركة جوجل مع نظام متابعة جودة الخدمة المقدمة SLA Portal.
وبحسب بيان المصرية للاتصالات، فإن الاتفاقية هي الأولى من نوعها في مجال خدمات العبور، وبموجبها ستحصل جوجل على سعَّات دولية لأوروبا عبر البحر المتوسط على الكابل البحري TE North المملوك للشركة المصرية للاتصالات.
وتحتل مصر المرتبة الثانية عالميًا من حيث عدد الكابلات البحرية التي تمرّ بها، بعد الولايات المتحدة، إذ يعبر مصر 17 كابلًا بحريًا من إجمالي نحو 448 كابلًا على مستوى العالم، وتوجد في مصر 4 محطات إنزال للكابلات هي أبو تلات، والإسكندرية على البحر المتوسط، والزعفرانة ورأس غارب على البحر الأحمر، وفقًا لأحدث بيانات متاحة من الجمعية الدولية للاتصالات، ITS، في 2019.
ما نعرفه عن الكابل الجديد
وفقًا لشبكة صاب مارين، وهي موسوعة مفتوحة لبيانات الكابلات البحرية، فإن الكابل الجديد الذي يمر بين السعودية وإسرائيل سيُطلق عليه بلو رامان، Blue Raman، نسبة للفيزيائي الهندي فينكاتا رامان (1888- 1970) الحاصل على جائزة نوبل عام 1930.
وتُوضح الشبكة، أن الكابل الجديد سيتم تمويله بالشراكة بين شركة جوجل، والشركة الإيطالية تيليكوم إيطاليا سباركل، وشركة إتصالات عُمان (عمانتل)، وتُقدر تكلفته بـ400 مليون دولار، على أن يدخل الخدمة في 2022، لافتةً إلى أن نقاط الكابل الأساسية ستكون: الهند، ثم سلطنة عمان، فالسعودية، فالأردن، فإسرائيل، نهاية بإيطاليا.
ويتكون الكابل من جزأين؛ يبدأ الأول من مومباي بالهند ويمر عبر المحيط الهندي والخليج العربي وصولًا إلى سلطنة عمان، حيث يتصل بكابل أرضي من سلطنة عمان مرورًا بالسعودية إلى ميناء العقبة الأردني، أما الجزء الثاني فيبدأ من جنوة بإيطاليا ويمر تحت مياه البحر المتوسط، ثم إلى إسرائيل وصولًا إلى ميناء العقبة أيضًا، وفقًا لبيانات شبكة صابّ مارين.
وتُتابع الدراسة، أن الكابل الجديد سيبلغ طوله حوالي 8 آلاف كيلو متر، مشيرة إلى أنه خلال السنوات الأخيرة، اقتحمت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل جوجل ومايكروسوفت وفيس بوك، مجال إنشاء الكابلات البحرية، على العكس من التقليد الذي كان معمولًا به قبل ذلك، بامتلاك شركات الاتصالات هذا الحق.
وتعدّ جوجل اللاعب الأكبر، بعدما بدأت مشروعات الكابلات البحرية في 2010، وأبرزها كابل Utility الذي يربط بين اليابان وولاية كاليفورنيا الأمريكية عبر المحيط الهادئ ، وهو جزء من مشروع مشترك مع شركات اتصالات هندية ويابانية وشركات اتصالات أخرى، وفقًا لشبكة صابّ مارين.
وعلى الرغم من عدم كشف جوجل حجم الاستثمارات في الكابلات البحرية، إلا أن تقريرًا نشرته صحيفة هاآرتس الإسرائيلية، قدّر حجم استثماراتها بنحو 47 مليار دولار خلال أعوام 2016 و2018، فيما أطلق عليه مسؤولو جوجل "تحسين البنية التحتية للشركة".
