شهدت السينما المصرية في السنوات التالية على حركة يوليو 1952، صعود تيار قومي شعبي يعكس المرحلة الجديدة التي مرت بها الدولة المصرية آنذاك. تمثل هذا التيار في مجموعة من الأفلام المهمة التي كتبها وأخرجها عدد من كبار مبدعي السينما المصرية بداية من يوسف شاهين بفيلميه صراع في الوادي وصراع في المينا عام 1954، اللذان تناولا إصلاحات نظام يوليو في القطاعين الريفي والمديني. وكذلك قام الضابط السابق عز الدين ذو الفقار بإخراج فيلمي رد قلبي، وبورسعيد في عام 1957. وتوالت بعدها أفلام تحمل السردية الناصرية القومية توجها الناصر صلاح الدين ليوسف شاهين أيضًا، وهو ما وثقه كتاب "المشروع القومي العربي في سينما يوسف شاهين".
من بين تلك الأفلام العديدة، يتفرّد فيلم بورسعيد بأنه جاء كرد فعل سريع على حدث مهم، وهو العدوان الثلاثي على مصر في 1956، والذي انتهى بانسحاب ووقف إطلاق نار، بعد معارك كانت البطولات الشعبية لعموم المواطنين في بورسعيد فيها هي الأساس في مواجهة العدوان، وصولا لقرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار.
تكليف رئاسي
يحكي فريد شوقي في مذكراته التي كتبتها إيريس نظمي ونشرتها روز اليوسف بعنوان "ملك الترسو"، عن تفاصيل استدعائه لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر في ليلة مظلمة مفزعة- على حد وصفه- من ليال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وجه ناصر أمره مباشرة لفريد قائلا "إن لكم رسالة يا أهل الفن لا تقل أبدا عن رسالتنا نحن رجال الثورة. أنت شايف العدوان اللي حاصل ضد مصر، أنا عايزك تعمل فورا فيلم عن الحرب والمقاومة في بورسعيد". أخبر عبد الناصر فريد شوقي باختياره هو تحديدًا، لكونه "البطل الشعبي المحبوب". وذكر له أيضا أن الجيش والطيران سيكونا تحت أمره وأنه يريد فيلما دعائيا مضادًا للاستعمار، على غرار الفيلم السوفيتي معركة ستالينجراد.
بعد أقل من سبعة أشهر على جلاء الحرب، وفي لحظات زخم الرواية الشعبية عنها، خرج للناس الفيلم الملحمي "بورسعيد المدينة الباسلة". كتب قصة الفيلم وقام بإخراجه ضابط الحربية السابق عز الدين ذو الفقار، وقام ببطولته وحش الشاشة ذائع الصيت فريد شوقي. شارك الأخير نخبة من ألمع الممثلين آنذاك: أمينة رزق، ليلى فوزي، هدى سلطان، زهرة العلا، شكري سرحان وتوفيق الدقن وآخرون.
يبدو الفيلم للوهلة الأولى كأنه توثيقًا للحرب بتفاصيلها وجزءًا من الدعاية السياسية المصرية المضادة للاستعمار وجرائمه؛ ولكن الرحلة في مشاهد الفيلم التفصيلية وحبكتها، تجعلنا نكتشف الخطاب الذي أُريد له أن يصل للناس، في سردية تجعل السلطة التي انتهت المشاركة الفاعلة لجيشها بعد أيام قليلة من بدء المعركة، ممثلة في رأسها جمال عبد الناصر، هي البطل الذي يقود الأبطال الحقيقيين للمعركة ويوجههم ويجعل منهم أدواته في انتزاع النصر. أرادت الدولة المصرية تأريخ الحرب بإظهار ناصر كقاهر للاستعمار.
صُوِّرَت الكثير من مشاهد الفيلم في بورسعيد نفسها خلال الأيام الأخيرة من الحرب. واقتبست أكثر القصص الفدائية الواردة في الفيلم من عمليات مقاومة شعبية حقيقية ذاع صيتها في المدينة. لكن؛ وهنا تكمن المسألة، اختار صناع الفيلم تجاهل الإشارة للأبطال الحقيقيين لهذه العمليات الفدائية، ونسبوها جميعها في التخطيط والتنفيذ لبطل مُتخَيَّل هو "طُلبه" أُمباشي بالحرس الوطني (القوات الخاصة بحراسة ناصر شخصيا) ويقوم بدوره فريد شوقي. وجرى تغيير سيناريو المعركة الحقيقي لينتهي بانتصار مُتخيّل، حيث ينصب طُلبه ورفاقه كمينا للإنجليز ويقتلونهم جميعا، ثم يعلو الصوت بالهتاف "يعيش جمال عبد الناصر". بينما انتهت الحرب في الواقع بتدخل من اﻷمم المتحدة.
