هناك من يولدون عظماء، وهناك من يجتهدون لتحقيق ذلك، وهناك من تبدو العظمة وكأنها تسعى إليهم، ومن بين هؤلاء كان سعد زغلول، مؤسس الوفد وزعيم الأمة وأول رئيس وزراء لمصر بعد استقلالها عن التاج البريطاني.
بكاريزما خاصة لم يسع إليها، حصل على القبول الشعبي الذي هيأه للزعامة دون أن يطلبها، حتى أن الجماهير كانت تهتف باسمه في المظاهرات مقرونًا بمصر، بينما كان في المنفى لا يدبر خروج المتظاهرين أو تحركاتهم، بل يعلم بأخبارهم من صحيفة التايمز التي كانت تصله في منفاه.
يقول دكتور عبدالعظيم رمضان في مقدمة تحقيقه لمذكرات سعد زغلول: "...فسعد زغلول لم يكن كأي ناظر من نظار الحكومة، وإنما كان مشروع زعيم"! أي "مشروع" الزعيم الوطني الذي قاد ثورة 1919 بشجاعة منقطعة النظير. وهو مشروع كان ينمو شيئًا فشيئًا، وتراقبه الجماهير المصرية بوعيها الباطن وهو ناظر للمعارف أولا، وهو ناظر للحقانية ثانيًا، ثم هو وكيل الجمعية التشريعية المنتخب ثالثًا، ثم أخذت تتابعه وهو يناضل بعد الحرب العالمية الأولى للحصول على حق مصر في الاستقلال. حتى إذا وجه الاحتلال إليه ضربته في 8 مارس 1919، بنفيه وبعض زملائه إلى مالطه- انفجرت الجماهير الشعبية بالغضب له".
لمحات من حياته
لا نعرف على وجه التحديد تاريخ ميلاد سعد زغلول، فيسجله عباس محمود العقاد- في كتابه "سعد زغلول زعيم الثورة"- بتاريخ أول يونيو/ حزيران 1860، بينما يقول د. عبدالعظيم رمضان إنه ولد في يوليو/ تموز 1858، وهناك من يرجح أنه ولد في 1856 أو 1859. ولكن المؤكد أن محل ميلاده في قرية إبيانه التابعة لمديرية الغربية وقتها (كفر الشيخ حاليًا) وكان والده إبراهيم زغلول عمدة القرية، ووالدته مريم ابنة الشيخ بركات، وتوفى والده وهو في السادسة فتولى الشناوي أفندي زغلول أخيه الأكبر- غير الشقيق- تربيته.
التحق سعد بمكتب القرية حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، ثم أرُسل إلى الأزهر عام 1873 لدراسة الحقوق، حيث تتلمذ على يدي جمال الدين الأفغاني، الذي شجعه على الكتابة في جريدة "التجارة" حتى غادر مصر في 1879، وبعدها توثقت علاقته بالشيخ محمد عبده، حتى أن الأخير دعاه إلى تحرير القسم الأدبي بجريدة الوقائع المصرية، بعد أن تولى رئاسة تحريرها في 1880، فترك سعد زغلول الأزهر قبل أن أن يكمل دراسته وعمل محررًا، ولم يلبث أن تم نقله إلى نظارة (وزارة) الداخلية.
دوره في الثورة العرابية
واشترك سعد زغلول في الثورة العرابية ولعب دورًا في نقل الرسائل بين الشيخ محمد عبده في القاهرة وعرابي في جبهة القتال، وكتب مقالات يحض فيها على الثورة ويدعو للتصدي لسُلطة الخديو توفيق لانحيازه إلى جانب الإنجليز. وكان نتيجة ذلك أن فصلته نظارة الداخلية فاتجه للمحاماه، التي كانت مهنة قليلة الشأن- في نظر المجتمع وقتها- لأنها لم تتطلب مؤهلا علميًا قانونيًا لمزاولتها، وارتبطت سمعتها بالاحتيال والمراوغة، حتى أن سعدًا أخفى ذلك عن المقربين منه.
