لعبت نقابة المحامين، منذ تأسيسها عام 1912، دورًا محوريًا في الحركة الوطنية المصرية، وكانت منصة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في أحلك الظروف السياسية.
ربما لهذا السبب يختزل البعض نقابة المحامين في أدوارها السياسية متجاهلًا التفاعلات الداخلية بها بما في ذلك تعارض وتقاطع المصالح المهنية، هذا بعكس المحامين الذين ظلت أولوياتهم، رغم تنوع خلفياتهم السياسية، مرتبطة بقانون المحاماة المترجم لعلاقة النقابة بأجهزة الدولة وسلطتها.
إلا أن التعديل البرلماني الأخير لقانون المحاماة رقم 147 لسنة 2019، والمنشور في الجريدة الرسمية في أغسطس/ أب، أثار خلافًا بين أعضاء مجلس النقابة العامة[1]، حيث حُجب المحامون أنفسهم من الإطلاع على تفاصيله، وغاب النقاش العام بشأنه، رغم اعتباره من القوانين المكملة للدستور.
ولهذا فإن السؤال الذي يجب طرحه، في المقام الأول، ليس سؤال "أين دور نقابة المحامين في القضايا السياسية والوطنية؟"، وإنما هو "كيف نفهم التفاعلات الداخلية في نقابة المحامين وتأثيراتها؟".
ومن هذا المنظور؛ نطرح في ذلك المقال تحليلًا لقانون المحاماة وتعديلاته الأخيرة، حيث نناقش الدلالات الرمزية لهذا القانون وتعديلاته على مساحة الديمقراطية النقابية.
تاريخ تعارض المركزية مع الديمقراطية
ليست نقابة المحامين، كما نعرفها اليوم، مجرد منظمة غير حكومية أو محض رابطة طواعية بين أعضائها، وإنما تتمتع بصفة المرفق العام المهني لما تضطلع به من أدوار تنظيمية أبرزها الترخيص لأعضائها بمزاولة المهنة، كما تعد واحدة من أكبر المنظمات الديمقراطية حيث يديرها مجالس منتخبة من أعضائها.
وبخلاف تنظيم مهنة المحاماة في فرنسا الموجود بها أكثر من 50 نقابة محامين إقليمية ونوعية أبرزهم نقابة المحامين بباريس Ordre Des Avocats Du Barreau De Paris وتضم في عضويتها نحو 30 ألف محام[2] فإن الدستور المصري الحالي يحظر التعددية النقابية ويأخذ بنظام الأحادية النقابية.
بعكس النشأة التاريخية، حيث عرف تنظيم مهنة المحاماة في مصر التعددية النقابية "النوعية" منذ النصف الأول من القرن العشرين، وعملت "نقابة المحامين أمام المحاكم المختلطة" و"نقابة المحامين الأهلية" و"نقابة المحامين الشرعيين" جنبًا إلى جنب باعتبارهم نقابات محامين نوعية متعددة[3] قبل إلغاء المحاكم المختلطة ولاحقًا المحاكم الشرعية[4].
ومع احتدام الصراع بين عبد الناصر ونقابة المحامين على خلفية أزمة مارس عام 1954 حين أيدت جمعيتها العمومية موقف رئيس الجمهورية الأسبق، محمد نجيب، مطالبة بعودة الديمقراطية النيابية، أحل مجلس نقابة المحامين وعيّن مجلس مؤقت برئاسة النقيب، عبد الرحمن الرفاعي، وتعرّض لانتقادات حادة وقتها لقبوله هذا التعيين[5].
وبعد ذلك بـ 3 سنوات صدر القانون رقم 96 لسنة 1957 الذي أنهى رسميًا التعددية النقابية وأصبحت معه نقابة المحامين نقابة مركزية.
