يبدأ النشيد الوطني الفرنسي بنداء "يا أبناء الوطن"، ترن في أذني وأنا أركب القطار الباريسي من محطة شاتليه لمحطة بور رويال، في طريقي إلي منزل صديق للاحتفال بالمولد. إنه مولد عيسي أو الكريسماس كما يطلقون عليه.
يصعد أحدهم إلي القطار، ملامحه شرقية، يرتدى سترة منتفخه بعض الشيء. يأتيني إحساس بالخوف والشك لم يفارقني منذ الثالث عشر من نوفمبر، يوم وقعت اعتداءات باريس الإرهابية.
إبراهيم ، بلال، عمر، إسماعيل، أسماء السفاحين الذين انتشرت صورهم في جميع النشرات والصحف. لفت نظري اسم أحد الهاربين: "صلاح عبدسلام"، كما كتب تحت صورته بالفرنسية، إنه يحمل نفس لقب عائلتي دون حرفي "ال"، ابتسم بقلق وأفكر أنني أحمل اسما إرهابيا، أسيستعلمون عن اسمي في المطارات؟ لكن سينقذني حرف التعريف الناقص.
إنهم جميعا فرنسيين أو بلجيكيين ولدوا وكبروا في تلك البلاد. يخرج علينا الفلاسفة في الأيام التالية بتفسيرات تصفهم بالعدمية، وأخرى تشير بأصابع الاتهام لحكومات أهملت هؤلاء الشباب، ومجتمع رفضهم وعاملهم بعنصرية كأنهم لقطاء للوطن.
يجلس الشاب ذو السترة المنتفخه أمامي، إنه يشبه أحد منفذي المذبحة، أو هكذا خيل لي. تتسارع الأفكار في ذهني ربما تخفي سترته المنتفخة حزاما ناسفا؟، تتسارع دقات قلبي عند التفكير في هذا. أكره المواصلات العامة منذ يوم المذبحة وينتابني القلق وشعور بعدم الأمان. كنت يومها مع أصدقاء في تراس (شرفه)، بريستو (مقهى)، بمنطقة أوديون. إنها منطقة تمتلىء بالمطاعم والبارات، ويرتادها الباريسيين خاصة في عطلة نهاية الأسبوع.
جاءنا الخبر "إنهم يطلقون النار على المارة وشرفات البريستو"، أصبت بالفزع، نهضت تاركة كل شيء إلا هاتفي النقال هاتفت أمي في الاسكندرية: "أمى لا تقلقي، بعد قليل ستسمعين أنباء عن قتلى في شوارع باريس، لازلت حية أرزق وسأصل البيت سالمة لا تقلقي" .
مكالمة أخرى أجريتها لطمأنة شخص قريب لقلبي، ثم بدأت رحلة البحث عن سبيل للعودة للبيت، بعد أن توقفت بعض خطوط المترو، ورفض سائقي التاكسي التحرك خوفا من أن تصيبهم رصاصة غدر. لم أتمكن من العودة لمنزلي بسهولة. بعد وقت وبحث ناداني أحد السائقين بلهجة مصرية: "تعالي أنا تونسي إنتي زي أختى هوصلك".
لازال صاحب السترة المنتفخة في مقابلتي، رن هاتفه بصوت رسالة فمد يديه داخل سترته، ربما تكون تلك الرسالة هي إشارة البدء لمذبحة جديدة؟، لقد كتب أحد السفاحين قبل مذبحة ال13 نوفمبر رسالة لأحد زملائه: "لقد وصلنا وسنبدأ"، وجدتها السلطات الفرنسية في هاتف ملقي داخل صندوق قمامة بمحيط المذبحة. لا يحتاج الوصول للقتلة إلى مجهودات خارقة؛ ولكن إلى اتباع سبل منطقية في التفكير. تحدث المقارنة تلقائيا في رأسي بين السلطات الفرنسيه التى استطاعت خلال ساعات تحديد هوية المجرمين وإعلانها مع تفاصيل البحث، وبين السلطات المصرية التي لم تستطع حتى الآن تحديد هوية أي من منفذي أية من العمليات الإجرامية الكثيرة التي جرت، وخروجها علينا بتفاصيل مضحكة تفتقد لأي منطق بعد القبض على من يشتبهون بهم.
لم تأت محطة نزولي بعد، يقف القطار في محطة سان ميشل، لقد تعرضت تلك المحطة لتفجير عام 1995 على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة. لن يفجروها مرة أخرى، اؤكد لنفسي. لازال ذو السترة المنتفخة ينظر في هاتفه والآن قد عقد حاجبيه، ربما طلبوا منه الانتظار فغضب؟. يتحرك القطار مرة أخرى، على فيسبوك، أرى صورة من جريدة المانيفستو اليسارية الاسبانية. الصورة لفرنسوا هولاند، الرئيس الفرنسي، وقد كتب تحتها "فرنسوا لوبن"، لوبن هو لقب عائلة زعيمة اليمين المتطرف. منذ يوم المذبحة أعلن الرئيس الفرنسي حالة الطوارىء لثلاثة أشهر في سابقة لم تحدث في فرنسا منذ عقود. واليوم يريد الرئيس هولاند التقدم بمشروع قانون لتعديل الدستور، لإسقاط الجنسية عن مزدوجي الجنسية الذين قد يثبت تورطهم في عمليات إرهابية. إنها خطوة صادمة لكل اليسار الفرنسي و لكل من انتخبوا هولاند. إلا أنها ليست الصدمة الأولى؛ فهولاند يتصرف كما لو كان في حزب اليمين أو اليمين المتطرف، ولا حديث في الأوساط السياسية الإ عن صفقات السلاح الكثيرة التي أبرمها، والتى جعلت من فرنسا هذا العام أكبر ثاني دولة مصدرة للسلاح، لتحتل المركز الذي احتفظت به روسيا لعقود.
سوف يتسبب قانون هولاند الجديد في مزيد من العنصرية والانقسام داخل المجتمع الفرنسي. وسوف تبدأ معارك جداليه حامية في الأوساط السياسية والمجتمعية، وقد بدأت تلك المعارك بالفعل داخل حزب أولاند نفسه.
وصلت سالمة لبيتي في ليلة المذبحة. كان السائق التونسي يحدثني بالمصرية ويلعن كل هؤلاء الكلاب من الإسلاميين على حد قوله، ثم ينتقل لنكته مصرية يعرفها فيجعلني أضحك رغم الخوف والحزن والصدمة.
وصل القطار لمحطتي، فهممت بالنزول، ووجدت صاحب السترة المنتفخة قد تحرك أيضا للنزول، فتح الباب فتركني أنزل أولا ثم نزل بعدي، وعلى الرصيف وجدته يسرع نحو فتاة احتضنته وأعطته زجاجه شامبانيا كانت تحملها ثم خرجا سويا من المحطة.