هناك طرفان أحدهما قويّ والآخر ضعيف. تربطهما العلاقة التالية: يحرِم القوي الضعيف من أهم حقوقه، وعلى فتراتٍ يمنحه هذا الحق بشروط تعجيزية.
استمر القوى في المنع لسنواتٍ، ولم يملّ الضعيف من المطالبة بحقه إلى أن جاء يوم وتبدلت فيه الأحوال. خاض القوى اختبارًا صعبًا نجاحه فيه مرهون بأن يُقدّم إلى الضعيف هذا الحق.
القوي هنا هو الدولة المصرية أو لنقل النظام السياسي. والضعيف هنا، على سبيل المجاز، هو جمهور الكرة الذي مُنع من حقه الأصيل في التشجيع وحضور مباريات الكرة. والاختبار الصعب هو بطولة كأس الأمم الإفريقية التي فازت مصر بتنظيمها بعد سحبها من الكاميرون، والمقرر انطلاقها في 21 يونيو/ حزيران الجاري.
منذ اللحظة الأولى، بدا سعي النظام المصري لتنظيم البطولة غريبًا، فالدولة تعادي العنصر الأهم في المنظومة الكروية وهو الجمهور. وتسلبه أهم حقوقه وتفرض عليه شروطًا مستحيلة للعودة إلى المدرجات، ومع ذلك تسعى إلى تنظيم أهم وأكبر بطولة كروية داخل القارة، وهذه البطولة لن تنجح إلا بحضور جماهيري كبير.
والأغرب أن التعنت استمر بعد الفوز بالتنظيم حيث أصرت الدولة على عدم فتح أبواب الملاعب أمام الجماهير، وأصرت أن يقتصر الحضور الجماهيري على عدد محدود وفي مباريات دون الأخرى.
الشكل الحضاري لـ 2006
منذ تنظيم كأس الأمم الإفريقية عام 2006 وحتى يومنا هذا، أي على مدار 13 عامًا، يتغنى المسؤولون والإعلاميون، وأغلبهم مسؤولين في الوقت نفسه، بشكل المدرجات خلال هذه البطولة.
ويسعى هؤلاء مع كل أزمة جماهيرية للتذكير بـ"الشكل الحضاري" الذي كانت عليه المدرجات خلال 2006، ويطالبون المشجعين بالاقتداء بإخوتهم من الجيل السابق. ويبدو الخلل الذي خلّفته هذه البطولة في مفاهيم التشجيع والشكل المثالي للمشجع عميقًا جدًا.
في عام 2005، أي قبل تنظيم هذه البطولة بعامٍ واحد. شهدت مصر حراكًا سياسيًا: تعديل دستوري ثم انتخابات رئاسية للمرة الأولى منذ يوليو 1952 فاز بها حسني مبارك باكتساح، لكن ما يعنينا في هذا السياق ليس مبارك الأب بل نجله الأصغر جمال.
كانت أسهم جمال تتصاعد بشكل واضح حينها. وبدا أن ما عُرِف بـ"مشروع التوريث" يُطبخ على نار هادئة حتى يصبح مبارك الابن جاهزًا لتسلم الراية.
كانت كرة القدم النافذة التي يحاول جمال من خلالها الظهور بشكل مكثف في الشارع المصري. وبات معتادًا في هذه الفترة أن نقرأ أخبارًا عن ولعه بالكرة وعن الدورات الرمضانية التي يشارك فيها كل عام.
ڤاترينة جمال
حين استضافت مصر كأس الأمم كانت الفرصة سانحة لآل مبارك لمحاولة زيادة شعبية الوريث. ظهر جمال وشقيقه علاء ومن خلفهما الأب والأم كأنهم رعاة للمنتخب بجهازه الفني ولاعبيه وسلطاته وبابا غنوجه.
كانت البطولة بالنسبة لهم أشبه بڤاترينة عرض كبيرة يقف خلفها جمال مبارك. الأضواء كلها مسلطة عليه وإنجازات المنتخب تنسب إليه لكنّ هذه المحاولة اصطدمت، أول ما اصطدمت، بجمهور الكرة، هذا الطرف الضعيف في المعادلة.
والسببُ أن جمال مبارك راعي الكرة المصرية لا ينتمي إلى الشريحة الكبرى من مشجعي الكرة في مصر. هو نجل رئيس الجمهورية وخريج الجامعة الأمريكية المحاط بأبناء الذوات كما يطلق عليهم. وجمهور الكرة الأصيل لا ينتمي أغلبه إلى هذه الطبقة بل على النقيض تمامًا.
