فتى من القطامية يقع في حب الموسيقى
الدبابات في الشوارع، لا رئيس للدولة، ثوار الأمس يكنسون الشوارع ويدهنون الأرصفة. الشرطة بالملابس الداخلية تختبئ في بيوتها. احتفالات بانتصار ما في التلفزيون، والجميع يتساءل "مصر رايحة على فين؟". يحدث كل هذا بعيدًا عن حي القطامية، حيث يعيش توتي الذي لم يتجاوز عمره الثانية عشر في عام 2011.
من ضجيج المظاهرات والخطابات السياسية والانقلابات، لم يصل لتوتي سوى مهرجان يا حسني سيبنا حرام عليك، أحد المهرجانات المجهولة التي ظهرت وقت الثورة، بتيمتها الموسيقية البسيطة وكلماته الفكاهية التي تعلق بالذهن. استوعب توتي القليل مما يحدث في البلاد، لكن ما جذبه وسيطر على تفكيره كانت الموسيقى التي تعلق وشغف بها.
لم ير توتي هذا المهرجان في التلفزيون ولم يسمعه في الراديو. كانت أغاني الثورة التي تتحدث عن الحرية والأمل وبكرة تغرق وسائل الإعلام، لكن في رأسه لا يتردد سوى صوت المهرجان "مصر دي عامله زي حتة اللحمة وأنت ماسك فيها بسنانك". كان ينزل الشارع ويبحث عن أي "توكتوك" يبث المهرجان من سماعاته. يحكي توتي "وقتها مكنش عندى موبايل ولا كمبيوتر طبعًا، فالحل إني أنزل أروح إنترنت كافية أو أروح السوق في المنطقة عندنا، علشان أسمع الموسيقى دي لأني مكنتش لاقيها في أي حتة".
صدفة فريدة دفعت الفتى توتي إلى منطقة أبعد من الشغف في علاقته بموسيقى المهرجانات. كان يدندن بمهرجان "يا حسني سيبنا حرام عليك" في المنزل حين سمعه والده فعلّق قائلًا "مغني تلك الأغنية يعمل معي في المصنع".
طلب من والده أن يعرّفه على مغني المهرجان. يشرف والد توتي على عمليات الإنتاج في أحد المصانع. في البداية تجاهل رغبة الفتى، لكن أمام إصراره حقّق أمنيته وقابل توتي فنانه المفضل الذي لم يكن سوى عاملًا، يمتلك جهاز لاب توب ومايك يسجل عليه الأغاني، ولم يُصدر سوى أغنية واحدة. هى ذلك المهرجان اليتيم الذي صار واحدة من الأيقونات الغنائية لثورة 25 يناير. لم يصدّق توتي أن الموسيقى التي يسمعها يمكن أن ينتجها شخص قريب منه ومن دوائره الاجتماعية، والنجوم ليسوا إلا عمال من محيطه الجغرافي والاجتماعي.
تعلق توتي بالفنان المجهول وتحول التعلق إلى "زن". بلا كلل جرّب كل الطرق وطلب من الفنان/العامل أن يعلّمه كيف يصنع "المهرجان". والفنان يعده باستمرار "بكرة إن شاء الله" ثم يخلف وعده، حتى صدمه بالحقيقة ذات مرة "أنا بطلت موسيقى وبعت اللاب توب أصلًا".
تحطمت أحلام توتي. لكن بعد عدة أيام دخل والده المنزل ومعه اللاب توب هدية. كان الوالد هو من اشترى اللاب توب من العامل.
يدين يتوتي لوالده بالفضل في وضعه على أول الطريق. فاللاب توب كان البوابة والطريق والسلاح؛ أولًا أصبح لديه وسيط إلكتروني يمكنه من خلاله تحميل الأغاني وحفظها والاستماع إلى ما يريده من موسيقى، لم يكن يجدها في وسائل الإعلام والبث المحيطة به. ثانيًا عرف أن السبيل لإنتاج موسيقى لما يسمعه يحدث عبر هذا الكمبيوتر، لكنه لم يمتلك المعرفة الكافية لاستخدام الكمبيوتر أو إنتاج الموسيقى.
تطلب الأمر من توتي سنوات من العمل والتعلم حتى يحسّن مستواه في اللغة الإنجليزية، ليتمكن بعدها من فهم برمجيات الإنتاج والتأليف الموسيقي، ليستطيع تخليق مقطوعاته الموسيقية. ذهب توتي إلى مغنين المهرجانات الشباب القريبين في منطقته، حاول عرض أعماله عليهم. في البداية حلم أن يغنى مثلهم، وأن ينتج الموسيقى. لكن نظروا له كطفل صغير، سخروا من محاولاته الأولى وعلى حد تعبيره "بتوع المهرجانات طلعوا عيني".
أثناء مذاكرته وتحسين قدراته في استخدام برمجيات الإنتاج الموسيقي تعرف توتي على موسيقى التكنو، وأشكال أخرى من الموسيقى الإلكترونية يتم تنفيذها بالبرامج ذاته. "اتسحلت مع التكنو". يقول توتي مبررًا هجرته عالم المهرجانات وانتقاله لفضاء التكنو والموسيقى الإلكترونية. مثلما ولد حب المهرجان في لحظة خاطفة زال الحب بسبب قسوة الزمايل وحقد الأخصام.
في جلسة زار ولدت الموسيقى الإلكترونية المصرية
ولدت الموسيقى الإلكترونية في اللحظة التي تمكنا فيها من تسجيل الموسيقى وحفظها على وسائط مادية (أسطوانات أو شرائط)، ثم طباعة نسخ متعددة وتوزيعها وإتاحتها لجمهور أوسع، بإمكانه الاستماع إليها أينما شاء ووقتما شاء.