بطولات حقيقية وحرب وهمية
منذ بدء الحرب في 29 أكتوبر/ تشرين أول 1956، وعلى مدار أسبوع كامل، تعرضت بورسعيد -وخاصة الحي العربي بها- لقصف جوي عنيف، ومحاولات مستمرة لإنزال الجيش البريطاني بالمظلات بضاحية الجميل بغرب المدينة، حيث قاومت فرقة دفاع جوي من الجيش ومعها أفراد المقاومة الشعبية عمليات الإنزال حتى استشهدت فرقة الجيش بأكملها.
امتدت المعركة لمنطقة المناخ حيث الإمتداد الغربي لحي العرب تجاه بحيرة المنزلة. ودارت معركة ضارية بين جنود الجيش المحتل وأفراد المقاومة المدافعين عن مدينتهم، انتهت بقيام سلاح الطيران البريطاني بتدمير الحي بأكمله.
وثَّق الفن الشعبي بالمدينة متمثلا في السمسمية بطولة أبناءها في الدفاع عنها بالأيام الأول للمعركة، بالعديد من الأغاني الباقية إلى اليوم مثل سبع ليال وصبحية، وبحسب وثيقة من أرشيف وزارة الدفاع البريطانية حصلت عليها الباحثة عليا مسلم؛ لم تستطع المعدات العسكرية لقوات التحالف أن تسير بأمان بالمدينة إلا يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني، بعد أكثر من أسبوعين على بدء المعركة.
اتبع أفراد المقاومة بعد ذلك نهج العمليات السرية المتفرقة، والتي برز منها قيام "مجموعة الخمسة" باختطاف الضابط الإنجليزي أنتوني مورهاوس. كذلك قام البطل البورسعيدي محمد عسران بقتل قائد المخابرات البريطانية في بورسعيد الميجور جون وليامز بقنبلة يدوية أخفاها في رغيف خبز في منتصف ديسمبر/ كانون أول، قبل أن تنسحب القوات المعتدية في 23 من الشهر ذاته، ويعلن عيدا قوميا للمدينة.
خلال سيناريو الفيلم المتخيل يظهر مورهاوس ووليامز كشخصيتين معروفتين، يقودان بنفسيهما الحرب ضد أهل المدينة، ويستهدفهم البطل طُلبه ومجموعته واحدا تلو الآخر، على خلاف العفوية التي تمت بها العمليتان في الحقيقة.
يروي أبطال عملية خطف الضابط مورهاوس بأنفسهم ومعهم سيد عسران بأحد الأفلام الوثائقية ماذا حدث وقتها. تجمعوا معا كأصدقاء يرغبون في القيام بدور ضد القوات المحتلة، وقرروا خطف أحد الضباط الإنجليز للضغط على القيادة البريطانية للإفراج عن الأسرى"إحنا كنا قاعدين على القهوة وقولتلهم يا ولاد الفاتحة للنبي يرزقنا بحاجة سمينة"، هذا ما قاله علي زنجير أحد منفذي العملية. كانت العملية تستهدف خطف أي ضابط بريطاني، فأوقع القدر مورهاوس تعس الحظ في أيديهم.
أما رواية فيلم بورسعيد عن قتل وليامز، فيدور فيها حوار بين شخص يشتكي من قلة الحيلة وأنه لا يجد عملا لينفعل عليه وليامز "ابقى خلِّي ناصر يشغلك" فتُلقَى القنبلة ويٌطاح بالميجور البريطاني. أما الحكاية الحقيقية كما يحكيها عسران الذي أخفى القنبلة التي قتل بها الضابط الإنجليزي داخل رغيف خبز، فتثير فيضًا من مشاعر التوتر والخوف والقلق الإنسانية، وتظهر دوافعه وراء العملية وبطولته الفريدة، لتبدو معها رواية الفيلم مبتذلة للغاية. أضف لكل ذلك أن العمليتين (قتل مورهاوس ووليامز) كانتا في منتصف ديسمبر، أي بعد أكثر من شهر على احتلال المدينة بالفعل.
بمعنى آخر؛ اعتمد كاتب الفيلم على استخدام "الرموز" التي توحي للمشاهد بدلالة مباشرة. فتبدو ليلى فوزي في دور بات ذات الشعر الأشقر والعينين الملونتين ممثلة للاستعمار، في شيطنة كاملة للأجانب وقوات الاستعمار، إذ أنها تُظهِر وجه الخير والتعاطف للمصريين؛ بينما تُضمر لهم الكراهية وتحيك ضدهم المؤامرات. ويظهر توفيق الدقن في دور شيكو الحلاق اليهودي الذي يخون أهل الحي في وسط المعركة ويتحالف مع الإحتلال. في حين لا يرى المحتلون غريمًا سوى جمال عبد الناصر وممثله طُلبه، فيكون فرد الحرس الوطني طلبه وضابط البحرية فتحي مثالين على المصريين المؤمنين بسياسة ناصر ومرحلة ما بعد التأميم، وقائدا عمليات مقاومة الاحتلال.
