الاسم: وائل محمود.*
المهنة: أخصائي حميات.
مكان العمل الحالي: المدينة الجامعية للعزل بقنا.
السن: 43 سنة.
طبيعي إحنا كبشر لما بنبقى في دايرة معينة قريبة من حدث معين، بيبقى عندنا توقع إن لازم هايجي علينا الدور ونخوض التجربة. أنا طبيب حميات وعارف إن زوجتي و أطفالي وأهلي قلوقين جدًا، فحاولت أمهّد الموضوع من البداية في البيت، بقيت دايمًا بأقول إن ممكن في أي وقت يكلفوني في مستشفى للعزل. طبعًا في الأول زوجتي كانت بترفض وتدعي إن دا ما يحصلش. وكنت بافضّل أقول لها ده دوري ورسالتي، ولو أنا وغيري قررنا نكسر التكليف مين هيروح، بس كنت متفهم أسباب خوفها الطبيعي.
يوم 4 مايو (في رمضان) جالنا أخبار باجتماع طارئ في مكتب مديرية الصحة لعدد من أطباء المستشفى اللي شغالين فيها، كان عندنا شكوك إن خلاص جه دورنا في التكليف، وفعلًا روحنا قبل الفطار بساعتين المكتب، اجتمع بينا المسؤول وبلغنا إننا هانروح عزل المدينة الجامعية في مدينة قنا. فكرنا إن ده هيحصل كمان كام يوم، وبالتالي معانا وقت نجهز ونقول لعائلاتنا، لكنه فاجئنا كلنا إننا هنتجمع ونتحرك بعد الفطار مباشرة. طيب نجهز نفسنا؟ لأ. من بعد الفطار هاتيجوا. مكننش فيه أي تنظيم واضح، والتعليمات كانت عشوائية، مفيش بروتوكول واضح نمشي عليه علشان مانخاطرش بنفسنا.
روحت البيت وأنا بأفكر هامهّد للخبر ده إزاي. دخلت لقيت زوجتي مجهزة الفطار وأولادي مستنيين رجوعي، قعدت أتكلم عن العزل شوية كتمهيد للموضوع. الوقت كان ضيق جدًا إني أشرح أسبابي. وبعدين قولتلهم الخبر. طبعًا زوجتي كانت في حالة ذهول، ولما بدأت أجهز شنطتي انهارت تمامًا، وعيطت و بدأت تترجاني أشوف حل وماروحش. دا رد فعل طبيعي ومتوقع لما تكون رايح تواجه الموت.
بدأت أهدّيها وأقولها إن ده دوري يعني لما هاتخلى عن مكاني مين هيعالج كل الناس دي. قولت لها أنتِ عارفة طبيعة شغلي، ودايمًا فيه خطر العدوى بأي مرض مش كورونا بس، لكنه دوري في الآخر. أولادي بيسمعوا عن كورونا من الميديا زي باقي الأطفال فمش فاهمين قوي يعني إيه عزل بس عارفين إن فيه خطر، ولما شافوا والدتهم منهارة هم كمان بقوا يعيطوا. والأصعب منهم كان والدتي.
أنا ولد وحيد وأصغر أخواتي البنات، وأمي متعلقة بيّ جدًا. كلمت أخواتي بلغتهم محدش يجيب لها سيرة و يقولوا لها إني في تدريب طويل شوية.
جهزت شنطتي في ساعة بعد الفطار، وأنا جوايا مليون سؤال وتخيل وتوقع عن اللي رايح له، وبافكر إيه هاقدمه. وطلعت أودع أهلي. مكانش مجرد سلام مأمورية، كان وداع لنهاية محتملة. إنت رايح تواجه مجهول، وجايز اللي بتشوفه وتودعه دلوقتي مش هايقدر يشوفك ويلمسك ويسلم عليك مرة كمان. واحتمالية خروجي سليم من العزل في ظل الأوضاع دي؛ تكاد تنعدم.
صخرة الحقيقة
تجمعت مع زملائي، بدأنا نتحرك بإتجاه المدينة الجامعية اللي تحولت إلى مستشفى للعزل. كان عندي توقعات إن المكان هايكون مجهز، آه مش توقعات عالية بإني هالاقي أحدث المستلزمات، بس على الأقل هالاقي مكان آدمي.
أول ما وصلت اتصدمت بالواقع، كل توقعاتي اتكسرت. غرف مش نظيفة بشكل كويس، ومفيش مياه نظيفة نشرب، وإحنا وقتها في رمضان وهانموت من العطش. مفيش تلاجات نحفظ فيها مياه أو أكل، الغرف مش متجهزة. فيه حشرات في كل مكان، ومش لاقيين فرش للسراير، واضطرينا نفرش بنفسنا. تفاصيل كتير خلتني مش عارف هأعيش هنا الـ 14 يوم إزاي؟
مجرد ما دخلت العزل برجلك واتقفل عليك الباب من بره؛ فأنت في سجن ممنوع تخرج ولا تدخل، ممنوع تشوف حد. أول يومين اتحفروا جوا ذاكرتي وعمري ماهنساهم، لما لقيت نفسي في مواجهة أمر واقع مضطر أتعامل معاه: كل حاجة فيها عجز ونواقص. بداية من الأشعة وحتى التحاليل وغيرها، طبعًا كل حاجه بنحاول نصلحها كانت بمعاناة. اتصالات بمسؤولين ومحاولات وطلبات وزنّ هنا وهناك. بس اعتبرت نفسي إننا في حرب وقدامنا معركة ودي امكانياتنا المتاحة، يا إما نستسلم ونموت يا نكمّل حربنا، وأهي فترة وتعدي.