فن اللعب بالثغرات
نص القانون رقم 96 لسنة 1957 على استمرار عمل لجان المحامين الفرعية المشكلة بدائرة كل محكمة استئناف، عدا محكمة استئناف مصر، لكن هذه اللجان لم تتمتع بالشخصية الاعتبارية، وكانت اختصاصاتها محدودة وقاصرة على تمثيل النقابة العامة شكليًا في دائرة تمثيلها الإقليمية، فمن ناحية عدد محاكم الاستئناف في مصر لا يزيد عن ثمانية محاكم فحسب، ومن ناحية أخرى فإن نظام انتخاب أعضاء مجلس النقابة العامة من خلال الجمعية العمومية للمحامين أدى لعدم تحكم المحامين في انتخاب ممثليهم بدائرة كل محكمة استئناف في مجلس النقابة العامة.
وتكرر أن يفشل مرشح عن دائرة محكمة الاستئناف في كسب ثقتها لكنه يفوز بأصوات المحامين بدوائر الاستئناف الأخرى، فساهم ذلك في حصول الإخوان المسلمين على أغلبية مقاعد مجلس النقابة العامة على خلاف إرادة المحامين بأغلبية دوائر محاكم الاستئناف.
ومع تضاعف أعداد المحامين وتنوع مصالحهم النقابية والطبقية وتزايد أهمية توزيع موارد نقابة المحامين الكبيرة على أعضائها إقليميًا؛ اعترف قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 لأول مرة بالشخصية الاعتبارية لنقابات المحامين الفرعية وأصبح لها موازنة تقديرية، مستقلة نسبيًا[6]، وموارد مالية خاصة، بخلاف التمويلات المركزية التي تمثلت في نسبتها من رسوم التصديق على العقود، وهو ما جعل بعض النقابات الفرعية، مثل نقابة المحامين بالجيزة قادرة بمواردها على منافسة النقابة العامة نفسها.
لذلك، في يناير/ كانون الثاني 2019، خلال أزمة قيد المحامين، رفض عدد من النقابات الفرعية على رأسهم نقابات المحامين الفرعية في شمال الدقهلية والسويس وغرب الإسكندرية العمل بقرارات مجلس النقابة العامة بشأن شروط القيد بجداول المحامين وسداد الاشتراكات السنوية[7].
انفراجة عام 2008 والاتجاه للامركزية
أتى عام 2008 بانفراجة أصبحت خلالها أغلبية مجلس النقابة العامة للمحامين مكون من ممثلي النقابات الفرعية، وكانت نقابة المحامين على عتبة التحول لفيدرالية نقابية أو اتحاد بين نقابات المحامين الإقليمية/ الفرعية، بموجب تعديل قانون المحاماة رقم 197 لسنة 2008 الذي يسمح بتمثيل النقابات الفرعية لأول مرة من خلال انتخاب جمعيتها العمومية لممثليها في مجلس النقابة العامة.
مهّد الطريق، لتبلور مطلب تدشين "نقابة المحامين بالإدارات القانونية" كأول نقابة محامين نوعية تتمتع بالشخصية الاعتبارية وتضم في عضويتها المحامين بشركات القطاع العام وتدخل تحت لواء نقابة المحامين أو فيدرالية المحامين.
هذه الفئة النوعية من المحامين، والمتمثلة في المحامين العاملون بالقطاع العام باختلاف درجة قيدهم أمام المحاكم، لديها أجندة نقابية مطلبية مختلفة عن سائر المحامين، تتمثل في حقوقهم الوظيفية واستقلالهم من الناحية المهنية إزاء الدولة كصاحب عمل.
يشعر المحامون المستقلون بالغبن تجاه مزاحمة المحامين بالإدارات القانونية لهم في الخدمات التي يقدمها صندوق الرعاية الاجتماعية والصحية للمحامين، بالنظر لأنهم يتمتعون بالحماية التأمينية التي توفرها الدولة لموظفيها، وهو ما لا يتمتع بها المحامين المستقلين كأصحاب مهن حرة.
وبينما يري المحامين بالإدارات القانونية أنهم مهمشون داخل نقابة المحامين ومطالبهم مستبعدة من أجندة النقابة، يري المحامين المستقلين أن تأثيرهم على نتائج انتخابات النقابة تأثيرًا سلبيًا لعدم استقلالهم.
