يطلب عباس محمود العقاد من الفنان والرسام صلاح طاهر أن يرسم ما سيسمى بعد ذلك "لوحة المحبوبة" وهي لوحة يرسمها له هذا الأخير، بتلقين من العقاد، أي بطلب منه، يرسم فيها فطيرة حلوة وعلى الفطيرة صرصور كبير وذباب، وإلى جوار الفطيرة كوب عسل فيه ذباب أيضًا، مما يسبب النفور لأي إنسان، وطلب العقاد هذه اللوحة ليضعها أمام سريره فيراها كل صباح لتساعده على نسيان قصة حبه مع الفنانة مديحة يسري، التي انتهت بالفشل، فلم تكن الفطيرة الحلوة التي يجتمع عليها الذباب والصرصور الكبير إلا رمزًا لمحبوبته التي تكاثر حولها الصعاليك.
حينما قرأت هذه السطور من الدراسة المهمة التي كتبها الفنان البصري علاء عبد الحميد، وضمنها في مقدمة كتابه المعنون عباس محمود العقاد.. مقالات نادرة عن الفنون الجميلة الصادر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تذكرت على الفور الجدل الكبير الذي حدث أواخر العام الماضي، عندما صمم فنان بصري أوروبي إيطالي يدعى ماوريتسيو كاتيلان موزة ملتصقة بشريط لاصق على الحائط، وباعها بمبلغ يتجاوز المائة ألف دولار، خلال "أرت بازل" بسويسرا.
تفاهة وانحطاط الإنسان
الرابط بين لوحة المحبوبة التي طلبها العقاد، وبين موزة كاتيلان، أن الجدل انفجر آنذاك حول تفاهة وانحطاط الإنسان الذي يجعل أحد الأثرياء يشتري موزة يصل ثمنها بالكاد إلى أقل من جنيه، أو دولار، بهذا المبلغ الكبير القادر على إطعام ألف إنسان مثلًا، كان هذا أحد الآراء التي قيلت آنذاك، قال فنانون أيضًا إن الإشكالية هنا ليست في انحطاط شخص ما جعله يدفع كل هذا المبلغ لشراء موزة، إنما استخدام الفنان نفسه لثمرة الموزة كعنصر أصبح شيئًا آخر، حينما استخدمها في قالب فني.
تذكرت جدل كاتيلان ببساطة لأن عباس العقاد كما هو في كتاب علاء عبد الحميد، شخص آخر غير عملاق الأدب العربي الذي درسناه في المدارس، هو مثقف كبير ومشجع للفن المصري الحديث الذي بدأ منذ العشرينيات، وهو في نفس الوقت متصد ومناهض ومعرقل في كثير من الأحيان في الفترات المتأخرة للكثير من الفنانين والحركات الفنية، بل معاد ومحارب ومناضل؛ لإيقاف تيارات فنية تحاول أن تجدد دماء الفن المصري الحديث.
علاء عبد الحميد واضع الكتاب استغرق قرابة خمس سنوات في جمع مادته، هو فنان بصري وكاتب روائي، ونحات، تخرج في الفنون الجميلة قسم النحت عام 2008، فهو فنان ابن هذه المرحلة التي شهدت حدث كاتيلان، نال درجة الماجستير في ممارسات الفن المعاصر من جامعة جينيف كلية الفنون والتصميم منذ عامين، وعاد إلى مصر ليستكمل العديد من المشروعات التي كان يعمل فيها، ومن بينها هذا الكتاب، مقالات عباس محمود العقاد النادرة عن الفنون الجميلة.
سألته بينما أقرأ الكتاب، لماذا كان يستخدم عباس العقاد مصطلح "الفنون الجميلة" وليس الفنون التشكيلية، وما الفارق بين المصطلحين، يقول علاء عبد الحميد..
سأحاول في عجالة أن أوضح الفوارق بين المصطلحين؛ مصطلح الفنون الجميلة هو الأقدم استخدامًا في العالم، ظهر المصطلح ذاته في عام 1767 و أصله الفرنسي beaux arts، وتمت ترجمته حرفيًا لباقي لغات العالم، وفي مصر تشير بعض الدراسات إلى ظهورة في منتصف القرن التاسع عشر.
وصف الجمال في المصطلح لا يعتمد بالدرجة الأولى على جمال الشكل، وإنما الغرض من عمله، أو بمعني أدق صفاء مضمونه من أغراض أخرى غير الجمال ذاته. وقد شمل المصطلح بذلك العديد من المجالات الإبداعية كالرسم والنحت والتصوير الزيتي والحفر والشعر والمسرح والموسيقى والعمارة.