أول يوم جت لنا طبيبة من مكافحة العدوى، وإدتنا محاضرة عن إزاي نلبس البدلة ونتعامل مع الحالات. من تاني يوم بدأنا نستقبل حالات مصابة. الواقع إنك بتستلم حالات هي مصابة مش لسه هتتعامل في احتمالات اشتباه، لأ. إنت قدامك مصاب كورونا وناقل للعدوى ويالا اشتغل واستقبله. اتعاملت في مدة وجودي في العزل الصحي مع حوالي 50 حالة مثلًا. طبعًا إحنا ملتزمين ببروتوكول معيّن نستقبل على أساسه الحالات، بس عشوائية التنظيم كانت واضحة جدًا، وده بيعطل عملية العلاج. يعني إحنا في مدينة جامعية تحولت لعزل، وكل اللي تملكه هو سماعة وجهاز ضغط، ومفيش أي إمكانيات علاج أخرى.
أوقات بتجيلنا حالات متدهورة، ومحتاجة رعاية طبية أعلى من إمكانياتنا فبنضطر نحولها لمستشفى مخصصة للعزل بعيد عننا، وده إرهاق للمريض وخسارة من وقته اللي بنراهن عليه علشان يعيش. طيب ما كان يروح هناك من الأول، لكن دا اسمه سوء تنظيم. طيب مش المفروض الطبيب اللي حول الحالة دي يتواصل مع الطبيب اللي هيستلمها، نحكي له تاريخه المرضي، وإيه حصل للحالة، وسبب التدهور وهكذا؟ لأ طبعًا، دا ما بيحصلش.
حر وصيام وبدلة صفراء وصدمات نفسية
البدلة هي أصعب حاجة تتحملها في العزل مع الحر وكمان لو صايم ماتقدرش تتحملها أكتر من نص ساعة. ده كان بيخلينا نقلعها ونلبس بدل جديدة أكتر من مرة لإننا مش قادرين نتحملها لساعات طويلة. بنقلعها لما نخلص مرور على الحالات، ونلبسها لو جت حالة جديدة.
فيه يوم عمري ماهنساه، لما رئيس العمال جه جري علينا واقتحم الغرفة وهو بيقول الحقني يادكتور، واحد من العمال وقع من طوله. جرينا على الولد، كان شاب صغير، وإحنا بندعي إنه ما يكونش مصاب. كانت كل العلامات الواضحة عليه أعراض غيبوبة من صدمة نفسية. بدأنا نتعامل معاه ونحاول نفوقه. عرفنا بعدها إنه كان بيتكلم مع أهله، واللي جاب له الشغل ماقالهوش إنه هايشتغل في عزل كورونا، فلما وصل الشغل وبلّغ أهله أجبروه يرجع ويسيب الشغل، وهددوه إنه لو ما رجعش مش هيدخلوه البيت لو عاش بعد مدة العزل.
الأيام في العزل طويلة و مرهقة جدًا، يعني ماكنش في أي فرصة للترفيه، وطبعًا ممنوع نحتك ببعض. نهارنا كله يا إما شغل ومتابعة الحالات وبينهم القرآن والصلاة. كل واحد بياخد وجبته ويطلع غرفته لوحده وياكل. كنا بنتواصل مع أهلنا كام دقيقة في اليوم عن طريق الموبايلات لأن الشبكة كانت سيئة جدًا في منطقة المدينة الجامعية، فحتى مش عارف تتابعهم وقت أطول، والغرف مش مريحة ولا نظيفة، والحاجة الوحيدة اللي بتجبرك على النوم هي الإرهاق و التعب.
أصعب اللحظات وإنت خلاص خارج وبتجهز شنطتك، ومنتظر نتيجة تحليل PCR. ولما النتيجة طلعت الحمد لله سلبي خرجنا، بس بتفضل تفكر إيه هايحصل لما تشوف أهلك بعد غياب 14 يوم. مضطر تبقى جنبهم وبرضه بعيد عنهم كمان 14 يوم.
كلمت أسرتي فهمتهم الوضع، قلت لهم يجهزوا لي شقة في أول دور في البيت، محدش يدخل عليّ، ويحطوا لي كل حاجاتي الشخصية فيها قبل وصولي. دخلت من البيت، طلعت على الشقة، وحطيت كل حاجاتي على الباب، طبعًا أخدت دوش وعملت تعقيم.
أنا باكلمكم دلوقت من العزل الذاتي في بيتي.
صعب أولادك ومراتك وأمك يبقوا قدامك وبعد غياب في مشوار زي دا ما تبقاش عارف تاخدهم في حضنك و تطمن عليهم زي أي حد جي من فترة غياب وبعيد عن بيته. بس طبعًا أنا خايف أكون حامل للمرض ومش عارف وبالتالي أنقل لهم العدوى فمضطر أتحمل.
الظروف والتوقيت في شهر رمضان ماكنوش مشجعين، صعب إن حد يدخل التجربة دي بكل مساوئها وضغطها، ومع معرفتك بزملاء ليك بيموتوا سواء من الإصابة أو إرهاق العمل، وتبقى عاوز تكررها تاني، لكن أنا مش هامانع لو تم تكليفي مره كمان. أنا حالف قَسَم و دي رسالتي ودوري ومهنتي.
* هذه شهادة لطبيب تنشرها المنصة في باب مخصص، بعد التأكد من هوية الكاتب والتحقق من شهادته عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية اللازمة، والحفاظ على خصوصية المرضى، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.