ولهذا لا يمكن استمرار المركزية النقابية على المدى الطويل لما تخلفه من أزمات تمثيل حادة.
قوانين العودة إلى الوراء
هذا النقد الذي نسوقه يكشف عن مسار تطور، وإمكانية ديمقراطية، تعكسها شبكة العلاقات الداخلية في نقابة المحامين، إلا أن هذا التطور انقطع، مرحليًا على الأقل، بعد تجاهل معالجة مسألة المحامين بالإدارات القانونية، والعودة لنظام تمثيل المحامين بدوائر محاكم الاستئناف من خلال الجمعية العمومية للمحامين[8].
وهو ما يعتبر أحد أخطر نتائج تعديل قانون المحاماة الأخير رقم 147 لسنة 2019 الذي استبعدت النقابات الفرعية من النقاش بشأنه وأقره البرلمان دون حتى أن يعرف المحامين تفاصيل وافية عن مشروعه أو محتواه قبل إصداره ونشره بالجريدة الرسمية.
صبت هذه التعديلات التي تعتبر بمثابة خطوتين إلى الوراء لصالح تكريس المركزية النقابية، مما يلقي بشكوك كثيفة حولها والغرض من إقرارها ورعاية نقيب المحامين لها.
النهاية التراجيدية للنقيب الأب
خلال أكثر من مئة عام تعاقب على رئاسة نقابة المحامين 24 نقيبًا، انتخب ثلاثة أرباعهم خلال الفترة من 1912 إلى 1952 وحدها، مما يعكس تغيير هائل في طبيعة هذا المنصب من الوظيفة التمثيلية إلى السلطة الأبوية خلال السبعة عقود الأخيرة.
أتى فوز النقيب الشاب، أحمد الخواجة، عام 1966 على النقيب المخضرم، عبد العزيز الشربجي، حدثًا محوريًا في تاريخ نقابة المحامين، كان الشربجي وفدي الميول وأحد أبرز مناصري الديمقراطية النيابية، واعتبر ومن ورائه المحامين جماعة ضغط لا يستهان بها أجبرت عبد الناصر على الذهاب لمبنى النقابة مرتديًا رداء المحاماة الأسود في إشارة لتفهمه مطالب المحامين.
بينما كان الخواجة مرشحًا مقربًا من حكومة عبد الناصر فكانت مهمة إعادة انتخابه كنقيب سنة 1971 محمولة على أكتاف المحامين بالإدارات القانونية بعد أن ضمتهم مساعيه وتفاهماته مع الحكومة إلى عضوية النقابة خلال فترة ولايته الأولى[9].
لكن الرجل أظهر، خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين، قدرة استثنائية على الصمود أمام حكومة السادات ومحاولتها التدخل في شؤون النقابة، وخلال المرحلة التي تلت اغتيال السادات كان الطريق ممهدًا أمام الخواجة لتدشين سياسة متوازنة في العلاقة ما بين نقابة المحامين وأجهزة الدولة ومؤسساتها.
وأسفرت هذه السياسة عن إصدار قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 الذي ناضل المحامين من أجل انتزاعه طويلًا. ومن بين أبرز ما تضمن هذا القانون ما جاء بالفقرة الثانية من مادته رقم 136 وهو حظر الترشح لمنصب نقيب المحامين لأكثر من دورتين متتاليتين.
وازن هذا النص بين سلطة الخواجة الأبوية على المحامين وبين أهمية تأكيد طبيعة منصب النقيب التمثيلية مع عدم السماح بتكرار تجربته الاستثنائية في تاريخ نقابة المحامين منذ إنشائها.
ورغم هذا كانت نهاية الخواجة النقابية "تراجيدية" حيث حجبت الجمعية العمومية للمحامين الثقة عنه ومجلسه سنة 1989 في حادثة غير مسبوقة. وهو ما سنعود لمناقشته لاحقًا لاسيما ما يمثله من مفارقة سقوط الخواجة وهو في مجد مقاومته لحكومة مبارك.
