نطالع أخبارًا جديدة كل يوم عن أحدث التطورات في مجال التطورات علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، وبقدر ما يبدو المشهد مثيرًا فإن هناك خطورة تنبع من تلك التطورات، تتمثل في تأثيرها أفكارنا وثقافتنا وآرائنا، وحتى صوتنا في صندوق الانتخابات، فيمكن لبعض المعلومات البسيطة عن ملايين من البشر، أن تغير مصير أمَّة بأكملها وقد تغير مستقبل البشرية بأجمعها.
حروب البيانات
يعتبر موقع تويتر أحد أهم مراكز الأبحاث العملاقة في علمي النفس والاجتماع، وتحليل سلوك المجتمعات والتفاعلات الاجتماعية والسياسية، وطرق تناول المجتمعات والأفراد والأحزاب للأفكار والأخبار والكوارث والموضوعات المختلفة، وهذا بسبب سياسته المرنة في تصدير البيانات لأغراض بحثية وتسويقية، قد تعود بالفائدة على المنصة.
ومازال تويتر هو الموقع الأكبر الذي يمكنك من خلاله أن تحلِّل عينة عشوائية بتوزيعات مختلفة من أنواع الأشخاص، بناء على اهتمامتهم وبشكل مجاني، على عكس فيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي التي تفرض سياسات صارمة على البيانات ومشاركتها، خاصة بعد حادثة كامبريدج أناليتكا، التي كانت تدور حول التلاعب في نتيجة الانتخابات الأمريكية عام 2016 .
التنبؤ بنتائج الانتخابات باستخدام البيانات الضخمة
في سنة 2016 شهدنا جميعًا انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت ذاته الذي كنا ننتظر فيه نتيجة الانتخابات كانت شركة BADRIT المصرية (المملوكة لشركة INCORTA حاليًا) تعلم أن دونالد ترامب فاز بالانتخابات قبل أي أحد من خلال تطبيقها Tweet Elect.
بدأت الشركة أعمالها بتجميع كل البيانات المتعلقة بدونالد ترامب وهيلاري كلينتون من خلال منصة تويتر، وحلَّلت الملفات الشخصية الموثقة لكليهما وتفاعل الجمهور مع وسوم الانتخابات، بما تحمله من عبارات َإيجابية وسلبية تجاه كلا المرشحين. كانت الخطة ببساطةتصنيف النصوص وتحليل مشاعر الناخبين من خلال تغريداتهم، لقياس التفاعل (اﻹيجابي والسلبي) تجاه كلا المرشحين.
العينة العشوائية من البيانات المأخوذة من موقع تويتر تعتبر مثالية، ﻷنها تحتوي على توزيعات شاملة لكل الديموغرافيا المجتمعية، وبفضل جودة البيانات التي يقدمها الموقع، فإن علماء البيانات يستخدمونها في الأساس للتسويق وبعض الأغراض الأخرى، وأبسط مثال هو ظهور اﻹعلانات الممولة التي تطابق اهتماماتك.
كان هذا يعتبر أكبر حدث تكنولوجي سياسي في تلك الفترة على الأقل في الشرق الأوسط، وكان بمثابة صفارة الانطلاق للاهتمام بالشق السياسي في مجال علوم البيانات وإعطائه أولوية والعمل على إنشاء مراكز أبحاث سياسية متخصصة في تحليل وتجميع البيانات المجتمعية العملاقة.
لم يكن التنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية بالأمر السهل. ولكن، في عام 2012، قال الخبير الإحصائي نيت سيلفر إن باراك أوباما أمامه فرصة بنسبة 91 % لفترة ولاية ثانية، من خلال التنبؤ بنجاح بأصوات المجمَّع الانتخابي بأكمله، باستخدام التقنيات التحليلية، والتحقق من بيانات الاستطلاعات الأولية باستخدام التحليلات التنبؤية.
ومع ذلك، فشل نيت سيلفر وفريقه في التنبؤ بنتيجة الانتخابات الرئاسية في 2016، حيث كان يتوقع أن تفوز هيلاري كلينتون بنسبة ما بين ال 85% إلى 99% ولكن فاز دونالد ترامب. ولم يكن الأكاديميون والإحصائيون هم الوحيدون الذين استخدموا البيانات الضخمة لصالحهم في الانتخابات، فكانت هناك فرقة منافسة لهم جميعًا وهي الشركة المنوطة بتغيير الرأي العام الأمريكي.
كامبريدج أناليتكا Cambridge Analytica شركة تحليل بيانات ساعدت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يصل إلى الحكم عن طريق دراسة وتحليل بيانات ضخمة عن الشعب الأمريكي وتوجيه آرائه والتلاعب بها، وفرض توصيات اختار من بينها دونالد ترامب الأمثل لبرنامجه الانتخابي ليحقق فوزًا غير متوقع على منافسته هيلاري كلينتون.
استخدام البيانات للتلاعب بالانتخابات
تسببت فضيحة كامبريدج أناليتكا في التلاعب بنتيجة الانتخابات الأمريكية؛ في خسائر فادحة لشركة فيسبوك، تقدَّر بأكثر من مائة مليار دولار في أيام معدودة.