منطقة مزدحمة
من جهته، يقول وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات السابق خالد نجم (مارس- سبتمبر 2015)، إن مسألة البحث عن طرق بديلة لمصر ليست وليدة اللحظة، إذ أنه وقبل سنوات كانت هناك خطة صينية لمد كابلات البيانات مع أوروبا عبر شمال آسيا ضمن مشروع طريق الحرير، لكن اعترضته الظروف المناخية والثلوج الكثيفة.
وشرح نجم في اتصال هاتفي مع المنصة، كيف أن المغرب أيضًا منافس لمصر بسبب قربها من أوروبا.
وحول أسباب اعتماد جوجل على إسرائيل، يُوضح نجم، أن الشركة تبحث عن أي طريق رخيص للربط بين أوروبا وآسيا، من أجل تسريع عملية نقل المعلومات وتقليل التكلفة، دون أعطال خاصة بسبب الازدحام في مواقع إنزال الكابلات في مصر.
وتُظهر ورقة بحثية صادرة عن جمعية الاتصالات ITS، أن ثُلثي أعطال الكابلات التي تقدر سنويًا بنحو 100 حادثة، تتسبب فيها السفن بغير قصد منها، حيث تكون الكابلات على أعماق أقل من 200 متر.
وتُضيف الورقة الصادرة في مؤتمر الاتصالات الثاني في فبراير/ شباط 2020، أن جزءًا من الأعطال البيئية يحدث عندما يتجاوز عمق الكابل كيلومترًا واحدًا، أما الأعطال بسبب عضات أسماك القرش فهي حوادث نادرة للغاية.
يوضح وزير الاتصالات المصري السابق في تصريحاته للمنصة، أن ارتفاع تكلفة رسوم العبور التي تفرضها المصرية للاتصالات سبب رئيسي في البحث عن طريق بديل، واصفًا عملية التسعير من الجانب المصري بـ "الفاسدة" والتي تسببت في ضياع استثمارات ضخمة على الدولة المصرية.
يقول نجم، إنه أثناء خدمته كوزير في عام 2015، خاض معارك مع مسؤولي الشركة المصرية للاتصالات من أجل تخفيض رسوم العبور بنحو نصف القيمة، مضيفًا أن ذلك دفعهم لاتهامه بإهدار المال العام. يقول "كان نفسي أحاكم اللجنة القائمة على التسعير داخل المصرية للاتصالات، لكن الوقت لم يسمح"، إضافة لـ"تحامي بعض مسؤولي الشركة المصرية بالأجهزة السيادية للهروب من المساءلة والرقابة".
ويلفت الوزير السابق إلى أن مشكلة ارتفاع التسعير لم تتوقف على الشركات المالكة للكابلات العالمية، لكن الشركات العاملة في السوق المحلي تُعاني من احتكار الشركة المصرية لعملية مد الكابلات والتشغيل وحدها، مدللاً بالشكاوى التي قدمتها شركات أورانج وفودافون بسبب هذه السيطرة.
ويُتابع "الشركة المصرية كانت تُساوم الشركات المحلية سواء برفع أسعار الخدمات التي تقدمها لهم، أو برفض منحهم الخدمة من الأساس، وهذا كله يرجع بسبب سيطرة واحتكار الشركة وحدها على مد وتشغيل الكابلات دون إدخال شركات أخرى، حيث تمتلك الشركة المصرية الحقوق الحصرية لإنشاء البنية التحتية للاتصالات، بينما يتعين على المُشغلين استئجار سعَّات منها".
المحتكر الوحيد
بعد 18 عامًا من إنشاء الهيئة القومية للاتصالات السلكية واللاسلكية عام 1980، والتي كانت تابعة لوزارة المواصلات المصرية، أصدر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك قانونًا برقم 19 في عام 1998 بتحويلها إلى شركة مساهمة مصرية تحت اسم الشركة المصرية للاتصالات.