إحياء النقيب الأب من جديد
وبموجب تعديلات القانون رقم 147 لسنة 2019، جاء إلغاء الفقرة الثانية من المادة رقم 136 من قانون المحاماة، التي لا تسمح بانتخاب النقيب لأكثر من دورتين متصلتين، لتكون بمثابة خطوتين إلى الوراء، حيث يرسخ من جديد سلطة النقيب الأب ويستكمل رحلة البحث عن تكرار تراجيدية نقابية يصعب توقع ملامحها.
والحقيقة، لقد كان انتخاب سامح عاشور لأول مرة نقيبًا للمحامين سنة 2001، حدثًا ملهمًا ليس فحسب بالنسبة للمحامين وإنما لكافة الجمهور المهتم بالشأن العام وقتها، إذ فاز عاشور الناصري ذي الميول الديمقراطية على شيخ من شيوخ المحامين وهو رجائي عطية المدعوم من الحزب الوطني الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين معًا. وهي الانتخابات الأولى من نوعها بعد فترة طويلة من التوتر ما بين المحامين والحكومة.
ومع ذلك، كان نجاح عاشور مقيدًا بأغلبية مجلس نقابة المحامين من الإخوان المسلمين وعلى رأسهم أمين عام النقابة الأسبق، أحمد سيف الإسلام، نجل مؤسس الجماعة حسن البنا.
وكان أمام عاشور تحدي مزدوج؛ وهو إتباع سياسة الخواجة المتوازنة، المتمتعة بشعبية جارفة في أوساط المحامين، من ناحية، وأن يدير توافقًا مع جماعة صعبة المراس لها أجندتها الخاصة من ناحية أخري.
نجاح عاشور في هذا التحدي، نسبيًا، مهد له الطريق لإعادة انتخابه سنة 2005 وفق نفس المعادلة. وكان من المفترض انتهاء تجربة عاشور النقابية مع نهاية هذه الولاية الثانية إلا أن شدة التنافس بينه وبين الإخوان المسلمين، والصدام بين الحكومة والجماعة في تلك المرحلة، شجّعه على تبني مشروع تعديل لقانون المحاماة يتضمن محاولة لتقليص نفوذ الإخوان المسلمين انتخابيًا.
وبالفعل أقر البرلمان هذا التعديل بالقانون رقم 197 لسنة 2008 وهو التعديل الديمقراطي في نظام انتخابات النقابة، لكن هذا التعديل كان قد سبقه بعدة أشهر حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان انتخابات سنة 2005[10]، ومن المرجح أن يكون هذا الحكم هو ما دعى الأغلبية البرلمانية للإسراع في إقرار تعديل قانون المحاماة بمباركة عاشور لكسب أكبر تأييد لهذا القانون من المحامين، والذي عارضه نواب الإخوان في البرلمان وقتها.
ونتيجة لصدور حكم من محكمة القضاء الإداري وضعت النقابة تحت الحراسة القضائية بشكل مؤقت[11].
بعدها ترشح عاشور عمليًا لولاية ثالثة -رغم الحظر الوارد بالمادة 136 من قانون المحاماة لأن حكم إبطال الانتخابات كان من شأنه اعتبار الدورة الانتخابية 2005/ 2009 كأن لم تكن – إلا أن المفارقة المذهلة كانت فوز حمدي خليفة النقيب السابق بتلك الانتخابات بدعم الحزب الوطني الديمقراطي والإخوان المسلمين.
كان هناك انطباع لدي المحامين بأن الحزب الوطني الديمقراطي يدعم عاشور وهذا الانطباع عززته دعاية الحزب الذي تظاهر بهذا الدعم على خلاف ما يجري بالفعل، وكان هذا أحد أسباب انفضاض المحامين من حول عاشور. بينما كان خليفة مرشح الحزب الحاكم وقتها، يكسب شعبية في أوساط المحامين مستغلًا نجاحات، مبالغ في تقديرها، حققها في فترة توليه منصب نقيب المحامين بالجيزة، واستغل الإخوان المسلمين الفرصة للتخلص من عاشور ودعموا خليفة بقوة.