كان صعبًا على الوريث الذي سعى عبر سنوات إلى رسم صورة ذهنية تستند بشكلٍ رئيس إلى الانتماء إلى الأسرة الحاكمة، والحصول على قدرٍ وفيرٍ من "التعليم النضيف" أن يقدم نفسه كبطل شعبوي أو مشجع من أبناء الدرجة الثالثة.
رفض مبارك الابن أن يخلع ولو للحظاتٍ رداءه. لم يكن أمامه إلا أن يطل على الجمهور بوجه غريب عنه. كان الحل هنا خلق جمهور بديل يحيط جمال في تحركاته الكروية ويكون على مقربة منه في المدرجات. جمهور جميل برّاق لكنّه لا يفقه أدبيات التشجيع، ولم يحضر أغلبه إلى الملاعب من قبل.
ولجذب هذه الوجوه، كان لزامًا على المنظمين رفع أسعار التذاكر. أذكر أننا قبل البطولة كنا ندفع 5 جنيهات فقط مقابل شراء تذكرة الدرجة الثالثة، وخلال البطولة رُفِع السعر إلى 20 جنيهًا (ما يعادل 4 دولارات بأسعار الصرف في 2006).
وضَمِن الارتفاع في أسعار التذاكر إقصاء نسبة كبيرة من المشجعين غير القادرين على تحملها، وغير المرغوب في تواجدهم أيضًا.
هكذا إذن تشكلت تلك الصورة غير التقليدية لجماهير الكرة في مصر. مُجرد واجهة جميلة تُزيّن مشروعًا سياسيًا يبحث عن ظهير جماهيري يدعمه، ورغم أنها وُلدت في سياق محدد إلا أنها ظلت تُستدعى حتى بعد نهاية المشروع وسجن صاحبه.
جمهور جديد
في السنة التالية للبطولة، بدأت العلاقة بين الطرفين: الدولة والجمهور تتغير بشكل جذري. لم تعد الأزمة قاصرة على شكل الجمهور والطبقة التي ينتمي إليها ومدى التفافه حول جمال مبارك.
شهد عام 2007 تشكيل روابط المشجعين (الأولتراس) في مصر. ومنذ هذا الحين تغيّر كل شيء. توارى المشجع التقليدي العفوي البسيط غير المؤدلج وظهر مشجع آخر نظاميّ منضبط يخضع لمجموعة من القواعد والأعراف والتراتبية.
ومع ظهوره تغيّرت المدرجات بشكل جذري؛ تراجعت الهتافات البسيطة المكوّنة غالبًا من كلمتين أو ثلاث وظهرت هتافات طويلة أكثر ابتكارًا وأكثر حرفية. حَرِص مؤلفوها على اختيار كلمات موزونة ومقفّاه وألحان بسيطة.
صار هناك على سبيل المثال ما يُعرف بـ"الدَخْلة" حيث تنظم الروابط شعارًا أو شعارات ترفعها لحظة دخول الفريق أرض الملعب، وهذه الدخلات يستغرق الإعداد لها فترة طويلة، ويشارك فيها آلاف من أفراد الروابط. كل منهم له دور محدد لا يحيد عنه.
التشجيع نفسه كفعلٍ مُمَيِزٍ للمدرجات اختلف. فالمشجعون الجدد لا يكتفون بالمشاهدة ثم الانفعال وفقًا لأحداث المباراة لكنهم يتقافزون ويرددون الهتافات منذ اللحظة الأولى للمباراة حتى نهايتها. اتسم أداؤهم بالاندفاع البدني وساعدهم على ذلك حداثة أعمارهم إذ كان القوام الرئيس لهم من المراهقين.
كذلك، دفعت الروابط العلاقة بين الأندية المتنافسة إلى منطقة أكثر وضوحًا وأكثر اشتعالًا. الحديث عن احترام المنافس وتقديره والروح الرياضية وما إلى ذلك ألقى جميعه في سلة المهملات، وحلت بدلًا منه طاقة غضب وعداء لا تشوبها شائبة. وصارت الاشتباكات اللفظية والبدنية أيضًا واردة بين روابط الأندية الكبرى المتنافسة، وإضافة إلى كل هذا كان الاشتباك مع قوات الأمن واردًا هو الآخر في قاموسهم.
