تصميم: يوسف أيمن- المنصة

التنقل اللغوي: بصمات التعايش بصحبة لهجتين

منشور الأربعاء 2 ديسمبر 2020

بدأت الحكاية مع محاولات سارة الأولى للاندماج مع من حولها من الناس حين التحقتْ بالجامعة وانتقلتْ من مركز البداري، التابع لمدينة أسيوط، لتعيش فيها. لا تتذكر متى بالتحديد، لكنها أدركتْ أنها تتنقل دون وعي منها بين لهجتين من اللغة ذاتها؛ اللهجة الصعيدية الثقيلة، والقاهرية الرقيقة.

حاليًا يقع مكتب عمل سارة بالقرب من منزل أسرتها؛ يحدث أحيانًا أن تمر شقيقتها الصغيرة لزيارتها في مقر عملها. زملاء سارة في العمل أصلهم صعيدي، لكنهم يتحدثون بلهجة قاهرية، أو لهجة بيضاء خالية من أي تقعيرات لغوية، فإن وجه لها أحد زملائها في العمل سؤالًا أثناء حديثها إلى شقيقتها، تلتفت سارة إلى زميلها وتجيبه بلهجة قاهرية طبيعية ومتقنة وسلسة، مرققة كل الحروف، متخففة من ثقل الجيم والقاف، ثم تعود إلى الحديث مع شقيقتها، فيعود لكل حرف وزنه الذي تعرَّفت عليه في طفولتها، فتعطش الجيم وتفخم القاف، الأمر الذي يشعرها بالارتباك في الحوار رغم سلاسة تنقلها.

اللهجة والهوية

يُعرف قاموس ميريام ويبستر اللهجة بأنها "نوع محلي من اللغة، تتميز عن الأنواع المحلية الأخرى بخصائص مفرادتها وقواعدها النحوية وطريقة نطقها، ويشكلون معا لغة واحدة". ثنائية اللهجة هي توظيف لهجتين في الحياة اليومية على نحو ممنهج. العالم به قرابة ستة آلاف وخمسمائة لغة، ولكل لغة تشعباتها؛ تنتشر ثنائية اللهجة على نطاقٍ واسع في العالم. في الولايات المتحدة مثلًا، يتحدث الأفارقة الأمريكون العامية الأفريقية الإنجليزية، الإيبونكس، بجانب الإنجليزية القياسية.

لا يتعلق الأمر في أغلب الأحيان بما نقوله، بل بكيف نقوله، ولهذا تُقرر سارة ألا تثبت على لهجةٍ واحدة، بل تتماشى مع ما تسمعه من بيئتها المحيطة لتُشعرهم بالألفة ولا تشعر هي نفسها بالاغتراب والارتباك. أيضًا تُشير إلى أن سببها الشخصي لتحولها إلى اللهجة القاهرية منذ كانت في الجامعة وحتى بعد انتقالها لبيئة العمل هو إيمانها بأن لهجتها مليئةٌ بالأخطاء؛ فيها تتحول الجيم إلى دال، وتُكسر كل الكلمات تقريبًا، مما يُضفي على لهجتها نوعًا من الهزلية التي تجدها غير مقبولة لغويًا في محيطها الاجتماعي بعيدًا عن أسرتها وأهل بلدتها.

يُشير الأستاذ المشارك بقسم اللغات والفلسفة ودراسات التواصل في جامعة ولاية يوتا، عبد الكافي البريني، في دراسة نشرتْ عام 2011 إلى أن انتقال المتحدثين بين الفصحى إلى لهجاتهم العامية والعكس يمثل نظريةً لغوية تُعرف باسم التنقُل اللغوي.

يوضح البريني أن علماء اللغة يتفقون على أن التغيير من شكلٍ لغوي إلى آخر في محادثة واحدة هو "فعل تواصل إبداعي، يُستعانُ بهِ لأغراضٍ براجماتية ولغوية-اجتماعية متنوعة"، منها على سبيل المثال، يُستخدم التَنقل اللغوي كاستراتيجية تواصلية أو اجتماعية وكوسيلة للانسجام مع المستمع وإظهار اندماج المتحدث أو للتضامن للاجتماعي، تمامًا مثلما تفعل سارة.