وانتهت هذه الانتخابات التي أدارها وفق تقديرات أحمد عز، أمين تنظيم الحزب الحاكم، في إطار خطة أوسع نطاقًا تستهدف توريث الحكم في مصر، لإقصاء عاشور وتقليص تمثيل الإخوان المسلمين في مجلس النقابة العامة ومجالس النقابات الفرعية، إلا أن بعض دلالتها كان إيجابيًا، حيث عكست رفض المحامين التماهي مع محاولة إعادة إنتاج النقيب الأب.
تقلبات ما بعد 2011
ومع اندلاع ثورة 25 يناير عام 2011 كانت هناك حالة عامة من السخط تجاه خليفة الذي اتضح سريعًا للمحامين أنهم خدعوا في حقيقته، فعارضوه بشراسة استثنائية، خاصة في ظرف كان يبدو وكأنه بداية عصر التغييرات الكبرى.
تزامن مع هذه الأحداث صدور الحكم بعدم دستورية القانون سيىء السمعة رقم 100 لسنة 1993 بشأن ضمانات ديمقراطية التنظيمات النقابية المهنية[12] وهو القانون الذي أجريت انتخابات نقابة المحامين على أساسه مما فتح المجال أمام الطعن على العملية الانتخابية برمتها. وبالفعل صدر حكم ببطلان انتخابات نقابة المحامين[13] وعلى هذا الأساس شكلت لجنة قضائية مهمتها الإشراف على انتخابات سنة 2011 التي انتخب فيها عاشور بسهولة نقيبًا للمحامين لولاية ثالثة غير متتالية[14] مع مجلس متوازن ما بين تيار عاشور "القومي" وتيار الإخوان "الإسلامي".
وفي العام التالي لانتخاب عاشور كانت الذكرى المئوية لتأسيس نقابة المحامين 1912/ 2012 وأقيم احتفال ضخم بهذه المناسبة حضره محمد مرسي، الرئيس الأسبق، المنتمي لجماعة الاخوان المسلمين. وكانت الأمور تسير في اتجاه احتمال نجاح التعايش بين عاشور والجماعة. إلا أن الأحداث السياسة تسارعت بشكل درامي وصولًا لاندلاع ثورة 30 يونيو من سنة 2013 فعزل مرسي وإطلاق مرحلة انتقالية جديدة استبعدت منها الإخوان المسلمين. وهو ما ساعد عاشور على التخلص من ممثليهم في مجلس النقابة العامة بإسقاط عضويتهم وإعادة تشكيل هيئة المكتب لأول مرة بدون مشاركتهم.
ورغم أن هذه الإجراءات قد اتخذها عاشور بترحيب من أغلبية المحامين إلا أنها مثلت نقطة تحول في طبيعة الدور الذي يلعبه في إدارة الشؤون النقابة، خاصة بعد إعادة انتخابه سنة 2015، لولاية ثانية متتالية ورابعة غير متتالية، بعد فوزه المريح على محامي الجماعة الإسلامية منتصر الزيات، مما عزز نفوذه الأبوي وانعكس على أدائه الذي اتسم بقدر كبير من التحكمية خلال ولايته الأخيرة بشكل تقلصت معه مساحة الديمقراطية النقابية.
الجمعية العمومية أم مجلس النقابة.. من يمثل المحامين؟
في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، مع تصاعد وتيرة معارضة حكومة مبارك، لعبت نقابة المحامين وعلى رأسها النقيب أحمد الخواجة، دورًا بارزًا في دعم هذه المعارضة وتبني مطالبها خاصة تلك المتعلقة بحريات الرأي والتعبير وإعادة إطلاق مسار الديمقراطية النيابية.