نمت الموسيقى الإلكترونية مثل طفل يحبو، تشكلت في البداية في رحم آلات التسجيل البدائية في القرن التاسع عشر، ثم رأى المستقبليون الإيطاليون أن هذا التزاوج بين الأصوات والآلة يتطلب موسيقى جديدة. لم يعد الإنسان يعيش وسط أصوات الطبيعة ليعيد تخليقها في سيمفونيات موتسارت، بل أصبحت المدينة هى بيئته وأصواتها خليط من أزيز مرور الكهرباء في الأسلاك، ماكينات القطارات في قلوعها ومجيئها، ضجيج المياة والغاز في الأنابيب المحيطة بالمنزل، ذبذبة أثير الراديو، هدير الماكينات في المصنع، وبالطبع عواء وبكاء وصراخ آلات الحرب الحديثة.
استخدام المستقبليون الآلات كسلاح لإنتاج موسيقى لا تحاكي الطبيعة بل تمجّد المدينة والحرب والسرعة والاستنساخ والإنتاج. لكن النقلة الحقيقية حدثت في الأربعينيات حينما بدأ مغامرو الموسيقى الإلكترونية الأوائل في استخدام أدوات المونتاج الصوتي لتخليق موسيقي جديدة. جرت أوائل تلك التجارب في القاهرة على يد نحّات الصوت حليم الضبع.
في الثلاثينات تأثر حليم الضبع بأعمال بيلا بارتوك وشونبرك والتقي ببعضهم في مؤتمر الموسيقى العربية الشهير الذي دعا إليه الملك فؤاد عام 1932. تواصل شغفه بالموسيقى حتى تخرجه من كلية الزراعة حيث عمل بعدها مفتشًا زراعيًا متنقلًا بين ربوع مصر مستشكفًا الموسيقى الفلكلورية من الريف إلي الصعيد. يسير حاملًا معه آلة تسجيل يجمع بها شتات ضوضاء المدينة. واحدة من أعماله المبكرة حين سجل جلسة زار. ثم قصّ الشريط الذي سجل عليه، وأعاد ترتيبه وتعديله وتضخيم الصوت والتجريب بأشكال مختلفة على شريط الصوت لينتج مقطوعة جديدة.
ثم عزف "البرديوسر" على الكمبيوتر
شهد عقد السبعينيات تطور أدوات التسجيل وطباعة وتوزيع الموسيقى، وإلى جانب الآلات الموسيقية القديمة التي تم تحديثها لتصبح إلكترونية، حيث البيانو أصبح "أورج"، والجيتار أصبح جيتار كهربائي. ظهرت آلات إلكترونية جديدة في أصواتها ونموذجها مثل السِنثسَيزر والثيرمين.
تسببت تلك الثورة التقنية في ولادة أنواع موسيقى جديدة بداية من الديسكو في الثمانيات ثم التكنو بكل فروعه وغاباته المتشعبة. لكن القفزة التالية كانت في التسعينيات مع الانتقال الكامل للعصر الرقمي، وظهور الإنترنت كشبكة جامعة يمكن الحديث والإرسال والاستقبال بين كل أطرافها بتلك اللغة الرقمية.
دخلت الموسيقى الإلكترونية العصر الرقمي واستبدلت الآلات الكهربائية ببرمجيات رقمية يمكن تحميلها على الكمبيوتر. أصبح الكمبيوتر آلة موسيقية، واستوديو تسجيل، ومايك للغناء، وماكينة نسخ عدد لا نهائي من المقطوعة الموسيقية المنتجَة، وفي وجود الإنترنت أصبح بالإمكان توزيع ونشر ما تم إنتاجه ليصبح متاحًا للجميع.
أشرق عصر الموسيقى الرقمية، وخلق مهنًا جديدة. فلم تعد الأغنية الحديثة تعاون بين الملحن والمؤلف والمغني. بل أصبحت الأغنية تعاون بين المنتج الفني (البرديوسر) والمغني وأحيانًا مساهمة من مؤلف الكلمات. لا يكتب "البرديوسر" النوتة الموسيقية للعازفين، بل يصنع الموسيقى من خلال البرمجيات المختلفة. يكتب "البرديوسر" الكود الذي على أساسه يتم برمجة صوت المغني وتعشيقه رقميًا ليُنتج الموسيقى الرقمية.
ديمقراطية زائفة
يعيش علي طالباب في العاصمة المجرية بودابست حيث يعمل هناك بعد حصوله على درجة الماجستير في الاقتصاد. توقف علي عن نشر وصناعة الموسيقى منذ 2017 حين غادر مصر. رغم ذلك لم يفقد شغفه بالموسيقى والاستماع إلى التجارب المحلية والعالمية. في حوار معه مؤخرًا كنا نتحدّث عن المشهد الموسيقي الآن، حين أبدى ما أسماه "عدم انبهاري" بصوت الموسيقى المصرية خصوصًا مشهد الراب.
في رأي علي أن تطور التكنولوجيا والإنترنت ساهم في تسهيل عملية الإنتاج الموسيقي، لكن بينما يتعلم "البرديسور" الشاب كيفية استخدام البرامج وتخليق الموسيقى فهو يستخدم إرشادات تعليمية متاحة على الإنترنت، وهي نفس الإرشادات التي يستخدمها الجميع حول الكوكب. بالتالي صحيح أن مستوى موسيقى الشارع في مصر أصبح أعلى وأكثر نقاءً وجودة تقنية، لكنها كذلك متشابهة مع بقية الموسيقى في العالم كله.
ما يحدث ليس دمقرطة للموسيقى عبر تسهيل عملية إنتاجها ونشرها، بل العكس.. استبداد موسيقي تفرضه الآلة وتكرار ذات التيمات الموسيقية. تستمتع الآن لأغنية أو قطعة موسيقية ولا يمكنك أن تخمّن هل أنتجت في جنوب أفريقيا أم مصر أم أمريكا أم كوريا الجنوبية؟
نفس البرنامج يخلق الموسيقى، ونفس الإيقاعات والتراكيب اللحنية تسود وتحكم تحت ظل التراب ميوزيك؛ السلطة المهيمنة على المشهد الموسيقي في العالم. تجربة علي الموسيقية التي امتدت من 2007 إلى 2017 كانت مضادة لهذا النمط الإنتاجي.