وفقًا لبنود القانون، آلت كل أصول الهيئة القومية إلى الشركة الجديدة والتي قُدرت في ذلك الوقت مارس/ آذار 1998، بقيمة تتجاوز 19 مليار و105 مليون جنيه، وُزعت على أسهم قيمة كل سهم 100 جنيه. وفي سبتمبر/ أيلول 2005، تم تخفيض أصول الشركة إلى 17 مليار و70 مليون جنيه، بعد استبعاد بعض الأصول من التقييم، ثم جزأت هذه الأسهم، وتم تحديد سعر السهم بـ10 جنيهات.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، وافق مجلس إدارة الشركة وهيئة الرقابة المالية ومجلس الوزراء المصري على تحديد سعر سهم الشركة بـ 13.3 جنيهًا، وفي ديسمبر/ كانون الأول، تم طرح 20% من أسهم الشركة للاكتتاب في البورصة، على أن تظل نسبة الـ80% مملوكة للحكومة المصرية. وبلغ عدد أسهم الشركة المتاحة في البورصة خلال الـ9 أشهر الأولى من عام 2020 إلى مليار و707 مليون و71 ألف و600 سهم.
وبلغت قيمة أصول الشركة في التقرير المالي للربع الثالث من العام 2020، نحو 70 مليار و631 مليون جنيه. في حين وصل إجمالي إيرادات الشركة إلى 22 مليار و347 مليون جنيه، منها 3 مليارات و338 مليون جنيه إيرادات من رسوم الكابلات البحرية وحدها.
رسوم باهظة
ارتفاع الأسعار الذي تحدث عنه وزير الاتصالات السابق؛ أشارت إليه دراسة مقارنة صادرة في أبريل/ نيسان 2020 أعدها الباحث وينستون كيو، لصالح شبكة صاب مارين. أجرى الباحث تقّييمًا لأسعار 12 كابلاً بحريًا يمر بمصر وقارنها بمثيلاتها، ووجد أن الشركة المصرية للاتصالات تفرض أسعارًا مرتفعة عند تقديم الخدمات سواء لاستخدامات محطات الإنزال أو لمرور الكابلات الأرضية بين البحرين الأحمر والمتوسط.
ويُوضح كيو، أنه خلال الفترة بين أعوام 2000 إلى 2019، حصَلّت المصرية للاتصالات من الكابلات الـ12، ما مجموعه على الأقل 369 مليون دولار "أكثر من 5 مليارات و793 مليون جنيه مصري"، بالإضافة إلى رسوم التشغيل والصيانة.
ويُتابع، بأن رسوم العبور من الكابلات الـ12 ساهمت بما يتروح بين 6.62% و17.39% من إيرادات الشركة المصرية للاتصالات خلال الفترة من 2008 إلى 2019، بمتوسط حوالي 11.6%.
تتفق نتائج هذه الدراسة مع تصريحات وزير الاتصالات الأسبق خالد نجم، في أن رسوم العبور المرتفعة من جانب الشركة المصرية تفرض على الشركات الأخرى البحث عن طريق بديل.
ويقترح الباحث في دراسته، أن تتبنى الشركة المصرية سياسة مرنة وتخفض رسومها لجذب المزيد من الاستثمارات. ويرى، أنه من وجهة النظر المالية، فإن صافي الأرباح الممتاز الذي تُحققه الشركة المصرية قد يُساعدها على سياسة خفض الرسوم.
إسرائيل تدخل على الخط
تناولت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية في أحد تقاريرها، إمكانية تحول إسرائيل إلى موقع مهم على شبكة كابلات جوجل، عندما تكون جزءًا من كابل بلو رامان البحري الجديد، الذي وصفته الصحيفة بـ"الطريق المبتكر" الذي يربط بين أوروبا وآسيا متجاوزًا الطريق المصري المزدحم.