لم يكن هذا كاف لتهدئة معارضة الخواجة داخل نقابة المحامين خاصة مع اختلاف التركيبة الطبقية للمحامين وتزايد اهتمامهم بتوزيع موارد النقابة المالية. وهو ما أدى لسحب الثقة من الخواجة ومجلسه، سنة 1989 كما أشرنا فيما سبق.
والحقيقة أن الجمعية العمومية غير العادية للمحامين التي أسقطت الشرعية عن الخواجة، وبطريقة تراجيدية بالنظر لمكانة الرجل وتاريخه، كان ما يحركها بالأساس هو اعتراضها على ميزانية النقابة لما شابها من أوجه عوار.
ورغم أن الخواجة نجح في تأمين إعادة انتخابه لولاية ثالثة متتالية سنة 1992 بالمخالفة للقانون، إلا أن هذا تطلب حصوله على دعم الإخوان المسلمين، مقابل السماح لهم بالسيطرة على أغلبية مقاعد مجلس النقابة العامة لأول مرة، لتستمر هذه السيطرة قائمة لمدة عقدين من الزمن.
قانون تثبيت الأكتاف
وليس من باب الصدفة أن التعديل الذي ألغى حظر ترشح النقيب لأكثر من دورتين متتاليتين في التعديلات الحالية، وإعطاء حصانة إجرائية له من تحريك الدعوى الجنائية والتأديبية[15]، قد تضمن علاوة على كل هذا؛ تشديد شروط انعقاد الجمعية العمومية غير العادية للمحامين فيما يبدو احتراز من انفجار لغضب المحامين قد يجرّف معه شرعية النقيب القادم ومجلسه المتوقع انتخابهم سنة 2020.
ويشترط التعديل الأخير لقانون المحاماة طلب عقد الجمعية العمومية غير العادية لسحب الثقة من النقيب أو عضو أو أكثر من أعضاء مجلس النقابة، لصحة انعقادها أن يوقع على الطلب خٌمس عدد الأصوات التي حصل عليها النقيب أو العضو المطلوب سحب الثقة منه مصدقًا على توقيعاتهم من النقابة الفرعية المختصة ويكتمل نصابها بحضور عُشر عدد أعضاء الجمعية العمومية وتكون رئاستها في هذه الحالة لأكبر أعضائها سنًا من غير أعضاء مجلس النقابة[16].
هذا التعديل رغم وجاهة منطقه فمن شأنه عرقلة انعقاد الجمعية العمومية غير العادية للمحامين لأسباب عملية محضة.
والمفارقة أن تعديل القانون الأخير لم يمس شروط انعقاد الجمعية العمومية العادية للمحامين التي يصح انعقادها كهيئة انتخابية بحضور ثُلث أعضاء الجمعية العمومية أو ثلاثة آلاف عضو أيهما أقل[17]. بينما يشترط تعديل القانون الأخير حضور خمسة أضعاف هذا العدد الأخير على الأقل، لصحة انعقاد الجمعية العمومية غير العادية للمحامين التي تختص دون سواها بسحب الثقة من نقيب المحامين ومجلسه إذا كان لهذا ما يبرره[18].
واستغلت حكومة مبارك عزوف المهنيين عن المشاركة في انتخابات النقابات المهنية كنتيجة لشدة مركزية هذه النقابات وتعارض المصالح الطبقية لأعضائها، في محاولة عرقلة انعقاد الجمعية العمومية العادية للنقابات المهنية من خلال القانون سيىء السمعة رقم 100 لسنة 1993 وتعديلاته، حيث اشترط هذا القانون لصحة انعقاد الجمعية العمومية حضور نصف أعضائها في الجولة الأولي من الانتخابات وثلث أعضائها في جولة الإعادة. وهو ما أسفر عن وضع أغلب النقابات المهنية تحت الحراسة القضائية باستثناء نقابة الصحفيين ونقابة المحامين[19].