يغنى علي ما يشبه الراب، لكنه بالتأكيد ليس براب، بل يرفض تصنيفه كرابر ويعرّف نفسه بأنه كان على هامش هامش مشهد الراب المصري. في البداية أنتج علي الأغاني مع نفسه باستخدام تكنولوجيا بسيطة، ثم عمل مع منتجين آخرين أبرزهم هاشم كلش ديجيت. المنتجون الذين عملوا مع طالباب سعوا دائمًا لتخليق أصوات وإيقاعات بعيدة عن المألوف والسائد.
يضحك علي متذكرًا تجربته مع كلش "كان دايمًا مشكلة وكنت بقول له عايزين نغمة أو إيقاع سهل يشد مع الناس". لكن كلش يفتت الإيقاع، يدمر الهرمونية يخرب أي نغمة توشك على الاكتمال ليخلق موسيقى تخريبية تتناسب مع صوت وأداء علي ومع كلمات أغانيه التي يكون محورها الخراء/ الخراب/ الغضب/ الموت/ الثورة/ الجثث/ السجون/ الفقر/ الراجل اللي بشنب بالل نفسه على السرير/ ابتسامة مديرك في الشغل/ المشنقة.
أنهى علي طالباب تجربته ضمن موجة من الهزائم عاشها جيل ثورة 25 يناير، فقد على أثرها الشغف ونشوة صناعة الموسيقى مثلما قال أثناء حواري معه، لكن سنوات ممارسته وإنتاجه للموسيقى ألهمت الكثيرين أبرزهم أحمد أشرف الشهير بمولوتوف أو مصنع الموسيقى المعاصرة، ووكر المكابس، وصانع النجوم.
تعبئة المولوتوف
حصل مولوتوف على شهادة الثانوية العامة ثم التحق بمعهد السينما قسم ديكور في البداية، ثم انتقل لقسم المونتاج. بدأ في العمل مع عدد من شركات الإنتاج الفني كمونتير. كان من المقدَّر أن تسير حياته في ذلك المسار. مونتير شاطر، يبدأ بمشاريع تخرُّج زملائه، ثم مونتير في شركات إعلانية، ثم مونتير مسلسلات، والعجلة تدور. لكن حدثان غيّرا التفكير والمسار وأشعلا المولوتوف.
الحدث الأول مشاهدته لعلي طالباب يغني على المسرح وتعرفه عليه في 2011 و 2012. يقول مولوتوف "علي كان مختلف عن كل المشهد، المزيكا في حتة وهو بيغنى في حتة، والكلام اللى بيغنيه مختلف ومتعوب عليه. أنا مكنتش بسمع راب غير شغل الراب الفلسطيني والشوام وعلي طالباب".
أما الحدث الثانى فكان مشاهدته لفيلم إلكترو شعبي للمخرجة الفرنسية التونسية هند مدب، والذي يوثق صعود موسيقى المهرجانات على أصوات الاشتباكات والمعارك التي أعقبت الثورة في سنوات 2012 و 2013. يعلّق مولوتوف على الفيلم قائلًا "أنا كنت بسمع مهرجانات عادي لكن بدون تركيز، الفيلم دا وقفني. خلاني أفكر إن موسيقى التكنو والتراب اللي أنا مسحول فيها، حلوة وكل حاجة لكنها مش من هنا، مش من ثقافتنا. في حين عندنا المهرجانات هنا حاجة بتاعتنا. اتسحلت في الموضوع وبدأت أسمع مهرجانات بتركيز وقلت هي دي المزيكا اللي عايز أعملها".
طموح مولوتوف لم يكن صناعة موسيقى المهرجانات مثل ما شاهده في الفيلم، فعلى طالباب وتجارب الراب الفلسطينى كانت حاضرة في ذهنه، وعلى حد تعبيره أثناء مكالمة هاتفية معه "شفت حاجة مشتركة بين المهرجانات والراب، طريقة الإنتاج، والغناء".
أراد مولوتوف صناعة جسر بين العالمين. بل طمح لما هو أكبر من ذلك "أنا شفت أن المهرجانات هى الراب بتاعنا".
والبداية دائمًا مع الدكتور عمرو حاحا
لم يكن مولوتوف أول من فكر في المزج بين الراب وموسيقى المهرجان. كان هذه الطموح حاضرًا دائمًا لدى الطرفين. أتذكر في 2012 حين قابلت السادات لأول مرة في مدينة السلام، وسألته عن أفضل التجارب الموسيقية المصرية التي يسمعها، بلا تردد أجاب "إم. سي أمين جنرال المجال وأقوى مغني راب مصري".
قدم إم. سي أمين مع السادات وفيفتي وتحت إنتاج دكتور عمرو حاحا عدة تجارب أطلقوا عليها الرابججه، كتزاوج بين موسيقى المهرجان والراب، كان هذا في 2013.
فكرة التزاوج بين أنواع فنية مختلفة دائمًا ما كانت في ذهن حاحا، لكن كان لديه تصور محدد عن كيفية تنفيذها وطبيعة منتجها النهائي.. في 2012 حكى لي حاحا عن محاولات لم تكتمل لعمل مشترك مع فتحي سلامة. كان حاحا متحمسًا في البداية لهذا التعاون، لكن بعد عدة جلسات ومحاولات انسحب من المشروع. مازحًا قال لي وقتها "قلت له يا أستاذ فتحي حضرتك بتعمل موسيقى أوبرا أنا بعمل موسيقى شارع، يبقي جميل لو اتقابلنا في منطقة في النص، أنت يبقي ليك إضافتك وأنا لي إضافتي، لكنه كان مُصر ياخدونا ونغنى ونعمل مزيكا على طريقته".
