منذ القبض عليه في 16 أغسطس عام 1975 وحتى إعدامه عام 1989، أصبح ثيودور روبرت باندي، الشهير باسم تيد باندي، واحدًا من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الأمريكي.
لم يكن الجدل بسبب جرائمه المروعة، من قتل واغتصاب وتهشيم رؤوس ضحاياه، بل كان السبب الأساسي هو تعاطف السيدات والفتيات معه كما لو كان مطربًا ملائكي الصوت أو ممثلًا رومانسيًا وسيمًا.
فكيف تحوّل قاتل متسلسل إلى شخص يثير التعاطف والإعجاب؟
عاد باندي للواجهة مرة أخرى بعد أكثر من ثلاثين عامًا على إعدامه، عندما عرضت منصة البث الرقمي "نتفلكس" المسلسل الوثائقي "حوارات مع قاتل: شرائط تيد باندي" Conversations with a Killer: The Ted Bundy Tapes، ثم عرضت فيلم "كريه للغاية، شر وفساد صادم" Extremely Wicked, Shockingly Evil and Vile بعده بفترة قصيرة، فأعادت اسم تيد إلى الأذهان مرة أخرى، وفتحت باب التساؤلات عن قضيته وتعامل الإعلام والقضاء والجمهور معه.
حوار مع الشيطان
يتناول مسلسل "Conversations with a Killer: The Ted Bundy Tapes" قصة السبق الصحفي لـ"ستيفن ميتشود" و"هيوف أينيسورث" بعد توصلهما إلى صفقة مع القاتل المتسلسل "تيد باندي" في محبسه، تتضمن نشر قصته كيفما اختار أن يرويها في كتاب "Ted Bundy: Conversations with a Killer"، الذي تطلبت كتابته تسجيل أكثر من 100 ساعة مع القاتل المُدان.
تحدث تيد في هذه الشرائط عن طفولته وعن عائلته بحذر شديد، وبتفاديه الحديث عن جرائمه بدأ ميتشود يفكر في طريقة لخداعه ودفعه للحديث عن جرائمه بشكل آمن لا يدينه أمام القانون، بأن يحكي قصته كاملة كطرف ثالث، وهنا انطلق باندي.
تيد الحاصل على شهادة في علم النفس، بدأ يتحدث كمعلق على القضية، ويعطي رأيه في "القاتل" ويحلل شخصيته ودوافعه ويتتبع القضية من بدايتها.
احترق يا باندي
اعترف تيد باندي قبل إعدامه بأيام بقتل واغتصاب 30 ضحية تتراوح أعمارهن بين 12 و26 عامًا، هشم رؤوس بعضهن، وقطع رؤوس أُخريات، واعتدى جنسيًا على جثث بعضهن، ورمى بقايا أجسادهن في الغابات لتأكلها الحيوانات البرية.
يحكي الطبيب النفسي د. آل كارليسل، الذي ألف كتاب Violent Mind بعد عدة مقابلات مع باندي لتشخيص حالته، أن تيد استخدم جاذبيته كسلاح يستدرج به ضحاياه، وأنه تعامل مع المحاكمة ومع القضايا ضده كأنها مباراة شطرنج.
وعلى الرغم من إصراره على سلامة قوى باندي النفسية العقلية، شخّص العديد من اﻷطباء والمحللين النفسيين حالة باندي بعد وفاته، وقالوا إنه كان مصابًا بعدة أمراض، من ضمنها اضطراب ثنائي القطب، واضطراب الهوية الفصامي، واضطراب الشخصية النرجسية.
https://www.youtube.com/embed/Fi91kfUQ6hUقبل إعدامه بعدة أعوام تحدث تيد عن إدمانه للأفلام الإباحية العنيفة، والتي تطورت إلى حد عدم قدرته على التفرقة بين خياله الجنسي الجامح وبين القتل والاغتصاب والنيكروفيليا.
أما عن فيلم "Extremely Wicked, Shockingly Evil and Vile" فقد أيقظ تساؤلات عديدة عن مدى أخلاقية رسم صورة للقاتل المُغتصب بشكل رومانسي، واستغلال حب الجمهور لقصص القتلة وإثارتها لفضول المتفرج.
ولكن الحقيقة أن التعاطف مع باندي بشكل خاص لم يكن موقفًا جديدًا، فخلال محاكمته في منتصف الثمانينيات كان الإعلام يتعامل معه باعتباره ملاكًا مُتعلمًا بريئًا، وكان العديد من الصحفيين يتهافتون لتغطية أخبار محاكمته كما تتم تغطية أخبار النجوم والفنانين، مما ساهم في زيادة انجذاب العديد من الفتيات والسيدات لباندي وتسابقهن على حضور المحاكمة.