ورغم أن القانون 100 لسنة 1993 قد أصبح في طي النسيان حيث حكم بعدم دستوريته، إلا أن خبرة النقابات المهنية في ظل تطبيقه، توضح بما لا يدع مجالًا للشك، أن تشديد شروط انعقاد الجمعية العمومية للنقابات سواء تلك العادية أو غير العادية باسم الديمقراطية في حقيقته عمل معرقل للديمقراطية.
وعندما تكون المسألة هي حصانة مجالس النقابات المنتخبة في مقابل التخوف من الجمعية العمومية، فعلينا أن نسأل من يمثل المحامين؟ خاصة وأن ديمقراطية نقابة المحامين ليست محض ديمقراطية تمثيلية، يقتصر فيها دور الناخب على الإدلاء بصوته كل دورة انتخابية، وإنما يتعدى الأمر ذلك حيث يحق لكل ناخب – عضو بالجمعية العمومية للمحامين، المشاركة في الرقابة على عمل المجالس المنتخبة وأن يضع لها أولوية اهتماماتها طوال فترة ولايتها، بما في ذلك المشاركة في إقرار ميزانية النقابة التقديرية التي تتحكم في توزيع موارد النقابة وتحدد أوجه صرف أموالها وهو ما يعتبر شكل من أشكال الديمقراطية التشاركية Participatory Democracy، التي مارسها المحامين داخل نقابتهم على فترات متقطعة في تاريخها الطويل.
حلم الفيدرالية بعيد المنال
قد يعترض البعض على هذا من منطلق الحفاظ على التوازن بين جمعية المحامين ومجالس نقابتهم، إلا أن هذا الاعتراض يتجاهل حقيقة أن الجمعية العمومية، هيئة صاحبة اختصاص أصيل، بينما تعمل مجالس النقابة بموجب تفويض مشروط بالتزامها بالقانون من ناحية وبإرادة جمعية المحامين من ناحية أخرى، والتي من حقوقها التي لا يمكن التنازل عنها الحق في حجب الثقة عمن يمثلها.
وقطعًا يعمل اختلاف المصالح المهنية والطبقية، وتعارضها أحيانًا، على إحداث شقاق داخل جمعية المحامين حول كل قضية ومسألة تقريبًا، وتفاوت في درجة الاكتراث بأهمية المشاركة، إلا أن هذ لا يعني أنه ليس من حق الأغلبية النسبية – التي تكفي لانتخاب النقيب والمجالس– حسم هذا الخلاف لصالحها في لحظة بعينها، بالنظر لتحرك هذه الأغلبية بمساحات المصالح المختلفة.
وتظل هناك ضرورة لتقليص اختصاصات النقابة العامة تدريجيًا بما يخفف من شدة المركزية النقابية، ويصب في اتجاه تحول نقابة المحامين لفيدرالية يدخل تحت لوائها نقابات إقليمية ونوعية بما يساعد على امتصاص التوتر ما بين المصالح المختلفة والمتعارضة أحيانًا داخل النقابة ويعزز من ديمقراطيتها الداخلية.
[1] جريدة المصري اليوم بتاريخ 11 يوليه 2019
[2] Link: https://www.hg.org/bar-associations-france.asp
[3] تأسست نقابة المحامين أمام المحاكم المختلطة سنة 1876 بينما تأخر تأسيس نقابة المحامين الأهلية لسنة 1912 ولاحقًا تأسست نقابة المحامين الشرعيين سنة 1916.
[4] ألغيت المحاكم المختلطة وفق اتفاقية مونتريال سنة 1949، وألغيت المحاكم الشرعية بدورها سنة 1956 ليصبح تنظيم القضاء في مصر وطني خالص وينقسم ولائيًا إلى قضاء عادي وقضاء إداري.
[5] See: Donald M. Reid, The National Bar Association and Egyptian Politics, 1912-1954. The International Journal of African Historical Studies Vol. 7, No. 4 (1974), pp. 608-646.