لذا حين وزع عمرو حاحا الأغاني التي جمعت المهرجان بالراب، جاء المزيج مثل نقلات الدي جي من أغنية لأخرى، فأمين يدخل على إيقاع هيب هوب تقليدي، ثم يتناول منه علاء فيفتي طرف الخيط بينما تتسلل إيقاعات وأصوات المهرجانات في الخلفية لتعلو مع دخول صوت السادات، ثم يعود "إيقاع/ البيت" الهيب هوب للسيطرة على الأغنية مع دخول صوت إم سي أمين أما الكلام فعن الدولة المدنية، والفخر بالموسيقى الشعبية التي ستغزوا العالم. حققت تجارب أمين والسادات شعبية كبيرة وقتها، لكن بدا هذا اللقاء تقاطع طرق عابر، ولم يتكرر مرة أخرى.
النقط فوق الحروف
وصل الرئيس السيسي للحكم. وانفصل الثنائي السادات وفيفتي. توقف إم.سي أمين عن الغناء. أما حاحا فعاد مرة أخرى للحفر في موسيقى المهرجانات موسعًا ومطورًا أكثر فأكثر. من بين كل صناع وموزعي موسيقى المهرجان يعتبر "مولوتوف" أنا حاحا هو الوحيد الذي يمكن أن يحمل لقب منتج فني/ برديوسر.
يميّز مولوتوف بين نوعين من صناع الموسيقى؛ ما يطلق عليه Beat Maker أو صانع الإيقاع وهو شخص يولف القطعة الموسيقية باستخدام البرمجيات المتاحة تحت يده على الكمبيوتر، ثم يبيع تلك القطعة للمغنى الذي يراها مناسبًا، أو يضعها على الإنترنت لمن يريد استخدامها.
أما المنتج الفني أو البرديوسر فهو يصنع الموسيقى لتناسب صوتًا محددًا، ولا يكتفي بصناعة المقطوعة الموسيقية بل يسجل ويوجه المغني ويمزج صوته بالموسيقى، ويشرف بشكل كامل على إخراج العمل، لذلك يكتب اسمه بجوار اسم المغني لأنه صانع أساسي للعمل والرؤية الموسيقية التي يحملها.
البرديوسر أو المنتج الفني هو دور جديد في المشهد الموسيقي المصري. يرى مولوتوف أن هناك سوء فهم لطبيعة دوره "زمان في المهرجان أو الراب كان أساس الموضوع أنك مغنى شاطر، ومهارتك وشطارتك من قدرتك على الارتجال والتوافق مع "الايقاع/ البيت".
"بالبلدي شطارتك كمغني إنك ازاي تقدر تركب على البِيت صح، والمغني الشاطر هو اللى يقدر يركب على أي بِيت تشغله له، لأن كمان مساحة التغيير والتعديل في تلك "البيتات" قليلة جدًا معظمها كانت إيقاعات/ بيتات جاهزة موجودة على النت بتنزلها وتغني وتعدل شوية وخلاص". لكن البرديوسر دوره أكبر من مجرد ملحن أو موزع، فوظيفته أن يخلق علامة وبصمة صوتية عبر استخدام برمجيات إنتاج الأصوات الموسيقية المختلفة.
هذه البصمة هي إمضاء لا تخطئه الأذن. نحن نستمع للمغني فنعرف من الصوت وأسلوب النطق والغناء من يكون، كذلك البرديوسر يخلق من البرمجيات والنماذج الصوتية المتاحة للجميع في أنحاء العالم لغة خاصة تعبر عنه وتحمل بصمته. هذه اللغة قادرة ليس فقط على الامتزاج على طريقة عمرو حاحا مع أنواع أخرى، بل هضم هذه الأنواع والمصادر وإنتاج صوت جديد يستلهمها ولا يستنسخها.
في ضرب جاي من ورا
مستفيدًا من معرفته التقنية وخلفيته في موسيقى التكنو. حاول مولوتوف تخليق إيقاعات مقاربة لموسيقى المهرجانات فصنع أول "تراكاته" في 2016 تحت عنوان مربع الحماحمة، مربع المولوتوف، مربع النخل ومربع الثورة.
يمكن اعتبار التراكات الأربعة تدريب على موسيقى المهرجانات، تمهيدًا للحظة انطلاق الصاروخ. انطلق الصاروخ دون تخطيط من مولوتوف. في حوار له مع سين نويز يحكى أن تراك بلعب أساسي لفيفتي، الذي حقق نجاحًا ونقلة كبيرة في مستوى أغنية المهرجان، تم تنفيذه بدون أى تخطيط، وبنية أقرب للهو.
تعارف على فيفتي لأول مرة في استوديو 100 نسخة أحد مصانع المهرجانات والموسيقى الالكترونية في العقد الأخير. حيث عمل الاثنان وسجلا أغنية "شلا بلا" في ألبوم "نجوم المهرجان". يقول مولوتوف "بعدها فيفتي كلمني وقالي احنا عايزينك في تراك وروحتله مدينة السلام وقعدنا أول يوم نتكلم أكتر، تاني يوم روحتله عامل جزء من الbeat، بعد كده روحت خلصت التراك وبعته وراح منزله".
نقلت أغنية بلعب أساسي علاء فيفتى إلى منطقة جديدة . فجّر مولوتف جبلًا يقف بين موسيقى الراب والمهرجان. من هذا الانفجار خرجت الموجة الجديدة التي يسميها "مولويف".
هناك بصمة خاصة لما يقدمه مولوتوف. يد مبسوطة على المشهد الموسيقي الجديد تفرض هيمنتها ويتسلل تأثيرها إلى أعمال الآخرين. فور الاستماع إلى عمل لمولوتوف سوف تميز بوضوح بصمته. حين أطلق على الموسيقى التي يقدمها اسم "مولويف" واجهته عاصفة من السخرية والانتقادات خصوصاً من وسط الراب المصري، وهو دائرة منغلقة من الذكور الأقل من 21 عامًا، يتعاملون مع الراب بصفته جزء من هويتهم الشخصية وفي الوقت ذاته باعتباره دستور نزل عليهم من آلهة الراب الأمريكي لا يجوز الخروج عن قواعده التي يتخيلون وجودها.