انقلبت المعادلة
هكذا إذن أصبحنا أمام مشهد جديدٍ بالكلية. الضعيف لم يعد ضعيفًا بعد. صارت له مخالب وأنياب. والأهم من ذلك أن قاعدته الجماهيرية كانت تتسع بشكل متسارعٍ.
وذاك القوى، بعد أن كانت أزمته الكبرى تتعلق بنوع الجمهور والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها في المقام الأول، بدأ يتحسس الخطر الجديد ويتحسب له.
في تلك الفترة، أي بعد تأسيس الروابط وبداية انتشارها. حدثت صدامات مع قوات الأمن في أعقاب بعض المباريات. وبات القبض على عناصر الأولتراس ومداهمة منازل قياداتها أمرًا مكررًا.
كذلك، شنت الدولة حربًا إعلامية قوية ضد الروابط. وكان أحمد شوبير النائب بالبرلمان المصري وقتها، وعضو اتحاد الكرة والإعلامي الرياضي الشهير هو أكثر منتقديها، ودأب على الهجوم عليها في برنامجه التليفزيوني.
في هذه الأجواء الملتهبة بدأت تهبُ رياح الحنين إلى مدرجات 2006. وبدأ الحديث عن المدرجات المثالية الخالية من"التعصب والانفلات الأخلاقي" يطفو على السطح.
كثير حول جمال.. قليل حول الكرة
لم يختفِ جمال مبارك من المشهد الكروي لكنّ حضوره كان موسميًا يرتبط بتجمعات المنتخب المصري ومبارياته الرسمية. وبعد تتويج المنتخب بكأس الأمم 2008 في غانا كان لافتًا أن الوجوه المحيطة بجمال مبارك زاد عددها وتضاعف بشكل واضح. ضمت وزراءً ومسؤولين وممثلين ومطربين ومدمني شهرة في محاولة لزيادة الدعم الذي يتلقاه الوريث.
وكان الظهور الأبرز لجمال مبارك ومعه شقيقه علاء، الذي بدا منذ اللحظة الأولى بلا طموح سياسي، في التصفيات المؤهلة لمونديال 2010. شهدت الأجواء في مصر توترًا كبيرًا قبل مواجهة الجزائر الفاصلة في أم درمان. الإعلام المصري الرسمي والخاص خاض، أغلبه، حربًا قوية ضد المنتخب والجمهور الجزائري.
ما يهمنا في هذا السياق، أنه في هذه اللحظات لم يكترث المسؤولون بالجمهور، ولم يدركوا أن منتخب مصر سيواجه منافسًا قويًا وجماهيرًا متحمسّة، وأن اللاعبين سيكونون في حاجة كبيرة إلى وجود جماهير متمرّسة تدعمهم وتهتف لهم بقوة وحماس في المدرجات. كان هناك، من وجهة نظرهم، هدفًا أكبر وأسمى هو استغلال هذا الزخم والاهتمام لدعم جمال مبارك، الذي كان الفوز قطعًا سيُنسب إليه ومن خلفه شقيقه علاء والآل والأحباب. ورافق جمال إلى أم درمان الجمع الذي بدأ يلتّف حوله منذ 2006: ممثلون ومطربون وإعلاميون وساسة.. إلخ.
بعد أشهر قليلة من هذا اليوم، كان المنتخب في أنجولا يخوض منافسات كأس الأمم بعد الإخفاق في التأهل إلى المونديال عقب الهزيمة من الجزائر. وكان دعم جمال للمنتخب في هذه البطولة كبيرًا جدًا.
وعقب التتويج باللقب، كان نجل مبارك داخل غرفة خلع الملابس يحتفل مع اللاعبين بالكأس. التف الجميع حوله كأبٍ أو شقيق أكبر يهابونه، وفي لحظات الاحتفال رددوا جميعًا: "زي ما قال الريّس.. منتخب مصر كويّس".
الثورة والمواجهة والحصار
إذن في الفترة بين 2007 و2010، كان المشجعون بالنسبة للدولة هم أعضاء الروابط التي واجهتها الدولة أمنيًا وإعلاميًا، وتلك الثُلة المحيطة بجمال مبارك في تحركاته المرافقة لمنتخب مصر. وتراجع إلى الخلف المشجع البسيط التقليدي غير المؤدلج. وبعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير اختفى جمال مبارك. خرج هو ومشجعوه من المشهد تمامًا.