واعتقلت الحكومة سعد زغلول وزميلا له في 20 يونيو 1883 تأسيس جماعة سرية باسم "جماعة الانتقام"، ورغم الحكم ببرائتهما إلا أنهما ظلا في الاعتقال أكثر من ثلاثة أشهر.
الطريق إلى الأرستقراطية
وعاد سعد زغلول لممارسة المحاماة وحقق شهرة واسعة منها، حتى أن عرضت عليه نظارة الحقانية وظيفة نائب قاضٍ بمحكمة الاستئناف عام 1892، وبعدها حرص سعد على تعلم اللغة الفرنسية والتحق بكلية الحقوق بجامعة باريس في 1896 وفي نفس العام تزوج من صفية فهمي، ابنة مصطفى فهمي باشا، رئيس مجلس النظار، ليستكمل بذلك جميع لمؤهلات التي كانت لازمة لكسر الحاجز الاجتماعي الذي كان يحول بينه وبين الدخول في الطبقة الأستقراطية، التي كانت قاصرة في معظمها على الأسر ذات الأصول التركية والشركسية. ويعتبر د. عبدالعظيم رمضان ذلك جزءًا "من كفاح الطبقة الوسطى المصرية الناشئة من أصول فلاحية لإزاحة الطبقة الأرستقراطية التركية عن مكانها".
قضى سعد زغلول في القضاء 14 عامًا حتى عام 1906 حتى وصل إلى درجة مستشار ثم عُين وزيرًا للمعارف سنة 1892 ، فقبلها، وبقي في القضاء 14 عامًا، ثم عُيِّن وزيرًا للمعارف، ثم وزيرًا للحقَّانية حتى استقال في 31 مارس 1912 وترشح للجمعية التشريعية وفاز في انتخاباتها بدعم من الحزب الوطني، ثم انتخب وكيلا للجمعية مما أهله للحديث باسم الأمة في المطالبة بالاستقلال وما تبعه من نفي السلطات البريطانية له إلى مالطة ثم عودته من المنفى تحت ضغوط الثورة المصرية، ثم نفيه مرة أخرى إلى سيشل ثم جبل طارق، وعودته مجددًا للبلاد
في قلعة بولفارستا
يذكر سعد زغلول في مذكراته منفاه الأول في قلعة بولفارستا في مالطة وما اعتراه من مشاعر فيقول "ولقد أوحشنا المكان أول نزولنا به، وكانت تخنقني العبرات كلما فكرت في حالة زوجتي، لكني كنت أستعين على قطعها بأنها- مع ذلك- أحسن حالًا مني لأنها حرة، ولا شيء في العالم يعادل الحرية في شيء، ولا يشعر بقيمتها إلا من حُرم منها كلها أو بعضها: لا يمكن لأحد من الخارج أن يكلمنا أو نكلمه! لا نكتب ما نشاء، ولا يصل إلينا من الكتابة إلا ما يشاء غيرنا! ولا نقرأ من الجرائد إلا بعضها دون البعض الآخر! فلا نقرأ الفرنساوية منها ولا الإنجليزية إلا "التيمس" (التايمز)، ولا الإيتالية إلا مالطة، ولا المصرية إلا المقطم (جريدة الاحتلال)... وعند الخروج لكل نزهة يؤخذ علينا تعهد بالكتابة بأننا لا نحاول الهرب ولا ندبره، ولا نخالط أحدًا ولا نشتري شيئًا، ولا نقرب من أحد أعداء جلالته وحلفائه".
سعد زغلول رئيسًا للوزراء
بعد وضع دستور 1923 عاد سعد زغلول من منفاه وأجريت أول أول انتخابات نيابية في مصر، التي اكتسحها حزب الوفد بنسبة 90% وبعدها طلب الملك فؤاد الأول من سعد زغلول تشكيل الوزارة، وهو ما قبله سعد ولقي بعض المعارضة إذ اعتبروه اعترافًا بتصريح 28 فبراير (إعلان استقلال مصر من جهة بريطانيا دون توقيع معاهدة تنص على الاستقلال التام).