في حوار على الهاتف سألت مولوتوف، ما هي موسيقى "المولويف"؟
بكلماته عرّفها قائلًا "هى موسيقى تحمل داخلها صدى أصوات من الفلكلور الصعيدي/ موسيقى التكنو/ موسيقى الدارك أسيد/ مع ترددات من عالم موسيقى الهيب هوب". يصمت مولوتوف مستحضرًا الكلمات المناسبة ثم يكمل "هي موسيقى تحمل شحنة عالية من الطاقة، لكنها ليست طاقة الرقص، بل طاقة قادمة من حماس الثورة والتمرد، هى موسيقى أناركية في بنيانها، هي صوت الاشتباكات، الغضب، الاكتئاب، الحزن، والفرح كل التناقضات معًا في اللحظة ذاتها".
https://www.youtube.com/embed/LKqJfCyuutsيشير مولوتوف إلى مصادر أخرى لها تأثير كبير على تجربته الموسيقية، نشأته وحياته في حلوان، الحي الصناعي ذو الطابع العمالي، وكتابات جده الروائي الكبير خيري شلبي، خصوصًا بميلها إلى الغوص في حياة الفقراء والهامش الاجتماعي. بعد تجربته مع فيفتي طور مولوتوف أدواته مع السادات وقدما مجموعة من الأغاني صاغت طبيعة ألبوم السادات الذي وقع عليها بالشعار "مزيكا القرن الواحد والعشرين تخصنا".
في أغانٍ مثل هاش كاش، وأهل الحب، والكيف، يخلّص مولوتوف المهرجان من الضجيج والعنف الموسيقي العشوائي، ويدخل مع السادات المصنع ليخرج الإثنان بماكينة جديدة لن تتوقف. مرة أخرى يجدد السادات جلده ويعيد تشكيل نفسه. يعيد مولوتوف تشكيل وتقديم صوت المغني الذي يعمل معه.
في المهرجان والراب من المهم أن يكون صوت المغني وما يقول واضحًا، لأن الكلام المختلف هو ما يرفع الأغنية، والجملة السحرية هي الجملة التي تعلق بأذن المستمع وتتسلل تحت جلده لتتردد في صدى لا نهائي داخل جمجمته.
أما مغامرة مولوتوف، فهي مضاعفة الصوت لعشرات المرات، ومطه، وتجزئته، وتشويشه. يمرر الصوت عبر عدة فلاتر ليحول الكلام إلى أصوات، ثم يصنع من تلك الأصوات إيقاعًا كأنه آلة موسيقى، ثم يمزجها ببقية مكونات الأغنية. والمدهش كان النجاح الخرافي لهذه الخلطة التي نفذها ببراعة في أعماله مع مروان بابلو؛ الذي لمع كشهاب في 2018 و 2019 ثم اعتزل في 2020 بعدما اختراق الحصار المفروض على موسيقى الراب، وأصبح قائدًا يسير خلفه عشرات الآلاف من الشباب في الحفلات، ويلتهمون أغانيه بلا توقف. توقف بابلو، لكن الموجة الجديدة استمرت بلا قائد ولا سيطرة. نحن نعيش الآن داخلها.
عايز فين؟
تفتتح هند مدب فيلمها إلكترو شعبي على السادات في 2012، الذي لم يتجاوز عمره وقتها الرابعة والعشرين. يسير باتجاه فرح في مدينة السلام مشحونًا بالطاقة، يعتلي المسرح، ويولع الفرح. الشباب أمامه يرقصون عاريو الصدور، الشماريخ تشتعل، والسادات يغني "الشعب يضرب في الداخلية/ والداخلية تضرب فيهم".
تسير الكاميرا خلف السادات، يشير إلى أضواء عمارات مدينة السلام وهو يقول "أول ما الميوزيك خرجت، خرجت بقى من البلد دى، السلام البلد بتاعتنا، اللي اتربينا فيها وحكينا عنها، مرحب بيكم في السلام.. بلدنا الجميلة اللي الحكومة مبهدلها".
كانت موسيقى المهرجان جزء من المزاج السائد لمصر ما بعد 2011، والسادات هو الأكثر اندفاعًا وتأييدًا للثورة حتى إنه ذات مرة سجل أغنية تأييدًا لتيار الثورة مستمرة أثناء انتخابات مجلس الشعب. في 2014 وضعت قواعد لعالم جديد في مصر وفرضت شروط ذلك العالم حتى على دوائر الإنتاج الموسيقي، سحبت الأضواء من على مغنين مثل السادات وفيفتي، وسلطتها على آخرين مثل أوكا وأورتيجا اللذين نجحا سريعًا في الاندماج في فسيفساء الوسط الفني المصري، وأتقنا لعب دور المغني العشوائي ابن الحي الشعبي. لذلك احتضنتهما شركات الإعلانات، وفي فترة أصبحا الواجهة الإعلانية لشركة اتصالات.
في المقابل وجد السادات وفيفتي نفسيهما محاصرين في دائرة ضيقة. من الأفراح والحفلات الشعبية أو النوادي الليلية في القاهرة، وفي السنة يسافران مرتين أو أكثر لإحياء حفلات في فرنسا وأوروبا. غيّر السادات من الكلمات التي يغنيها، لكن الموسيقى ظلت كما هي.
بعد سنوات من العمل معًا انفصل الثنائي السادات وفيفتي. غيّر السادات من طبيعة ما يقدمها، وشم نفسه، حلق شعره، ظهر فخورًا بصلعته وجسده النحيف، وبينما كانت موسيقى المهرجان تغرق أو تتحول للوب الأبدي السكندري المحفوظ الذي يغنيه حمو بيكا، انتقل السادات لعالم الراب وبدأ يتعاون مع مغنى الجيل الجديد من الرابر، لا ليقدّم مزيجًا بين الراب والمهرجان مثل مغامراته السابقة مع إم سي أمين. بل ليخلق معهم موجة جديدة، بدأها بتعاونه مع مروان بابلو في عايز فين.
