في يونيو 2013 كنت لأسباب خاصة أعاني من ضغوط نفسية حادة بعد تجارب عاطفية ومهنية حفلت بالعمى والأخطاء. بدت فوضى واضطرابات ما قبل 30 يونيو كانعكاس للخاص، أو كأن العام انعكاس على الخاص، والاثنين نازلين "دبّ" في بعض، بينما يغني عمرو دياب "فوق من اللي أنت فيه/ اعمل حاجة مستني إيه/ عيد حساباتك دا لو يهمك حبنا".
هربًا من خرائب الذات في الداخل؛ نزلت بمرح إلى الجماهير الزاحفة في كل اتجاه في الأيام السابقة على 30 يونيو، فوقنا كانت تحلق الطائرات وهي بالطبع طائرات الجيش التي سنعرف بعد ذلك أنها تحمل المخرج خالد يوسف، لكي يصور الثورة.
الحمد لله نجحت الثورة، وخبطنا تحت بطاطنا، يا محلا رجعت مُخرجنا من على خط النار.
بعد سبع سنوات، أجلس أنا في منفاي في أقصى صحراء الغرب الأمريكي، أكتب معلقًا على مقال لمخرجنا المنفي في باريس منشور على موقع محجوب في مصر، ورئيسة تحريره خرجت منذ أيام من الحبس بتهم متعددة منها حيازة كمبيوتر بدون ترخيص.
يحدث هذا الآن، وهذا هو الواقع يا أستاذ خالد، وهذه هي اللحظة التي نشاهد فيها مسلسل الاختيار للمخرج القدير بيتر ميمي.
يجب أن نحدد موقعنا أولًا وبعد ذلك نتساءل: ماذا لو كان مسلسل الاختيار قد تلافى كل ما ذكره أستاذ خالد في مقاله واعتبرها نواقص من وجهة نظره؟ ماذا لو أُنتج المسلسل بروشتة وحيد حامد وكاميرا شريف عرفة أو خالد يوسف وبطولة عادل إمام، مع عمرو سعد في دور متطرف يدخل الجيش ليتعلم الوطنية والعلمانية والدولة المدنية، وبدلًا من محاضرات الشيوخ الدينية يُحضرون له فاطمة ناعوت وخالد منتصر ليصبح وطنيًا ويحارب الإرهابيين في سيناء حتى يستشهد؟ هل كان مسلسل بهذا الخيال ليغيّر من وضع خالد يوسف، أو وضعي، أو وضع موقع المنصة؟
بالتأكيد لا. الوحيدون الذين كان وضعهم ليتغيّر؛ هما أمير كرارة وبيتر ميمي.
ولهذا فمهما كانت النوايا الطيبة خلف مقال أستاذ خالد فالكثيرون حين يقرؤونه سيتلامزون في خبث "صعبان عليه اللقمة الطرية في بق بيتر".
لا يتحدث أستاذ خالد في مقاله عن الفن، ولا يقدم أي نقد للمحتوى الفني للمسلسل، ولا أعرف والله إذا كان في المسلسل أي فن من الأساس، لكنه عوضًا عن ذلك يتحدث عن البروباجندا، وهو بالطبع أحد رموزها وخبرائها. هو يرى أن الغرض من فن البروباجندا والدعاية السياسية الآن ثلاثة أشياء، وأقتبس من مقاله:
"الأول: نحن بحاجة إلى جرعة وجدانية ملهمة لمزيد من الصمود ضد هذا الإرهاب الأسود. والثاني: محاولة إيقاف نزيف الشباب الصغير الذي يقع في شرك هذا الفكر التكفيري. والثالث: طريقة تُظهر تقديسنا لبطولات شهدائنا وتخليدها في أعمال فنية هو أمر محبب ويجب الحض عليه".
السؤال هنا لأستاذ خالد وجيله من فناني البروباجندا الذين أفنوا حياتهم من الثمانينيات وحتى الآن في إنتاج أعمال فنية تحارب هذا الإرهاب الأسود، هل نجحتم سابقًا لتنجحوا حاليًا؟ هل حققت ملاحم حضرتك السينمائية وزملائك من جيل البروباجندا الفنية أيًا من هذا الأغراض؟
الواقع يقول لا. فنزيف الشباب الصغير الذي يقع في شرك الفكر التكفير مستمر وعلى كل الأصعدة والمستويات من خالد الإسلامبولي إلى هشام العشماوي. ولم توقف أعمالكم هذا "النزيف".
أما النقطة الأولى الخاصة بالجرعة الوجدانية المُلهمة لمزيد من الصمود ضد الارهاب، فالإجابة واضحة: أنت فشلت يا أستاذ خالد، بدليل أن مَن يواجهون الإرهاب في الأجهزة الأمنية ويحتاجون هذه الجرعة، استغنوا عن خدماتك أنت وجيلك وزملائك من الفنانين أبناء الوعي الناصري والخرافات القومية واستبدلوكم بجيل جديد من مخرجين تعلموا الإخراج من فيديوهات يوتيوب، ودماغهم ممسوح تمامًا وخالٍ من أي فكر، وجاهز للتعبئة.