[6] تنص المادة 162 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1981 على أن "يضع مجلس النقابة سنويًا موازنة تقديرية مجمعة تضم الموازنات التقديرية للنقابات الفرعية" ورغم ان المادة 160 من نقس القانون، تلزم النقابة العامة دون سواها بتعين مراقب حسابات إلا ان بعض النقابات الفرعية مثل نقابة المحامين ببورسعيد خلال الدورة النقابية 2012: 2016 في ولاية النقيب السابق صفوت عبد الحميد عينت مراقب حسابات خاص بها واضلعت جمعيتها العمومية، وفق المادة 149 من نفس القانون، بالنظر في تقرير وملاحظات مراقب الحسابات على الحساب الختامي للنقابة الفرعية".
[7] جريدة الأهرام؛ بتاريخ 18 يناير 2018.
[8] وبشكل مرتبط عدل القانون الأخير عن تمثيل المحامين بدوائر المحاكم الجزئية بمجالس النقابات الفرعية من خلال انتخاب جمعيتها العمومية لممثليها – وكان هذا النظام قد استحدث بموجب القانون رقم 197 لسنة 2008 – وهو ما من شأنه عدم تحكم المحامين بدوائر المحاكم الجزئية من انتخاب ممثليهم، ومن ثم إضعاف الديمقراطية النقابية وتقليص مساحتها ليس فحسب على مستوى النقابة العامة انما كذلك على مستوى النقابات الفرعية.
[9] انضم المحامين بالإدارات القانونية لعضوية نقابة المحامين بموجب قانون المحاماة رقم 61 لسنة 1968.
[10] محكمة القضاء الإداري بالقاهرة؛ الحكم رقم 19524 لسنة 59 ق بجلسة 10 فبراير 2008 (غير منشور).
[11] محكمة القضاء الإداري بالقاهرة؛ الحكم رقم 4369، و8704 لسنة 63 ق. بجلسة 15 يناير 2009 (غير منشور).
[12] المحكمة الدستورية العليا؛ الحكم رقم 198 لسنة 23 ق. بجلسة 2 يناير 2011 (القاهرة: الجريدة الرسمية، العدد الأول مكرر بتاريخ 8 يناير 2011) ص 3: 10.
[13] محكمة القضاء الإداري بالقاهرة: الحكم رقم 15579 لسنة 65 ق. بجلسة 6 يوليه 2011 (غير منشور)
[14] عجز الإخوان المسلمين في تلك الانتخابات عن إيجاد مرشح منافس لعاشور يمكنهم دعم ترشحه، وتفرقت أصواتهم ما بين تأييد منتصر الزيات ومختار نوح المنشق عن الجماعة.
[15] تنص المادة 103 من قانون المحاماة المعدلة بالقانون رقم 147 لسنة 2019 على "تسري أحكام قانون السلطة القضائية بشأن رجال القضاء على جميع إجراءات التحقيق أو رفع الدعوى العمومية أو التأديبية على النقيب عام للمحامين".
[16] المادة 129 من قانون المحاماة المعدلة بالقانون رقم 147 لسنة 2019.
[17] المادة 127 من قانون المحاماة.
[18] يبلغ عدد المحامين وفق قاعدة بيانات أخر جمعية عمومية انتخابية، المنعقدة سنة 2015، نحو 200 ألف محام. ومن المرجح ان ينخفض هذا العدد في الجمعية العمومية الانتخابية، المتوقع انعقادها سنة 2020، إلى نحو 150 ألف محام نتيجة لتنقية الجداول ومحو قيد عدد كبير من المحامين ونقل عدد أخر لجدول المحامين غير المشتغلين. ولهذا وفق تعديل القانون الأخير سيكون مطلوب لصحة اجتماع الجمعية العمومية غير العادية حضور نحو 15 ألف محام بينما يصح اجتماع الجمعية العمومية العادية كهيئة انتخابية بحضور 3 ألاف محام فحسب.
[19] ومع ذلك لم تسلم نقابة المحامين تمامًا من جراء تطبيق هذا القانون الذي تسبب في فرض الحراسة على نقابة المحامين بالقاهرة لعدم اكتمال نصاب جمعيتها العمومية العادية طوال فترة العمل بهذا القانون.