عصفت الموجة الجديدة بقواعد وقوانين الشعبية المستقرة في مصر. حتى 2018، يُتداول الراب والهيب هوب في دائرة محدودة مُغلقة على ذاتها، مثل دائرة ما يُعرف بالموسيقى المستقلة، وحتى دائرة موسيقى المهرجانات. خرجت أسماء مثل؛ أبويوسف، ويجز، مروان بابلو، السادات، فيفتي، إلى جانب السَحرة صناع الموسيقى مثل مولوتوف، ودي جي توتي، والفايف.
حملتهم الموجة إلي فوق، فأصبحت أغانيهم "الترند رقم 1". وأزاحوا من على القمة قمم وهضاب راسخة، أصبح فيديو كليب جديد لمروان بابلو يدفع أغنية عمرو دياب الجديدة إلى الأسفل. في حين أخذ مغنون آخرين مثل رامى صبري يبكون على انهيار الذوق العام وعدم تقدير الجمهور. تحركت نقابة الموسيقين بقيادة أمير الأحزان، لمحاربة الشياطين الجدد الذين سحبوا البساط من تحت الهضاب ونجوم التسعينيات الراقدون على صدورنا بسلطة الأمر الواقع.
غدر الصحاب في عالم الراب
يصارحني توتي أنه لم يكن يحب الراب، يقول "أنا كنت بكره الراب، كنت مسحول مع موسيقى التكنو وأنواعه المختلفة، وقفلت باب موسيقى المهرجانات من كتر اللى شفته منهم" لكن الصدفة مرة أخرى تغير مصيره.
ذات يوم ذهب مع صديق له لحفل في الجامعة الأمريكية بوسط البلد، فشاهد ويجز للمرة الأولى وأعجب بأدئه واختياراته، تعارف الاثنين بعد الحفلة على وعد بلقاء ثانى. اللقاء والتعارف قاد توتي إلى عالم الراب عبر باب موسيقى التراب التي يقدمها ويجز. مع ويجز قدم توتي عدة أغانٍ متنوعة، حملت بصمة خاصة معاكسة لما يقدمه مولوتوف وبقية البرديسورز على الساحة.
لا ضجيج في موسيقى توتي، ولا عنف، بل كل انفعال وكل ركلة وإيقاع محسوب صوتها ودخولها وخروجها، صوت المغني دائمًا واضح. موسيقى توتي ضد التعقيد والتفجير، بل تعتمد على إيقاعات مألوفة، و "البِيت" موزون. تجد نفسك تنساق وراء موسيقى توتي، أو تهز رأسك على الكنبة في انسجام واسترخاء، موسيقى أدق تعريف لها "على الهادي يا زبادي". بساطة وسلاسة تصل إلى أى أذن حتى لو لم تكن من جمهور الراب أو المهرجانات.
رفعت موسيقى توتي "ويجز" وجعلته ترند. حققت أغنيته باظت خالص ملايين المشاهدات ومرّات الاستماع، وكانت من أول الأغانى التي تكسر الجدار المسور حول عالم الراب لتخترق الفضاء العام حتى إنها تحولت إلى شارة إعلانية.
لم يكمل توتي 22 عامًا، ويعترف أنه نادم على عدد من الأخطاء التي ارتكبها، "لكن محدش بيتعلم ببلاش". يحكي لى أنه ذات يوم تلقى اتصالًا من مدير أعمال ويجز أخبره أن لديه مبلغ عشرين ألف جنيه "حقه عن أغنية باعوها لشركة إعلانات". استفسر توتي عن الأمر فشرح له مدير الأعمال أن ويجز باع أغنية ما لشركة إعلانات، ونصيب توتي من البيعة 10% يعني عشرين ألف جنيه.
طلب توتي الاطلاع على العقد وواجه مدير الأعمال مستغربًا "يعني انت عايز تقول لي إن ويجز أخد 200 ألف بس على الإعلان؟"
انفعل مدير أعمال ويجز، ورفض اطلاعه على العقد وقال ما معناه "دا اللي عندنا وأنت أصلًا ليس معك ما يثبت أن لك حق في تلك الأغنية".
معظم المغنين والعاملين في هذا العالم ليسوا مسجّلين في النقابة، والكثير منهم أصلًا لم يبلغوا السن القانوني. بالتالي فالفوضى هي الحاكم الآمر في هذا الوسط الفني، والعمل والمشاريع التعاونية تدور بالحب بدون عقود ولا اتفاقيات.
أنتج توتي مثلًا ألبومًا كاملًا لويجز دون عقد واضح يحفظ حقوق الطرفين. يشرح لي توتي بتلقائية أنه حين بدأ كان يبيع "البِيت/Beat" بعشرات الجنيهات الآن أصبح يبيع البِيت بالآلاف، ويزيد أجره إذا كان سيعمل كبرديسور. ثم تنقطع علاقته بالعمل بعد تسليمه القطعة واستلام أمواله.
حين شرحت له مسألة حقوق الملكية الفكرية للملحن وأن حقوقه كملحن لا تسقط بالتقادم، قال إنه مؤخرًا بدأ في استيعاب ذلك، والخطوة القادمة كل تعاملاته ستكون بعقود وحقوق ونسب واضحة. يرى توتي أن المرحلة السابقة كانت مرحلة انتشار أو كما يوضح "بص أنا شاب عادي، محتاج أولًا أقدر أصرف على نفسي، ثانيًا أحاول أطور في اللي بقدمه وبعمله".
بحماس يحكي لي في نهاية المكالمة أنه سيعود إلى المهرجانات. بمحبة وصفاء نيه يعترف "الحقيقة شغل مولوتوف هو اللي شجعني أرجع تاني للمهرجانات، لأنه قادر يطلّع صوت غير اللي اتعودنا عليه في المهرجانات، وعنده تركيبة خاصة بيه".
على التليفون حدثني بحماس عن أغنية جديدة يعمل عليها مع علاء فيفتي. بعدها بأسبوعين أصدر فيفتي الفيديو كليب لأغنيته مع توتي، اثنين اثنين خمسة، إيقاع راقص يخطفك من أول ثانية، وفيفتي يرص الكلام في ركلات نارية متسارعة، يتقاطع كل هذا مع هبات عنيفة لفيفتي يتحول فيها لمغني مهرجانات ثم يعود بتمكّن إلى الراب.