في الفيلم يتحد الشعب بكل طوائفه رجالًا ونساءًا واطفال ورجال دين؛ كلهم تحت قيادة الجيش ممثلا في طلبه والضابط فتحي، يدورون في إطار حكاية مستوحاة من مشاهد حقيقية، تم تكييفها لتخدم هذا الهدف؛ هذه السردية دون غيرها. بالأخير تصبح المعركة وبورسعيد ذاتها رمزًا قوميًا لصمود المصريين ضد الإحتلال الأجنبي، ومُرتَكَزًا لوعي المصريين أنفسهم بقوميتهم.
الرمز والهوية
برزت أهمية "الرموز" لوعي الأمم بهويتها القومية كمدخل ثقافي في دراسات القومية الأكاديمية حديثًا في ثمانينات القرن الماضي، وعبر كتابات مدرسة الرمزية العرقية والتي كان من روادها عالم الإجتماع البريطاني أنتوني دي سميث. تطرق سميث في كتاباته للعوامل الثقافية المختلفة التي ترتكز عليها أي عرقية (إثنية) لتعبر عن هويتها القومية، وأبرز أهمية الرموز والأساطير التاريخية في الشعور بالإنتماء لأمة ما دون سواها.
في حالتنا هنا كانت معركة بورسعيد أسطورة قومية تاريخية بالفعل لحالة فريدة، وصورة رمزية لشعب متوحد بكافة عناصره في مواجهة قوى عظمى غربية، بل يحقق الانتصار عليها ويرغمها على الإنسحاب. ظل الرمز بالفعل في ذاكرة المصريين الجمعية لسنوات طويلة، وساهم في صعود تيار القومية المصرية والعربية وصورة ناصر كزعيم لهذه الأمة في السنوات التالية بشكل لافت.
ساهم الفيلم -أو بالأحرى ما يبعثه من رسائل- في نمو الروح القومية المصرية وسردية الدولة الرسمية عن الحرب. دعمت الدولة نشر الفيلم عبر آلياتها الإعلامية للجماهير، كما دعمت صناعته. وساعدت الاستعانة بكوكبة ضخمة من الممثلين أصحاب الشهرة الواسعة بين مختلف الطبقات الشعبية؛ في ترسيخ تلك الرواية عن الحرب.
لم يحقق الفيلم وقت عرضه -بعد أقل من 6 أشهر على الحرب- أرباحا تجارية، ويذكر فريد شوقي في مذكراته أنه خسر مبلغ 5000 آلاف جنيه، احتاج مجهودا كبيرا لاستردادهم من الدولة. لكن الجهاز الإعلامي الصاعد استفاد من انتشار التليفزيون الرسمي الواسع في أنحاء مصر والدول العربية، بإذاعة الفيلم ونشر سرديته عن الحرب لجمهور واسع على مدار سنوات طويلة.
ففي عصر ما قبل انتشار الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية، وحيث لم يكن للمشاهد اختيار سوى مشاهدة القنوات الرسمية المحلية؛ كان فيلم بورسعيد هو خيار السهرة الوحيد ليلة الثالث والعشرين من ديسمبر لكل عام، وتعرضه القناة الثانية بالتليفزيون الرسمي لعموم المصريين، والقناة الرابعة بمنطقة "الكنال". ويساهم العيد القومي كذكرى رسمية يحتفى بها في تجديد الذاكرة والشعور القومي كل عام.
إن هو إلا بطل واحد
تجاهل الفيلم الإشارة لأبطال المعركة بذاتهم، وتجاهل أيضا مشاهد بطولات حقيقية متعددة ولحظات صمود باهرة وبطولية قدمها أهالي بورسعيد. وتكفي الحكاية الأصلية لأن تكون نفسها سيناريو لفيلم ملحمي يحبس مشاهدوه أنفاسهم في لقطات، وتدمع عيونهم في أخرى، كمغامرة العائلات وهي تعبر البحيرة عبر قوارب خشبية فرارًا من ويلات الحرب تحت القصف، وبطولات الصيادين في تهريب الأسلحة وإخفائها، كانت هذه لتكون مشاهد سينمائية ملحمية. لكنها أيضا تم الاكتفاء بقصها سريعا في مشهد عابر، مثلما ذُكِرَت سريعا قصة الفتى مهران الذي فقد عينيه بالمعركة.