وتنقل الصحيفة عن مصادر في قطاع الصناعة، بأن تقسيم الكابل إلى جزأين لاعلاقة له بالمسائل التكنولوجية، بل بالجغرافيا السياسية، حتى لا يتم إعطاء انطباع بأن الجزء الإسرائيلي يمر عبر الأراضي السعودية، وذلك التفافًا على عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين حتى الآن. مختتمة بأن الهدف الأخير هو تجاوز مصر، لأن هذا الكابل سيكون الأول والوحيد الذي يربط بين أوروبا وآسيا دون المرور على مصر.
إلى ذلك تُوضح صحيفة جلوبز الإسرائيلية في تقرير لها، فوز شركة بيزك الإسرائيلية للاتصالات المحدودة BEZQ بعقد استثمار قطاع البنية التحتية لخط بلو رامان في إسرائيل، مضيفةً أن هناك خطة لتكون إسرائيل مركزًا رئيسيًا لنقل البيانات بين الهند وأوروبا.
وتُوضح الصحيفة، أن ذلك سيكون من خلال كابل بلو رامان وكابلين آخرين سيتم الانتهاء منهم في 2023، لافتة إلى شراء صندوق كايستون REIT Keystone حصة 25% من مشروع شركة Cinturion Corp لمد شبكة ألياف ضوئية عابرة للقارات باستثمارات 900 مليون دولار.
وتُشير إلى أن صندوق كايوستون تملكه شركات Navot Bar، وRoni Biram، وGil Deutsch، وأنه من بين الشركاء في المشروع ضباط كبار سابقون في الجيش الأمريكي، ومستثمرون بريطانيون ومستثمرون من دول الخليج وإسرائيل، لافتةً إلى أن هذا المشروع استغل تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل لإنجاز ما أسمته بـ "الاستثمار الضخم".
المنطقة الحرة كبديل لإسرائيل
يقول رئيس الجهاز القومي للاتصالات السابق، المهندس هشام العلايلي، إن الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط ساهمت في خلق فرص بديلة، في إشارة لعملية التطبيع بين دول الخليج وإسرائيل، وبالتالي فإن الوضع السابق الذي كانت تستغله الشركة المصرية للاتصالات كونها الطريق الوحيد والأسرع في الشرق الأوسط، لم يعد كما كان.
ويُضيف العلايلي في اتصال هاتفي مع المنصة، أن الأوضاع السياسية السابقة كان العامل الأبرز الذي تستغله الشركة المصرية لرفع تسعيرة رسوم عبور الكابلات البحرية، لكن التغيرات السياسية أطاحت بهذا العامل، موضحًا أن ذلك يدفع الحكومة المصرية لضرورة خلق حوافز لجذب شركات البيانات الضخمة، من خلال توفير امتيازات لهم، ومراجعة عملية التسعير لـ"تخفيضها".
ويُوضح العلايلي، أن عملية تسعير الرسوم تُقدر بحجم البيانات المنقولة والتي تُقاس بـ "الجيجابايت أو تيرا بايت"، ويجب استغلال موقع مصر، كونه واحدًا من أقصر الطرق بين قارات العالم القديم، معتقدًا أن ذلك قد يُسهم في إجهاض أي طرق بديلة لمصر.
ويُشير الرئيس السابق للجهاز القومي إلى عدم تغليب مصلحة الشركة المصرية للاتصالات على المصلحة العامة للبلاد، لافتًا إلى أن مرونة الأسعار كفيلة بتعويض الفاقد من خفض الأسعار.
ويقترح العلايلي إنشاء منطقة حرة بقانون ضمن مشروع محور قناة السويس، حتى تكون بجوار محطة الإنزال في الزعفرانة، 65 كيلو مترًا جنوب محافظة السويس، من أجل تحفيز شركات التكنولوجيا العالمية على الاستثمار في مصر. وتُقابل محطة الزعفرانة على خليج السويس والبحر الأحمر، محطة أبو تلات وهي قرية على بعد 26 كيلو مترًا غرب الإسكندرية.