الرأسمالية العالمية تبتلع "السين" المصري
أرقام اليوتيوب لا تكذب، كما يتبعها تحويلات ودولارات. وبالنسبة لهذا الجيل من المغنين فالنشر على الإنترنت هو مصدر الدخل الرئيسي. لكن أموال اليوتيوب لا تكفي، فيوتيوب نسبته تقترب من 50% مما يعرض من إعلانات، ولا توجد وسيلة لمراجعته أو تعديل تلك الاتفاقيات.
الأموال الحقيقة تأتي من الحفلات أو من منصات الاستماع مثل أنغامي، ديزير، سبوتيفاي. تعمل المنصات الثلاث في السوق العربي، لكن سبوتيفاي كشركة عالمية لم تنزل بثقلها بعد في السوق العربي الذي تقتسمه شركة أنغامي اللبنانية، وديزير الفرنسية التي حصلت مؤخرًا على الحق الحصري لاستغلال مكتبة روتانا الموسيقية، بعد خلاف بين روتانا وأنغامي.
كشركات عالمية تعمل هذه المنصات بقوانين خاصة ليس لها أي علاقة بالقوانين المصرية المحلية. كما أنك كمنتج موسيقي لا تتعامل مباشرة مع منصات العرض كيوتيوب أو سبوتيفاي، بل من خلال منصات أخرى هي منصات توزيع وبيع الموسيقى، ولتبسيط الأمر فما يحدث كالتالي:
-أنت تنتج الموسيقى، ثم ترفعها على أحد منصات بيع الموسيقى مثل distrokid أو tunecore أو cdbaby.
-ترفع الأغنية هناك وتحدد حقوق كل مشارك في صنعها، مثل 40% للبرديوسر و60% للمغني.
-يتولى هذا الموقع بيع الأغنية وتحصيل العائدات من مختلف المنصات الموسيقية مثل أبل ميوزيك/ آي تيونز، سبوتيفاي، أمازون ميوزيك، تيك توك، جوجل بلاي، تيدال، تنسنت.
كل ما سبق يعني أن الموسيقى العربية للمرة الأولى أصبح توزيعها في يد شركات عالمية أخرى تعمل بلا رقابة من الأنظمة العربية، دون أن تدفع ضرائب، ودون أن يمتلك الفنان أى سلطة للرقابة على أرقامها ومعرفة حقه و"راسه من رجليه".. والأهم دون أن يمتلك الفنانون القدرة على التفاوض مع تلك الجهات.
يوضح شارل عقل في مقاله "تقدّر شركة سبوتيفاي العائد عن بث أغنية مرة واحدة لمستخدم واحد يتراوح بين $0.006 و$0.0084.. أي ربحًا قدره أقل من دولار واحد (ثمانون سنت)، إذا استمعت لألبوم موسيقي من عشر مقطوعات عشر مرات. ليتم تقسيمه تباعًا على شركة البث وشركة الإنتاج، 30 % لشركة البث و70% لشركة الإنتاج غالبًا. حين تحصل شركات الإنتاج على العائد من البث، لا توزعه على الفنانين بالتساوي، كل حسب حصته في أعداد الاستماع، إنما كل حسب عقده مع الشركة، وقدرته على التفاوض معها. لذا فعائد بث أغنية واحدة لتيلر سويفت لا يتساوى تمامًا مع عائد تشغيل أغنية واحدة لمغنٍ متوسط الشهرة مع نفس شركة الإنتاج. الفنانون الأكثر جماهيرية لديهم الصلاحية للحصول على نسب أعلى خلال التعاقد. ما يجعل الأثرياء أكثر ثراءً، ويحطِّم أصحاب المحتوى الأقل شهرة".
بالتالى يكون لدى الفنانين في العالم الغربي قدرة تفاوضية أعلى من فنانين العالم الثالث. إنها عبودية واستعمار الشركات العالمية تغزو الانتاج الفني، وتطرد المنتجين الكبار خارج السوق وتلقي بالفتات للفنانين.
الصعود لذوق الطبقة الوسطى بـ"التيك توك"
يعمل "كاف" محررًا موسيقيًا في واحدة من تلك المنصات العالمية، هو واحد من المحررين المسؤولين عن المحتوى العربي. وظيفته مراقبة أرقام التوزيع وعدد مرات الاستماع، وتوليف وإنشاء القوائم الموسيقية للمستخدمين اختيار الأغاني التي تظهر في الصفحة الرئيسية وتوزيع الأغاني على القوائم والتصنيفات الموسيقية المختلفة.
لا يخفي "كاف" حماسه لموجة الموسيقى الجديدة القادمة من مصر. يقدِّم رؤيته لما حدث في سوق الموسيقى على الإنترنت، قائلًا "منذ 2014 دخلت الموسيقى العربية عمومًا في حالة من الملل والتكرار، لم يكن هناك سوى فِرق وزارة الثقافة الأردنية، مثل جدل والمربع وغيرهم، وشارموفرز وكايروكي المستمرين في إعادة تقديم ذات الخلطة. في الوقت ذاته كانت الموسيقى الشعبية والمهرجانات و حمو بيكا محاصرين في منطقة غير معترف بها".
في ذلك الوقت كانت الإذاعات والتلفزيونات ترفض إذاعة تلك الأغاني، يضرب مثلًا بأن إذاعة شعبي FM منعت إذاعة المهرجانات وقتها. لكن جميع العاملين في سوق الإنتاج الموسيقى كان يعرفون أن هناك الكثير من الإمكانيات داخل تلك الموسيقى وكل ما يحتاجه الأمر أن تخترق الحصار المفروض عليها وتصل إلي الطبقة الوسطى من المستمعين وتنال اعترافهم. المثال الأوضح على ذلك تجربة محمود رفعت واستوديو 100نسخة، حيث فتح رفعت الاستوديو لمغنيي المهرجان لاستخدامه والتسجيل من خلاله. واستقدم عشرات الموسيقيين من أوروبا، منتجًا مشاريع بين موسيقى أوروبا، والمهرجان، والراب. وسعت مجهودات رفعت من القاعدة الجماهيرية لتلك الموجة الموسيقية، لكن النقلة الحقيقة في رأي "كاف" حدثت مع انتشار تطبيق تيك توك.