وعلى حساب تلك البطولات؛ أفرد صناع الفيلم مساحة واسعة للعديد من المشاهد التي تهدف لإبراز صورة ناصر كقائد مُلهِم للمعركة. فيبدأ الفيلم وينتهي بالغناء والهتاف الجماعي لجمال عبد الناصر.
يبدو ناصر وحده عدو بريطانيا الأول، بل تبدو الحرب والمقاومة وكأنهما يدوران لا لأجل تحرير المدينة؛ بل بغية الانتصار لاسمه وشخصه، فيهتف من يعتقلهم الإنجليز وهم تحت وطأة التعذيب "عاش جمال عبد الناصر!".
في أحد المشاهد المفتعلة وسط المعركة الدائرة يأتي قائد الجيش البريطاني برفقة نظيره الفرنسي ليطلبا من محافظ المدينة أن يسلمهما المدينة دون مقاومة، وبينما يدور الحوار يلمح ضابط الجيش البريطاني صورة ناصر معلقة خلف المحافظ لينفعل مطالبا إياه بأن ينزلها. المحافظ يرفض ويعلق "حتى لو شيلتها من هنا مش هتقدروا تشيلوها من قلب 80 مليون عربي!".
كان قرار ناصر بتأميم القناة في يوليو 1956 قرارا تاريخيا بالفعل بالنسبة لملايين المصريين ولسكان مدن القناة خاصة. وساهم التأميم في إنهاء حقبة طويلة من هيمنة بريطانيا وفرنسا على منطقة القناة وشعور أبناءئا بالغربة في وطنهم. لكن الحقيقة أن كفاح الشعب من أجل الإستقلال والشعور بالسيادة على أرضه يمتد حتى لما قبل يوليو 1952، وقبل أن يتولى ناصر ورفاقه الحكم، ويكون بذلك الشعب هو الملهم والقائد وليس العكس.
شهد منطقة القناة بين عامي 1951 و1952 معاركًا ضارية وعمليات فدائية قادها أفراد المقاومة الشعبية بمدن القناة الثلاث، ألحقت بالجيش البريطاني خسائر عديدة وأجبرته على الجلاء الكامل عن مصر في عام 1954. وفي حرب 1956 كان دفاع أبناء بورسعيد عن مدينتهم ومقاومتهم العدوان تلقائيًا واستمرارًا لكفاحهم الممتد ضد الإحتلال، ودون انتظار أي إشارة من القاهرة أو من القيادة السياسية لبدء المقاومة.
يحكي عضو مجلس قيادة الثورة حسين الشافعي في مذكراته عن زيارة سرية قام بها رفقة ناصر خلال الأيام الأولى للعدوان تفقد خلالها آليات الجيش المحطمة على الطريق بين القاهرة وبورسعيد، ويذكر الشافعي قول ناصر محبطًا "لقد هزمني جيشي"، قبل أن يصلا للإسماعيلية وهناك يجدا أفراد المقاومة الشعبية مسلحين ومستعدين لمواجهة العدوان حال وصوله لمدينتهم، ويعلما أيضا أن المقاومة الشعبية قد بدأت بالفعل في بورسعيد المحاصرة لصد العدوان عليها. ليعود ناصر للقاهرة أكثر عزما على مواصلة قضيته والدفاع عن قراره بالتأميم.
أفراد المقاومة الشعبية "سيد عسران وحمد الله وزنجير وهلال ومهران وجواد حسني وزينب ومئات آخرين"، هم أبطال المعركة الحقيقيين، وأصحاب الفضل الأكبر في الانتصار الرمزي وكل ما تلاه من زخم شعبي مصري وعربي وروح قومية صاعدة، واجهت الهيمنة الإستعمارية وألهمت شعوبا عربية وأفريقية أخرى أن تستمر في مقاومتها هي الأخرى من أجل الحرية.
وإذا كان الفيلم قد روى الحكاية بشكل مغاير واكتفى بتمجيد الرمز؛ فإن الحاجة تزداد لمصادر تاريخ أخرى غير رسمية تعيد قراءة التاريخ من وجهه نظر أخرى، تمنحنا الفرصة لسماع أصوات غفل التاريخ الرسمي عنها، فتصير الحكاية أكثر عمقا وإنسانية. حتى لا يبقى تاريخ مصر مجرد حقب تاريخية متعاقبة قام خلالها الوالي أو الخديوي أو الرئيس فلان بفعل كذا وكذا ثم جاء بعده فلان وانتصر هنا وخسر هناك وهكذا.