وبدأ سعد زغلول وزارته بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين وإلغاء نفقات الجيش الإنجليزي من موازنة الدولة، إلا أنه اصطدم بالسياسة الإنجليزية في الإصرار على بقاء مندوبي الحقانية والمالية الإنجليزيين، والتعامل مع السودان كدولة منفصلة عن مصر.
وعن عيوب وزارة سعد زغلول يقول عبدالرحمن الرافعي في كتابه "في أعقاب الثورة المصرية ج1" أن "لوزارة سعد أخطاء عديدة تؤخذ عليها، فمن ذلك أنها كانت تضيق صدرًا بالمعارضة سواء داخل البرلمان أو خارجه... كان واجبًا على الوزارة أن ترحب بالمعارضة الدستورية، لأنها ولا شك عنصر هام من الحياة البرلمانية الصحيحة... وكان يضيق صدرها أيضًا بالصحف المعارضة، فتعقبتها بالاضطهاد والتحقيق والمحاكمة... ومن مظاهر حنق الوزارة على صحف المعارضة كثرة تحقيقات النيابة مع معظم هذه الصحف، وقد حوكمت جريدة السياسة على مقالات عدتها الحكومة إهانة لهيئة مجلس النواب وهيئة مجلس الشيوخ".
وتقدم سعد زغلول باستقالة حكومته في 15 نوفمبر 1924، ويرى الرافعي (المرجع السابق) أن السبب وراء الاستقالة كان بسبب تدخلات القصر وإحاطة الوزارة بالعقبات ومنها تأليب طلبة الأزهر والمعاهد الدينية وتحريضهم على التظاهر ضد الحكومة. وعدل سعد زغلول عن استقالته بعد أن وافق الملك على طلباته وهي ألا ينفرد الملك بمنح الرتب والنياشين ولا تعيين موظفي السراي، ولاعقد مخابرات مع الدول إلا بموافقة الوزارة.
ولكن بقاء سعد زغلول في الوزارة بعد توفيق الأوضاع مع الملك لم يدم أكثر من أسبوع إذ اضطر للاستقالة مجددًا، بعد اغتيال السير لي ستاك، سردار (قائد) الجيش المصري والحاكم العام للسودان، في 19 نوفمبر 1924، وإصرار بريطانيا على سحب الجيش المصري من السودان وعدول الحكومة المصرية عن أي معارضة لبريطانيا فيما يخص الأجانب، ضمن مطالب أخرى وافق عليها سعد زغلول وهي الاعتذار الرسمي، ودفع غرامة نصف مليون جنيه، وتعقب الجناه ومعاقبتهم، ومنع المظاهرات، إلا أن الحكومة البريطانية أصرت على موقفها فيما يخص السودان فتقدم سعد زغلول باستقالته في 24 نوفمبر 1924.
وفاة الزعيم
توفى سعد زغلول في 23 أغسطس/ آب 1927 وكان في السابعة والستين من عمره، وشيعت جنازته وسط حشود من الجماهير، وقرر مجلس الوزارء تكريمه بإقامة تمثالين له (بالقاهرة والإسكندرية)، وشراء منزله (بيت الأمة) وضمه إلى أملاك الدولة المخصصة للمنافع العامة، مع السماح لأرملته بالإقامه فيه مدى الحياة، وكذلك شراء المنزل الذي ولد فيه بقرية إبيانه وضمه لأملاك الدولة، وتشيد ضريح خاص له، اكتمل بناءه في 1931 ونقل جثمان سعد زغلول له في 1936 في فترة حكومة الزعيم الوفدي مصطفى النحاس.
للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف اضغط هنا.
المراجع:
- في أعقاب الثورة المصرية ثورة 1919 (الجزء الأول): عبدالرحمن الرافعي- دار المعارف
- مذكرات سعد زغلول: تحقيق دكتور عبدالعظيم رمضان: الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية
- سعد زغلول زعيم الثورة: عباس محمود العقاد- دار هنداوي للنشر