غيّر تيك توك الصورة الذهنية لموسيقى الموجة الجديدة، فلم تعد موسيقى الطبقات الشعبية، بل أصبحنا نرى فتيات جامعيات من الطبقة الوسطى وأحيانًا من طبقات عليا يصورن الفيديوهات وهن يرقصن على الأغانى الرائجة، ثم أتت صفحات "المميز" لتكسر الدائرة المغلقة على جمهور تلك الموسيقى نحو دوائر أوسع وأكبر.
القلق من الغد
ركبت الموجة الجديدة فوق أنواع موسيقية أخرى، يوضح (كاف) قائلًا "مثلا عدد مرات الاستماع لأغنية لويجز تجاوز عدد مرات الاستماع لألبوم كامل لعمرو دياب مثلًا، حمو بيكا وحسن شاكوش كذلك في المقدمة، لكن هذا لا يعني أنهم الأكثر انتشارًا فهناك فروق نوعية في النمط الاستهلاكي لكلا الجمهورين، فجمهور عمرو دياب يفضل شراء الألبوم أو تحميله على الموبايل ويتبادلون الأغانى عبر الواتساب، بينما جمهور الموجة الجديدة غالبيتهم من الشباب الذين إذا فحصت موبايلاتهم لن تجد عليها أي أغنية فهم يستعملون برامج ومنصات البث المختلفة للاستماع إلى الموسيقى".
عنصر آخر أكثر أهمية مما سبق هو مصادر الدخل وموقف السلطة من تلك الأنواع الموسيقية، فالكثير من مغنيي المهرجانات ومغنيي الموجة الجديدة ليسوا أعضاءً في نقابة الموسيقيين، وبالتالي لا يمكنهم الغناء وإقامة الحفلات في الأماكن المتاحة. والأهم أن بعض الأماكن مثل الفنادق الخمس نجوم ترفض دخولهم أو إقامة الحفلات لهم بحجة أن هذه الموسيقى تشوّه من صورة المكان وتُدّني من مستواه، الأمر الذي يحرم موسيقيي هذه الموجة من مصدر الدخل الأول للمغنين في مصر وهو الأفراح.
يغيب كذلك البعد العربي لهذه الموسيقى، فطبيعة الموسيقى والكلمات المحلية تعيق من انتشار هذه الموسيقى عربيًا، وبالتالي لا تصلهم دعوات لمهرجانات الموسيقية العربية ولا حفلات في السعودية أو دبي.
هذا الأمر يؤثر أيضًا على التدفقات المالية من منصات العرض، خصوصًا تلك التي تعمل من خلال الإعلانات مثل يوتيوب وساوند كلاود، فمثلًا يمكن أن تحقق أغنيتك مليون مشاهدة لكن جمهورك كله شباب تحت العشرين من القاهرة والإسكندرية، بالتالي قدرتهم الشرائية ضعيفة، بالتالي الاعلانات التي تظهر لهم على الفيديو تكون أسعارها أقل، لكن مغنٍ آخر يمكن أن تحقِّق أغنيته 100 ألف مشاهدة لكن النسبة الأكبر من جمهوره فوق الثلاثين ويعيشون في دبي، بالتالي قدرتهم الشرائية أعلى والإعلانات التي تظهر لهم على أغنيتك أسعارها أعلى.
رغم حماسه للموجة الجديدة لكن "كاف" لا يرى أنها ستعيش طويلًا، فهي موجة تأكل نفسها وتعيد إنتاج ذات التيمات بشكل كثيف ومكرر مما يؤدي إلى ملل الجمهور سريعًا. يضرب مثلًا على ذلك بحمو بيكا، فبعد الصعود الصاروخي لموسيقاه يتجه السهم إلى الأسفل. عنصر آخر هو العشوائية والفوضى في إنتاج الموسيقى. فلا توجد عقود أو ورق رسمي يضمن حقوق المنتجين، والمغنين والموسيقيين معظمهم صغار السن تحرّكهم حالات مزاجية متقلّبة يصعب التنبؤ بها أو السيطرة عليها.
الحالة الأوضح مروان بابلو الظاهرة الفريدة الذي لمع كشهاب في 2019، ثم فجأة قرر الاعتزال. ناهيك عن الصراعات المنطقية مثل خناقة الريادة بين موسيقى القاهرة والإسكندرية، كل هذه الأسباب تجعل الشركات والمنتجين الكبار متخوفين من الدخول إلى هذا السوق أو الاستثمار فيه.
لكن حتى إن تجاوز المنتجون الكبار هذه العقبات، وفكّروا في دخول هذا السوق، فلن يستطيعوا المنافسة مع المنصات والشركات العالمية التي وفَّرت لهؤلاء الشباب حرية نشر كل ما يريدونه، والحديث عن كل الموضوعات من الحشيش إلى الجنس إلى العنف الوحشي غير الموجهة، فبدون هذه التيمات ستتحول الموسيقى إلى مسخ مثل بقية الأنواع الأخرى الخاضعة لسلطة الرقابة.
بدأت الموجة بالفعل، وجرفت أمامها أوهامًا كانت ثابتة على الساحة، وتركت البصمة التي لن تزول. لكن كيف ستقف وتتعامل مع السلطة في مصر؟ وكيف ستخلق لنفسها دورة إنتاج ونموذجًا اقتصاديًا يكفل لها الاستمرار؟ هذا هو التحدي الحقيقي الذي لا سبيل للتنبؤ به الآن، وبدلًا من القلق على المستقبل لنسبح مع موسيقى الموجة الآن.
* تم إدخال تعديل بتاريخ 10 يونيو 2020 على جملة "تحديد أجر البروديوسر" بناء على طلب المصدر.