تسبب حالة اشتهاء المجرمين انجذابًا جنسيًا نحو الأشخاص الذي ارتكبوا جرائم عنيفة، مثل القتل والاغتصاب والسرقة تحت تهديد السلاح، ويفسّر بها العديد من الأطباء حالة الافتتان بباندي.
وقد استقبل تيد بالفعل، حسب سجلات السجن، مئات الرسائل والصور العارية، وحتى عروض الزواج من العديد من الفتيات والسيدات حول العالم.
وتزوج من كارول آن بون، إحدى معجباته، وأنجب منها طفلة في محبسه بعد عامين من صدور حكم الإعدام ضده.
لم تكن جاذبية باندي وذكائه ووسامته السبب الرئيسي الوحيد في اضطراب البوصلة الأخلاقية للجمهور، كان هناك سبب آخر ساهم بقوة في وقوع المزيد من الضحايا؛ العِرق.
ليس دوري لمراقبته
التعامل مع تيد باندي باعتباره الرجل الأبيض المتعلم البريء، سمح له بمستويات مروعة من الحرية أدت لهروبه المتكرر من محبسه.
في مرة هروبه الأولى، وبسبب السماح له بالبقاء في مكتبة المحكمة بدون حراسة مشددة، تمكن تيد من القفز من نافذة المكتبة، ولم يشعر أحد بهروبه إلا بعد مرور 10 دقائق مما أعطاه وقتًا للابتعاد عن نطاق المحكمة، وأصبح حرًا طليقًا لمدة 6 أيام.
في المرة الثانية صنع باندي مخرجًا في سقف زنزانته وتمكن من الزحف إلى واحدة من حجرات الحراس، ثم بدّل ملابسه وخرج ببساطة من السجن دون أن يتعرف عليه أحد، ولم يتم القبض عليه إلا بعد مرور شهر، مما أعطاه الوقت الكافي لاغتصاب وقتل ثلاث فتيات إحداهن لم يتعد عمرها 12 عامًا.
لم يكن هروب باندي الدليل الوحيد على التعامل المميز الذي تلقاه، فلم يتم تقييده عند الدخول والخروج من المحكمة، وكان مسموحًا له التحدث بحرية للإعلام، وأمر القاضي بتغيير زنزانته إلى زنزانة أفضل بإضاءة أكثر ليتمكن من القراءة.
بعد النطق بحكم الإعدام واسى القاضي تيد، مؤكدًا أنه لا يحمل أي ضغينة تجاهه وإنه كان ليحب أن يراه محاميًا بسبب براعته وذكاءه، وقال له: "اعتن بنفسك جيدًا".
لا عدالة للسود
وللمفارقة الصادمة، في يوم إعدام باندي (24 يناير 1989) نشر رجل الأعمال الشهير وقتها دونالد ترامب في صفحة إعلانية كاملة بيانًا يطالب فيه بإعدام خمس أطفال تترواح أعمارهم بين 14 و16 سنة من ذوي البشرة السمراء واللاتينيين، بعد اتهامهم باغتصاب امرأة في سنترال بارك بمدينة نيويورك.
ونعت اﻹعلام هؤلاء الصبية الإعلام بالحيوانات، وتم الاعتداء عليهم لدفعهم للاعتراف بالجريمة، وقضى بعضهم بالفعل سنوات العقوبة كاملة، بدون أي دليل حقيقي على إدانتهم وبتورط فاضح للقضاء وللمدعي العام لتلفيق التهمة، لتظهر برائتهم بعد أكثر من 10 سنوات من الحكم، بعد اعتراف المجرم الحقيقي. وتم تناول القصة في مسلسل قصير تم عرضه أيضًا على نتفلكس.
بينما رفض القضاء والإعلام الأمريكي إعطاء الفرصة لمجموعة من الأطفال للدفاع عن أنفسهم، فسرقت طفولتهم بلا ذنبٍ سوى لون بشرتهم، سمحوا لباندي بامتلاك زمام الأمور، بالسيطرة على قصته والتلاعب بهم كيفما شاء، بالحديث والمزاح والهروب. ونصب الإعلام سيركًا حوله وصفقوا لكل حركة لمساعدته في إقناع الجماهير بوجهة نظره، رغم الأدلة القاطعة على إدانته.