بينما مصطلح الفنون التشكيلية اختصت به فنون الرسم والتصوير الزيتي والحفر والنحت والعمارة، وأصله الفرنسى Arts Plastiques، ويرتبط ظهوره في رأيي بظهور حركات الفن الحديث، والذي تخلى فيها الفنان عن محاولة إنتاج فن يتطلع من خلاله إلى محاكاة ونقل صور الطبيعة كما هي، بل انتقل إلى مرحلة أخرى يعيد فيها الفنان خلق وتشكيل الأشكال والصور التي يقوم برسمها أو نحتها دون الالتزام بالنقل الحرفي لها. ويرجع ظهور المصطلح في مصر إلى منتصف خمسينيات القرن العشرين.
ولم يستسغ العقاد مصطلح الفنون التشكيلية لإرتباطه بحركات الفن الحديث التي كان يرفضها، فظل يستسخدم المصطلح الأقدم "الفنون الجميلة" حتى وفاته عام 1964.
الكتاب يزخر بأراء مهمة جدا للعقاد في الفن، ومن ذلك المقال الأول في الكتاب الذي هاجم فيه محمود مختار لأنه "سرق فكرة تمثال نهضة مصر من صورة مأخوذة من صحيفة رمزت لمساندة إنجلترا لفرنسا في الحرب العظمى، في صورة رمزية للحرية تضع يدها على رأس الأسد البريطاني الرابض"، وكذلك هاجم العقاد محمود مختار في اختياره المبدئي لأبي الهول من صورة منقولة من معابد البطالسة، وليس أبي الهول القديم، وعليه استجاب محمود مختار لهذه الملحوظات، وعدَّل تصميمه للتمثال، وهو ما جعل العقاد يثني عليه في مقال آخر ضمَّنه علاء في الكتاب.
مواقف العقاد وآراءه الصادمة
عن أسباب اختيار المؤلف لعباس العقاد ومقالاته وجمعها في كتاب بهذا الشكل يقول للمنصة "بالأساس كنت أسعى قبل البدء في هذا الكتاب أن أستكشف تطور استخدام المصطلحات الفنية المتخصصة المستخدمة في الكتابات النقدية، تحديدًا في الوسط الفني والثقافي في مصر. فعدت لقراءة الكتابات النقدية في مجالات الفنون الجميلة في مصر والتي بدأت في الظهور على استحياء في نهاية القرن التاسع عشر، وبدأت في التزايد مع بداية القرن العشرون وافتتاح مدرة الفنون الجميلة عام 1908.
في ذلك الوقت أخذ مجموعة من الكتاب على عاتقهم مهمة الكتابة النقدية قبل أن تظهر حركة نقدية متخصصة في مجال الفنون الجميلة، مثل ابراهيم عبد القادر المازني و مى زيادة ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد ومحمود عزمي وتوفيق حبيب الملقب بالصحفي العجوز، ومحمد فهمي، وسلامة موسى، وأحمد يوسف أحمد وآخرون. كما سبقهم في ذلك سليم حداد صاحب أول مقال نقدي في مجلة المقتطف بعدد مارس/ أذار 1897، وفقًا للمذكور في كتاب 80 سنة من الفن.
"ولكن العقاد كان أكثرهم انتاجًا فيما يتعلق بالكتابات عن الفنون الجميلة، من حيث الغزارة والإستمرارية، فقد ظل يكتب عنها حتى وفاته عام 1964، فرأيت أن تتبع كتاباته عن الفنون الجميلة سيفتح المجال أمام دراستها وتحليلها لإعادة قراءة تاريخ المشهد الفني المصري منذ بواكيره، ومحاولة فهم علاقة هذا التاريخ بشكل ممارسات الفن المعاصر الآن في مصر"، كما يوضح علاء.
المقالات تكشف مواقف وآراء تقدمية لعباس العقاد، من الفن الحديث والمصري، على رأسها انحيازه إلى ضرورة شراء وزارة المعارف للتحف الفنية من البلاد الأوروبية، وضرورة ابتعاث الفنانين المصريين إلى الخارج، وكانت مسألة الميزانية عائقًا مما جعل بعض أعضاء مجلس النواب آنذاك يرون أن الموضوع بأكمله كماليات، وهو ما استنكره العقاد، مدافعًا عن حق الأمة في التزود من الفنون وحق الفقراء الكادحين في أن يستمتعوا بالكماليات، ضاربًا أمثلة بالباعة الجائلين الذين يستعينون بالغناء في الدعوة والترويج لبضاعتهم.