في البداية ذهب ترامب لشركة البيانات المشبوهة طالبًا دراسة المجتمع الأمريكي والتأثير فيه ، حيث استطاعت الشركة بموافقة فيسبوك أن تحصل على بيانات أكثر من 87 مليون مواطن أمريكي خارج أمريكا وداخلها، والوصول إلى معلوماتهم الشخصية، التي تشمل الإعجابات وسجل النشاطات والتعليقات والمنشورات، حتى إنها استطاعت أن تحصل على إذون من المستخدمين للوصول إلى رسائلهم الشخصية أحيانًا.
عام 2016 وما قبله لم يكن هناك أي توعية حقيقية لثقافة خصوصية البيانات، التي باتت جزءًا لا يتجزأ من أي منهج أكاديمي يتحدث عن أمن المعلومات، حينها كان الأمر مختصرًا في هذا الزر الذي نضغط عليه كلما حاولنا استخدام أي تطبيق "التالي، التالي، التالي.. انتهى التحميل" ومن هنا بدأت الكارثة.
لم يقتصر مجهود شركة Cambridge Analytica على دراسة سلوكيات وقضايا الناخبين الأمريكيين فحسب ، كانت مجهودات الشركة تسلك مسارًا آخر على التوازي، وهو عمل ملف تعريفي لكل مواطن أمريكي حصلو على بياناته، فأصبح لديهم أكثر من 80 مليون ملف سياسي يحمل كل الديموغرافيا والأيدلوجيا والجغرافيا الخاصة بالمواطن، وتم استخدامه بشكل فعال في عملية التخطيط الشخصي للمجتمع، وهو ما مكّنها من إنشاء ملف تعريفي لكلّ من جُمعت بياناته، قبل أن تمر للخطوة الأخيرة والتي تمثّلت بالأساس في استهدافِ المستخدمين بنوعيّة "الإعلانات الأكثر فاعليّة" لإقناعِ الشخص بمرشحٍ سياسيّ ما أو تغيير وجهة نظره حول رؤية سياسية أو مرشح سياسي أو برنامج انتخابي منافس، لضمان فوز ترامب.
وفقًا لوكالة أسوشيتيد بريس فقد ظهرت شركة تُعرف باسمِ داتا بروبريا يُديرها مسؤولون سبق وأن عملوا مع كامبريدج أناليتيكا، ومهمّتها الأساسيّة هي مساعدة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في حملته الرئاسيّة المقبلة.
التلاعب بالآراء باستخدام الحسابات الوهمية
يستخدم فيسبوك تكنولوجيا عالية الدقة للتأكد من صور الملف الشخصي للمستخدمين الجدد، ولكن هذه التقنية باتت قديمة وتم خداعها كثيرًا، وكل هذا عن طريق الصور المولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي بواسطة شبكة الخصومة التوليدية- GAN التي تعتبر إحدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا التعلم العميق التي تعمل على توليد صور جديدة بناءً على صور موجودة بالفعل. تم استخدام تلك الشبكة في توليد صور ملفات شخصية لمستخدمين وهميين غير موجودين بالأساس، وتم استعمالها للعبور من جدار التحقق لدى فيسبوك المصنوع للكشف عن الحسابات الوهمية.
بعد عبور تلك الحسابات الوهمية إلى عالمنا الافتراضي، فيسبوك وتويتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، يكون لكل حساب منها مهمة أو بعض المهام، المبرمجة آليًا لتحقيقها، سواء بشكل جماعي مع باقي الحسابات أو فردي.
أغلبية المهام هي نشر المنشورات العامة للتأثير على الرأي العام وقائمة الأصدقاء والمتابعين. وبحسبة بسيطة؛ إن كان هناك 1000 حساب وهمي وكل منها لديه 5000 صديق و1000 متابع، مع نسبة أصدقاء مشتركة بينهم أكثر من 50 %، فإن تلك الشبكة الوهمية تستطيع أن تؤثر في أكثر من ستة ملايين شخص، منهم على الأقل ثلاثة ملايين منهم يعرفون بعضهم البعض، مما يزيد من سرعة انتشار الرأي في شبكة اﻷشخاص الحقيقيين، الذين يتبنون اﻵراء المنشورة على حسابات وهمية تُدار برمجيًا من على بعد، وهنا يبدأ انتشار العدوى.
كامبريدج أناليتيكا جديدة
اكتشف فيسبوك شبكة مكونة من أكثر من 900 حساب ومجموعة وصفحة وهمية، تملك قوة التأثير في أكثر من 55 مليون أمريكي، وأغقلت تلك الحسابات في 20 ديسمبر/ كانون اﻷول.
حذرت هوليود مئات المرات من الذكاء الاصطناعي في أفلامها للخيال العلمي، ولكن يبدو أن العالم مازال يعتقد أن الأمر ليس بهذه الخطورة. وتكنولوجيا البيانات قد تكون سلاحًا حاسمًا في الصراعات السياسية، مثل الصراع الدائر منذ سنوات بين الرأسمالية الأمريكية والشيوعية الصينية، وتستخدم فيه الدولتان سلاح البيانات.
أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مقرًا بحثيًا للشركات والباحثين، الذين يستهدفون تغيير سلوك جمهور معين أو توجيهه، عن طريق تحليل التغريدات والمنشورات، لاستخلاص أفكار وتوجهات الجمهور وتحديد سلوكياته، مما يساعدهم على استخدام هذه البيانات، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، بهدف التحكم في أفكار الجمهور وتغيير اﻵراء وتوجيهها، وهذه هي الحرب العالمية الثالثة التي بدأت بالفعل؛ حرب البيانات.