انتقل عقب الثورة صراع الروابط مع الأمن إلى ساحة أخرى. ساحة المظاهرات التي تكررت كثيرًا في الفترة الانتقالية خلال تولي المجلس العسكري السلطة. تسربت أفكار الروابط من المدرجات إلى الشارع ووجدت من يتلقفها. كان الشارع الملتهب تربة خصبة للروابط لتنمو أفكارها بسرعة قياسية وتكبر وتجد من يستظلُ بها. وأذكر أننا وجدنا الكثير من أنصار السياسيين والأحزاب يطلقون على أنفسهم "أولتراس فلان" في إشارة إلى تبينهم نهجًا مشابهًا لنهج الروابط في طريقة الدعم والمؤازرة.
مالت الكفة خلال عام الثورة نحو الأولتراس في صراعه مع قوات الأمن التي وجدت صعوبة في تأمين المباريات عمومًا، وفي مجابهة الروابط خصوصًا.
في إبريل 2011 ظهر أحد تجليات عدم قدرة الأمن على السيطرة على المدرجات، حين قامت الجماهير باقتحام الملعب في الدقائق الأخيرة من مباراة الزمالك أمام الإفريقي التونسي بدوري أبطال إفريقيا، فيما عُرف بـ"موقعة الجلابية".
الـ 72
في فبراير 2012، كانت نقطة التحول الأبرز في علاقة الدولة بالروابط. حين قُتل 72 من مشجعي الأهلي في أحداث بورسعيد. قبل هذه الفاجعة، كانت رابطة مشجعي الفريق الأحمر تهتف في كل مباراة ضد الداخلية وضد المجلس العسكري ورئيسه محمد حسين طنطاوي. صعّدت الرابطة وأفرادها من هجومها إلى الحد الذي جعل تلك الفاجعة تبدو كردة فعل أو محاولة لتأديب الأولتراس.
باتت الدولة مسؤولة، في عُرف أفراد الرابطة، عن مقتل المشجعين بالتدبير أو التيسير أو عدم منع حدوث الفاجعة. إضافة إلى زيادة العداء والكراهية بين جماهير الأهلي وأنصار فريق المصري إلى حدٍ غير مسبوق.
https://www.youtube.com/embed/7AXvFqvNrWQكانت هذه الحادثة تمهيدًا لمرحلة جديدة ما زلنا نعيشها حتى يومنا هذا. منذ هذه اللحظة، دخلت الكرة في مصر مرحلة شعارها الرئيس المدرجات الخاوية. وبات كل ما يتعلّق بروابط المشجعين مرفوضًا. بدأت الدولة، خاصة بعدما استعاد الأمن قبضته القوية في أعقاب 30 يونيو 2013، سعيها إلى مدرجات نظيفة خالية من التعصب ومن والهتافات المسيئة والسباب، ومن الجماهير أيضًا.
عاد النشاط وذهب الجمهور
حين عادت مسابقة الدوري للانتظام في موسم (2013-2014) بعد موسمين لم تكتمل خلالهما المنافسات، بدأت الأصوات المطالبة بعودة الجماهير تعلو على استحياء. فقدت المسابقة قدرًا كبيرًا من قوتها فنيًا وتسويقيًا، وبدت المباريات، جميعها، أقرب إلى مباريات الهواة في غياب الجماهير.
نجحت تلك المحاولات في انتزاع الموافقة مطلع عام 2015، عادت الجماهير للمدرجات لكن حدثت فاجعة أخرى حين قُتل 20 مشجعًا من أنصار الزمالك أمام بوابة استاد الدفاع الجوي بسبب "التدافع" على حد قول وزارة الخارجية، وبسبب "قنابل الغاز وسحق المشجعين" وفقًا لروايات الناجين.
عقب هذه الفاجعة، عادت المدرجات خاوية. والأهم من ذلك، أن الدولة صعّدت مواجهتها ضد الأولتراس، وسلكت أكثر من مسلكٍ، الهدف منها جميعًا هو منع الروابط من العودة إلى المشهد نهائيًا، مهما كانت تداعيات ذلك على المنافسات.
ووقف في الصفوف الأولى من هذه المواجهة مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك الذي تتهمه جماهير رابطة مشجعي الزمالك "وايت نايتس" بالتدبير لفاجعة الدفاع الجوي، في حين وقفت إدارة الأهلي موقفًا مغايرًا: رفضت الدخول في حرب ضد أفراد الرابطة واستقبلتهم في كثيرٍ من التدريبات لاحقًا.