من خلال دراسة البريني لتسجيلات محاضرات دينية ونقاشات سياسية وتعليقات كروية مُستقاة من لهجات مصر والخليج وبلاد الشام، استنتجَ أن المُتحدث يخلقُ خلال التنقل اللغوي "تَشعبًا وظيفيًا بين اللهجتين عن طريق تحديد المواضيع المهمة والمعقدة والجادة وحصر مُناقشتها بالفصحى (اللهجة الأسمى)، أمَّا الموضوعات المُتداولة والأقل أهميةً والأبسط يُشار إليها بالعامية (اللهجة الأدنى)". ما يؤدي لإعادة قولبة قيم اجتماعية غير متكافئة من الأساس.

عوامل دفينة

يشرح البريني في دراسته أنه في حالة التنقل اللغوي بين لغتين مختلفتين كُليًّا، يتعلق الأمر بالعلاقة السلطوية والمكانة الاجتماعية التي تتفوق بها إحدى اللغتين بها على الأخرى لأسبابٍ استعمارية مثلًا. تختلف العلاقة حين يشمل التنقل لهجتان تتشعبان من اللغة نفسها، ولا يرتبطان في تاريخهما وهيكلهما اللغوي فحسب، بل "تربطها علاقةٌ اجتماعية من حيثُ القيمة والسياق المُستخدم لكلٍ منهما".

يقتصر استخدام الفصحى في عدة أشكال منها الرسميات والآداب والتعليم وعلى المنابر، ومن ذلك اكتسبت أهميتها وهالة القداسة المُحيطة بها، في حين تتناول العامية المحادثات اليومية غير الرسمية. ولهذا، يوضح البريني، أنه يُنظر إلى العامية على أنها نسخة مشوهة ومُحرَّفة من الفصحى المعقدة والبليغة؛ ومن هنا تأتي النظرة الدونية للهجةٍ بعينها. أي أن التملص من اللهجة يدل على وجود عامل آخر ثقافي أو اجتماعي يؤدي دورًا جوهريًا في لاوعي الفرد المُتملص.

تقول سارة إنها فعلًا لا تُفكر حين تُغير لهجتها، الأمر عفوي بالكامل وأنها تسعى لتجنب سؤال "هو إنتِ منين؟"، لكنْ يُثبت هذا وجود عوامل دفينة لاتصال اللهجة والهوية والكيفية التي تُريد أن تظهر بها، مُتحررةً من أعباءٍ لغوية قد تؤدي إلى أن يُصنفها المُستمع بناءً على اعتبارها غريبة عنه أو قريبة منه.

استفادة معرفية مرجوَّة

تختلف اللهجات في مصر على نحوٍ ملحوظ على مستوى النطق والألفاظ وتراكيب الجُمل، ففي الفصحى تكون "لا أعرف"، بينما في اللهجة القاهرية "مش عارف" أو "مَعْرفش"، وتتحول في البداري إلى "مَا عَرِفش" أو "مَا خَبِرش". في حالة سارة، تجمع بين ثلاثتهم؛ تكتب تقارير عملها بالفصحى وتتحدثُ مع زملائها بلهجةٍ قاهرية، ومع أخوتها بلهجة صعيدية، أيحدث شيء مميز في إدراك سارة خلال هذا التنقل؟

وضحتْ الأبحاث في العقود الأخيرة أن إتقان لغتين أو أكثر يمنح مميزات معرفية وإدراكية لمُتحدثها؛ يستمتع ثنائيو اللغة بمرونة معرفية واتقاد ذهني وتفتح لتَقبُّل وجهات النظر المختلفة، وبمهاراتٍ لحل المشكلات على نحوٍ أكثر سلاسة، وأيضًا يساهم تعلُّم اللغات في تجنب أمراضٍ عصبية مثل ألزهايمر، وهو أمرٌ يقتصر على من هم ثنائيو اللغة لفترةٍ طويلةٍ من حياتهم.

لا تتقن سارة أي لغةٍ أجنبية أخرى غير العربية، ولا تدرك ما يحدث في عقلها جراء وخلال هذا القفز المرن من لهجة لأخرى. لكن يُشير أستاذ اللغويات بقسم اللغويات التطبيقية والنظرية بجامعة كامبريدج، كيرياكوس أنطونيو، في بحث نُشر عام 2016 في الدورية الأكاديمية كوجنِشن، إلى أنْ تنقُّل المرء بسلاسةٍ بين لهجتين يمنحهُ بعضًا من المزايا الفكرية التي تَنتُج عن تعلُّم وإتقان لغتين مختلفتين.