الخلاصة إذا كنت تتهم صناع الاختيار بالفشل في مهمتهم كمنتجين للدعاية السياسية؛ فالواقع يا عزيزي يثبت فشلك أنت أولًا. فشلك هذا هو ما أفسح المجال لهم، فلماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها.
الخشبة الثانية في المقال، فهي التصور الغرائبي والخيالي الذي تقدمه عن الدولة المصرية. في فقرات كثيرة وقعت في حيرة "هل فعلًا تتحدث بجد؟ هل فعلًا تعتقد فيما تقول؟".
إذا كنت صادقًا في اعتقادك فأرجوك أن تستيقظ يا أستاذ خالد، لأن القطار غادر المحطة والدستور تم تعديله، وعمرو دياب أوشك على التقاعد والتفرغ لتلحين الموسيقى التصويرية لمسلسلات زوجته. وويجز يغني "بتأفلم وتلسن/ وبتغلط تتأسف/ مانتوش عتاولة دي الفراولة/ بلدنا دولة جوه دولة/ شباب مش سادة في ربع جولة".
كل هذا وأنت مازلت تقول في مقالك "حاول صنّاع المسلسل، دون إدراك، العبث بعقيدة المقاتل المصري وتبديلها من الدفاع عن الأرض والشعب، بعقيدة أخرى هي قتال الذين يفهمون الدين بشكل خاطئ، وهذه كارثة كبرى لأنها تبديل واضح من الدولة المدنية الوطنية إلى الدولة الدينية، ومن مفهوم دولة المواطنة إلى دولة الطوائف".
هناك من عبث بالفعل يا أستاذ خالد وهم مَن جندوا سابقًا هشام سرية وخالد الإسلامبولي وعبود الزمر وأخيرًا هشام العشماوي، أما صناع مسلسل الاختيار فيحاربون هذا العبث بنفس سلاحه، ويقدمون ما يُطلب منهم بإخلاص وأمانة. مفهوم دولة المواطنة تلك لا يوجد سوى في خيالك أنت وخيال أفلامك. أما الدولة المصرية فمنذ تأسيسها وهي دولة رعايا لا مواطنين، وفي الدولة الرعوية هناك راعٍ مسؤول عنا ولا أحد يحاسب هذا الراعي سوى الله مثلما قالها الرئيس السيسي أكثر من مرة. ومثل أية دولة رعوية، فالراعي يستمد شرعيته من المرجعية الدينية كدولة إسلامية، والإسلام مكون أساسي في بنيان الدولة المصرية، ولم نعرف أبدًا في أي عصر مصر كدولة علمانية أو مدنية، بل ظل هذا حلم بعيد المنال وخسرناه، كلنا خسرناه. أنت وأنا ونحن جميعنا خسرنا يا أستاذ خالد، فـ فوق أرجوك.
يستحيل أن يمتلك الفنان أي سيطرة على ما يقدمه من بروباجندا ودعاية سياسية حتى لو كان مقتنعًا بما ينتجه، فالعمل الفني الدعائي في النهاية هو رسالة المموّل والأيديولوجيا والقوى السياسية التي تدعمه، مهما حاولت أن تقنع نفسك بعكس ذلك فالواقع، وتاريخك وتاريخ جيلك بالذات، يؤكدان هذا.
لقد ركّبوكم المرجيحة يا أستاذ خالد، أرسلوكم لتحاربوا الإرهاب بالتنوير في الثمانينيات والتسعينيات ثم عقدوا صفقة معهم وأخرجوهم من السجون وركّبوهم البرلمان في 2005. ثم عادوا مرة أخرى لممارسة ذات الفيلم في 2011 و2012. أنت أيضًا ركبت المرجيحة، لكن لا أستبعد غدًا أو بعد غد أن يرن تليفونك ويستدعونك لمعركة فنية أخرى ضد تركيا أو قطر أو إثيوبيا أو أيًا كان الهدف هذه المرة. في كل مرة تتكرر الدائرة الجهنمية ومثل سيزيف لا تتوقفون عن الصراع على إنتاج الهواء الخطابي القومي الذي تسمونه فنًا، ورغم كل هذه الدعاية تفشلون ولا نتقدم خطوة واحدة في أي اتجاه.
ربما آن الأوان أن تجرّب مسارات أخرى. أن تتساءل عن فنك فيما أفنيته. أن تتوقف عن تسخير قدراتك ومجهودك لخدمة أغراض دعائية لا تخدم سوى حكام سيرمونك في أقرب زنزانة حين ينتهي دورك، ربما يكون المنفى الحالي فرصة لتتأمل المسار والانهيار لكي تغادر منبر الخطابة وتكتشف أبعادًا وأغراضًا أخرى للفن غير "التصدي" و "الحماية" و "تقديس البطولات" يا أستاذ خالد.