القانون يواجه
كان الأمر بالنسبة للمسؤولين أشبه بالمعادلات الصفرية تلك التي يكسب فيها طرف كل شيء ولا يترك لخصمه أي شيء حتّى الفُتات. أصدر القضاء عقب فاجعة الدفاع الجوي بشهرٍ واحدٍ حكمًا من محكمة الأمور المستعجلة يقضي بحظر الروابط. وعكف البرلمان المصري على وضع قانون للرياضة أقره رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في يونيو 2017.
هذا القانون، الذي أجريت على بعض مواده تعديلات في فترات لاحقة، سلب الأفراد الحق في إنشاء الروابط ومنحها للهيئات الحكومية والاتحادات الرياضية فقط، وأقر أيضًا عقوبة تمزج بين الحبس والغرامة المالية على كل شخص ينظم أو ينشئ رابطة. وتتضاعف العقوبة في حال مباشرة أي نشاط يعبر عن وجود الرابطة حيث لا تقل مدة الحبس عن 3 سنوات، وتتراوح الغرامة المالية بين 100 و300 ألف جنيه مصري.. هكذا أُغلقت الطرق جميعها أمام أفراد الروابط.
في مارس 2018، عقب أحداث مباراة الأهلي مونانا التي أدت إلى اعتقال الكثير من قادة أولتراس أهلاوي، وبعضهم كان قد ترك الرابطة منذ سنوات، أعلنت الرابطة تجميد أنشطتها. وبعد شهرين فقط أعلنت عبر صفحتها الرسمية حل الرابطة نهائيًا. ورغم ذلك، لم تخل المباريات التالية للأهلي في المسابقات الإفريقية من مشجعين يتقافزون كما الأولتراس، ويهتفون هتافاتها لكن دون أن يُرفع شعار الرابطة: رحل التنظيم وبقيت الفكرة.
المشجع المثالي
كان المسؤولون يدركون جيدًا أن الجمهور سيعود للمدرجات في يومٍ ما، فلكلِ أجلٍ كتاب. لكن حتى يأتي هذا اليوم كان لابد من رسم صورة دقيقة لهذا المشجع الذي سوف نسمح بعودته مع محاولة ترسيخ هذه الصورة في الأذهان.
وهكذا صار الحديث عن التشجيع النظيف والمشجع المهذب المحترم أمرًا مكررًا على ألسنتهم. واستعادت ذاكرتهم تلك الصورة الأنيقة لمدرجات 2006 التي شهدت تواجد جمال ومحبيه وأبناء طبقته. واقترح مرتضى منصور، رأس الحربة في الهجوم على الروابط، أن يقتصر الحضور الجماهيري على أعضاء الجمعيات العمومية بالأندية فقط دون غيرهم.
في أغسطس 2018، وافقت الحكومة على عودة جزئية للجمهور إلى المدرجات. حيثُ يسمح بحضور 5 آلاف متفرج كحد أقصى في مباريات الدوري المحلي.. لكن حتى هذا القرار لم يُنفذ في جميع المباريات، خاصة بعد أن قامت جماهير الأهلي بتوجيه السباب إلى تركي آل الشيخ المالك السابق لنادي بيراميدز.
بات حضور الجمهور وغيابه يخضع بشكل مباشر للتصاريح والموافقات الأمنية. وإمعانًا في إحكام القبضة الأمنية، فضّلت وزارة الداخلية ملاعب بعينها لاستضافة المباريات. تبعد هذه الملاعب عن الكثافات السكنية يما يمنع تسلل الجمهور إليها، وما يجعل تأمينها سهلًا مقارنة بغيرها.. كملعب برج العرب الإسكندرية، وبترو سبورت بالقاهرة الجديدة.
هتافات أحيانًا
لم يعبأ المسؤولون بتداعيات هذا الأمر على المسابقات. إذ أن خوض العديد من المباريات على ملعب بعينه يؤدي إلى تهالك الأرضية، مثلما حدث في برج العرب الذي ظهر بشكل كارثي خلال مباراة القمة بين الأهلي والزمالك في الجولة 17 من الموسم الحالي. وأظهرت إحصائية أن برج العرب استضاف وقتها 47 مباراة في 8 أشهر فقط، بمتوسط مباراة واحدة كل 5 أيام.
الأهم في تلك المرحلة أن الجمهور، وللمرة الأولى منذ سنوات، عاد إلى الواجهة في ظل تراجع دور الروابط أو حضورها بشكل غير معلن، المشجع التقليدي العفوي البسيط الذي سُحب البساط من تحت قدميه منذ عام 2007. وعادت معه بعض القواعد الأولية للتشجيع من هتافات بسيطة لم تخلُ أبدًا من توجيه السباب للمنافس.