في حالة التنقل اللغوي بين لهجتين، يمرُّ المتنقل بإعدادتٍ قياسية قبل الانتقال، تُشبه ما يمر بها المتنقل بين لغتين. يُراقب من يمكنه التحدث له بلهجته العادية ومن سيكون مناسبًا أكثر أن يتحدث معه بلهجته الثانية، القاهرية في حالة سارة، يتفحص المُتحدث موقفه ويحدِّد سريعًا طريقة نُطقه ويختار مفرداته بعناية وسلاسة.

المميزات المعرفية والإدراكية لثنائية اللهجة كانت هي صميم البحث الذي أجراه أنطونيو بالتعاون مع فريق من الباحثين من جامعات كامبريدج وقبرص، وقبرص للتكنولوجيا. أجرى أنطونيو وفريقه تجاربهم على ثلاث مجموعات من الأطفال، مجموعة لا تتحدث إلا اليونانية القياسية (25 طفلًا)، ومجموعة  تتحدث اليونانية القياسية في المدرسة واليونانية القبرصية في المنزل (64 طفلًا)؛ تختلف اللهجتان عن بعضهما اختلافًا كبيرًا في المفردات والنطق والتركيب النحوي، ومجموعة ثالثة ثنائية اللغة، تتحدث الإنجليزية واليونانية (47 طفلًا).

استندت هذه التجربة على عددٍ من الاختبارات التي تقيس المهارات اللغوية والوظائف التنفيذية (الذاكرة العاملة؛ القدرة على تخزين المعلومات مؤقتًا ومعالجتها للمهام المعرفية اليومية، وقدرات التخطيط والتنظيم والتتابع، وترتيب الأولويات وحل المشكلات والمرونة المعرفية والانتباه...). ومع الأخذ بالظروف التعلمية والاجتماعية للمجموعات في الاعتبار، وجد الفريق البحثي أن ثنائيي اللغة يؤدون على نحو أفضل من أُحاديي اللغة واللهجة في اختبارات الوظائف التنفيذية، ولم يكن هذا مُفاجئًا.

ما كان مفاجئًا هو أن أداء ثنائيي اللهجة كان أفضل من أُحاديي اللهجة، وكان أقل بقليل من ثنائيي اللغة. وقياسيًا، حسب قول أنطونيو، يوضح هذا أن تأثيرات ثنائية اللغة وثنائية اللهجة على الفرد مُتشابهة إلى حدٍ ما.


اقرأ أيضًا: السياق لا يكفي: لماذا تفشل اللغة كجسر تواصل؟

 


السؤال هنا: إلى أي مدى تختلف اللهجتان لينتج عن تدوالهما مزايا إدراكية شبيهة بمزايا ثنائية اللغة؟ لأنه في آخر الأمر، الفجوة محدودة. يُجيب أنطونيو بأنه "وفقًا لاختباراتنا وتجاربنا، لا تُشكل المسافة بين اللغات واللهجات فرقًا؛ التنقل المُنظم بين أي نوعين أو شكلين من أشكال اللغة، حتى المُتشابهة منها، يمدُّ الدماغ بمُحفزٍ إضافي ينتج عنه أداءً إدراكيًا أفضل".

على الجانب الآخر، أثارتْ تجربة أنطونيو جدلًا واسعًا وتلَّقت نقدًا لاذعًا؛ يختصُ أستاذ علم الأعصاب الإدراكي بجامعة ولاية سان فرانسيسكو، كينيث پاپ، بتفنيد فرضية وجود مزايا لثنائية اللغة بشكلٍ عام مؤثرة على الوظائف التنفيذية، وأشار في مقال نُشر بدروية كورتِكس إلى أن "مزايا ثنائية اللغة على الوظائف التنفيذية إما لا وجود لها في المطلق، أو أنها منوطة بظروف شديدة التحديد وغير محسومة"، ونوَّه أيضًا إلى أن صغر حجم العينة التي بُنيت عليها الدراسة هو ما أدى إلى نتائجها الإيجابية.

لا تُشكل ثنائية اللهجة عبئًا أو مشكلة كما يصوِّرها البعض، لكنها أيضًا ليست ميزةً رائعة كما يريد البعض الآخَر منَّا أن نعتقد؛ فثنائية اللهجة هي ببساطة حقيقةٌ حياتية لملايين وملايين الأفراد، بكل مميزاتها وعيوبها وأوقات نفعها وأوقات ضررها، وما ينتج عنها من لحظات بهجة واندماج، وأوقات إحباط وارتباك.


ھذا التقریر نُشر كجزء من مشاركة الكاتبة فى ورشة الصحافة العلمیة، مشروع "العلم حكایة"، وھو أحد مشروعات معھد جوته.