وعلى الرغم من هذه الآراء التقدمية للعقاد في الانحياز للفن وكمالياته، إلا أن بعض مقالات الكتاب تكشف جانبًا شديد الغرابة أو الرجعية، مثل هجومه على تيارات الفن الحديثة، وهجومه على اشتغال المرأة بالفن وممارسة الفنون، والأهم محاربته التجديد في الفن والتجريب، ورؤيته شديدة الغرابة للفن أنه يجب أن يعبر فقط عن الأفكار القومية، والعودة إلى بساطة الفن المصري القديم، وقوته في التعبير، دون إضافة محسنات وتفاصيل زائدة عن الحاجة، وهو ما جعله مثلا يهاجم محمود سعيد لأنه استخدم اللون الأزرق مع الوردة، وليس مع البحر، ومع الرمل والمروج والكواكب، وليس مع السماء.
يعلق على ذلك علاء عبد الحميد في دراسته التي جعلها في مقدمة الكتاب، بأنه إذا كان موقف العقاد هذا تشكل كنتاج للفكر القومي والوطني السائد وقتها، كرد فعل طبيعي أمام الاستعمار الأجنبي، فلماذا نجد صدى هذا الفكر في وقتنا الحالي؟ ففكرة القومية زالت وخاصة في الفن، لأن بها يتحول الفن إلى شكل دعائي للسلطة الديكتاتورية.
ولتوضيح أكثر سألت عبد الحميد "خلال قراءتي للكتاب، انتابني هاجس أنك لم تكن تؤرخ لمقالات العقاد في الفن، وإنما كنت بشكل ما تؤرخ لحقبة من التاريخ أثير فيها اللغط حول الفنون، كما أثير هذه الأيام، وأعني بذلك ما حدث حول موزة الفنان ماوريتسيو كاتيلان"؟
بالطبع قراءة مقالات العقاد عن الفنون الجميلة يتيح قراءة المشهد الفني وقتها، وما حدث فيه من لغط وصراعات وخاصة مع بدايات مدارس الفن الحديث في مصر والتي ظهرت بقوة مع تأسيس جماعة الفن والحرية فى نهاية الثلاثينيات ودعوتها للحركة السيريالية، التي قابلها العقاد والعديد من المحافظين بالهجوم الشديد. يجيب عبد الحميد.
ويختم بقوله إن هذه القراءة محاولة لتفكيك وفهم جذور هذا التفكير المحافظ والأصولى الذى يتخذ دائمًا من فكرة الهوية وعاءً يختبئ فيه من مواجهة الحداثة من حوله، والمستمر فى التواجد وبقوة حتى اليوم ليهاجم ويرفض ممارسات الفن المعاصر في الوقت الحالي، ففي كل العصور تمت، وتتم، محاربة الاتجاهات الفنية الحديثة وقت ظهورها بواسطة المحافظين.
اللافت كان بالنسبة لي في الكتاب أيضًا أن جامع المقالات حرص على تسجيل التفاعل الذي حدث في الوسط الفني ردًا على مقالات العقاد، إذ يحوي الكتاب مساجلات طريفة ومثيرة، حرص علاء عبد الحميد على أن يضمنها، عبر تخصيص الجزء الثاني من الكتاب ليحوي مقالات فنانين كتبوا ردودًا ونشروها في الصحف على عباس محمود العقاد.
بعض هذه الردود كانت شديدة الضراوة والشراسة في الهجوم على العقاد، مثل مقالتين لمصطفى صادق الرافعي، وصف فيهما العقاد بالكاتب اللص، والكاتب الكبير العبقري الذي لا يفهم ولا يعي شيئًا، والشاعر المراحيضي، ومقالات أخرى أقل حدة من ذلك، وأكثر التزامًا بالأدب مع العقاد، ومع ذلك مرر أصحابها بين السطور رسائل واضحة تقول إن العقاد لا يفقه شيئًا في الفن ولا يعي شيئًا مما يكتب عنه، وكان أصحاب هذه المقالات الهادئة الواثقة من نفسها وهي تنقد كتابة العقاد عن الفن، هما رمسيس يونان وصلاح طاهر، صاحب لوحة المحبوبة.