في هذه الأجواء، فازت مصر بتنظيم كأس الأمم الإفريقية بعد سحبها من الكاميرون. وظهر منذ الوهلة الأولى وجود دعم سياسي غير محدود حتى تخرج البطولة بأفضل صورة ممكنة. وبعد أن ظل الأمن يردد لسنوات أن مباريات الدوري المصري باتت عبئًا كبيرًا عليه أصبح مطالبًا، بعد 5 أشهر فقط من الفوز بالتنظيم، أن يوفر تأمينًا مثاليًا لبعثات 24 منتخبا تخوض 52 مباراة في 4 محافظات خلال شهر واحد، وبحضور جماهيري وإعلامي كثيف من جنسيات مختلفة.
تسجيل صوت الجمهور
تزامن مع الاهتمام بالتجهيزات والمنشآت والتأمين، تجاهلًا كبيرًا للجماهير. لم يلتفت المسؤولون إلى ضرورة حضور الجماهير بكثافة في مباريات الدوري كنوعٍ من الإعداد والتأهيل للبطولة. ولم ينتبهوا إلى أن غياب الجمهور عن المدرجات سنوات طويلة أثر بشكل واضح في قدرته على الدعم والتحفيز.
وأذكر هنا مثالًا مأساويًا.. في مباراة مصر والكونغو الحاسمة في التأهل إلى كأس العالم 2018، اكتفت الجماهير بدور المتفرج أغلب فترات المباراة، واعتمد المنظمون على هتاف مسجّل يتم تكراره عبر سماعات الاستاد (مصر.. مصر.. مصر) حتى يستيقظ الجمهور من ثُباته، ويدعم المنتخب.
وأذكر في سياق المقارنة، أنه حين خاض المنتخب مباراته الأخيرة في مرحلة المجموعات في تصفيات مونديال 2010 أمام الجزائر في استاد القاهرة، كان ما يقرب من 100 ألف مشجعٍ يهتفون معًا في تناغم مخيف في الدقائق الخمس الأخيرة من المباراة بجملة واحدة: "كاس العالم.. كاس العالم" حتى جاء الهدف الثاني عن طريق عماد متعب في الثواني الأخيرة.
هذا التجاهل كان مؤشرًا واضحًا على رغبة الدولة في أن يكون ذاك المشجع النظيف المُنمّق المرسومة تفاصيله بعناية، الذي دأبت وسائل الإعلام والمسؤولين الرياضيين على التغني به ومدحه وترسيخ أوصافه في أذهان المتابعين عبر سنوات، أن يكون هو الحاضر الأبرز في المدرجات خلال البطولة عمومًا، ومباريات مصر خصوصًا.
طغى مجددًا الحنين الجارف إلى مدرجات 2006 بما مثلّته من "صورة حضارية" على حد قولهم. العائلات التي لا تفقه أبجديات التشجيع التي تذهب إلى المباريات في نزهةٍ أو "خروجه"، والفتيات اللواتي يتنافسن على اجتذاب الكاميرات، ومعهم الثلة القليلة التي إن شجعت "لن تخرج عن النص" في الأغلب.
لذا، كان منطقي وبديهي أن تقوم اللجنة المنظمة للبطولة برفع أسعار تذاكر المباريات لتصل إلى 200 جنيه للدرجة الثالثة (وهو سعر الدرجة الأولى في 2006)، وتم تخفيضها لاحقًا بعد الاعتراضات لتصل إلى 150 جنيها (9 دولارات). وهذا السعر ضَمِن مجددًا، كما حدث في 2006، إقصاء الوجوه التي تحاول الدولة إبعادها بالكلية من المشهد.
وإمعانًا في التحكم ودرءًا للمخاوف الأمنية أيضًا، استُحدث نظام التسجيل الإلكتروني لحجز تذاكر المباراة، وهو النظام الذي جعل الدولة مسؤولة بشكل مباشر عن تحديد من يحضر المباريات، ومن يغيب عنها.
هكذا إذن أحكمت الدولة قبضتها على المدرجات بمواجهة الروابط ومحاربتها وسجن أفرادها، وتحييد مشجعي الكرة التقليديين الشغوفين باللعبة بتحميلهم أعباء مالية فوق طاقاتهم. وفي المقابل استنسخت جمهورًا لا يمتُ أغلبه للتشجيع بصلةٍ؛ لنصبح أمام مدرجات أنيقة جميلة بلا طعم ولا روح.