"لم يعد العنف مجرد قصة تحدث في منطقة ما من العالم، بل أصبح في كل مكان" يقول المخرج وكاتب السيناريو الفلسطيني إيليا سليمان لوكالة الأنباء الفرنسية، في معرض حديثه عن أحدث أفلامه "لا بدّ أنها الجنّة"، والذي فاز مؤخرًا بجائزة النقاد في مهرجان كان السينمائي في دورته السابعة والعشرين.
يقدم الفيلم، الذي يعود سليمان من خلاله للسينما بعد انقطاع دام عشر سنوات؛ رؤية لما هو عليه العالم اليوم حيث تزداد بشكل متسارع ظواهر التأمين المفرط بالتوازي مع ارتفاع حدة العنف.
في الفيديو الدعائي للفيلم نشاهد لوحات متقاطعة لحياة ثلاثة مدن: الناصرة في فلسطين المحتلة، وباريس، ونيويورك. تلك الحياة الروتينية الاعتيادية لكن بحضور فائق الخوف، يأخذ شكل إجراءات أمنية مشددة كطائرات هيليكوبتر للمراقبة، وخط التفتيش في المطار، أو يتجلى في تصرفات فردية عنيفة مثل رجال يركضون حاملين عصيّ، ونظرات مهددِّة لرجل مجهول، ومدنيون يحملون أسلحة.
بينما تظهر الشخصية الرئيسية، التي يقدمها المخرج نفسه، كشاهد يراقب ويسجل. كل ذلك على خلفية أغنية نجاة الصغيرة "بحلم معاك"، ليتناسب اللحن الرومانسي الحالم ووعود الأغنية بعالم مملوء بالحب مع تلك التي يحملها الانسان المعاصر ويسعى إليها في جنّته المدنيّة.
"لابد أنها الجنّة" خامس أفلام سليمان التي حظيت بالعرض في المهرجان الدولي الشهير، وثالث أفلامه ضمن المسابقة الرسمية؛ إذ سبق وشارك بـ "يد إلهية" 2002، و"الوقت الباقي" 2009.
شخصية واحدة لعمل طويل
الجميع ينتظر العرض العالمي لفيلم إيليا الأحدث، إذ قال الكاتب الفرنسي جيرمي فيرنيلان في مقاله عن الفيلم إن سليمان "يقترح رؤية فريدة و عالمية للعالم و للسينما. رؤية أقل تزمتًا من تلك التي يقترحها كثير من كتاب السيناريو الذين قدموا أعمالًا ممتعة هذه السنة"، واصفًا حضور سليمان "بفكاهته الشرسة، ووجوده الجذًاب؛ إنه ما تفتقده السينما العالمية الحالية بشكل حاد".
فكاهة وأناقة سليمان مشابهة لأسلوب باستر كيتون المخرج والممثل الأمريكي في عصر الأفلام الصامتة.
وكما تميزت أعمال كيتون بشجاعته في طرح مواضيع مثيرة ضمن قالب كوميدي كفيلمه كوميديا سوداء (1926) حول الحرب الأهلية الأمريكية. أيضا دقته في صناعة الموقف/ الطرفة، وأسلوبه التمثيلي الذي يعتمد على التحرك في المشهد بينما تندر تعابير الوجه في حيادية واضحة للتعامل مع الموقف، كذلك يعتمد سليمان على القصة والحبكة وطريقة الحركة في المشهد.
كما أن سليمان يصرّ على حضور حسّي كشخص، كهوية، كوجه. إذ لا يكتفي في أفلامه بالإخراج، والسيناريو، والإعداد بل يقوم بالتمثيل أيضًا، في شخصية واحدة هي إيليا سليمان الفلسطيني ابن الناصرة الذي يعيد رواية حكاياته الخاصة، أو تلك التي كان شاهدًا عليها مؤصلًا بذلك لفكرة أن أفلامه تشكل وحدة تتكامل فصولها في كل فيلم.
حكايات عادية.. بلا انقلابات
في فيلمه سجل اختفاء (1998) استعمل سليمان شخصيته الحقيقية، الأمر الذي يسمح لأفلامه بأن تحمل ذات الشحنة والطاقة التي تحملها الأفلام التسجيلية التي تؤسس جاذبيتها على عفويتها ومباشرتها، ولكن أيضا على ندرة الانقلابات الدرامية والريبة والقلق بسبب انتفاء التخطيط.
هكذا نتابع حكاية فتاة فلسطينية تبحث عن مسكن لنكتشف أنها تعمل في خلية مقاومة، لكن التصاعد الدرامي لا يذهب بعيدًا فنحن هنا أقرب للواقع البطيء العبثي، إلا أن الإحباط لايتمكن منّا فالسحر موجود حتى في مشهد إلقاء القبض عليها الذي، ولثوانٍ، يظهر كتتويج.
في المقابل يروي إيليا كيف يتابع الناس حياتهم دون التعليق على الاحتلال، أو الهم الوطني والهوية، وكأنهم متسامحون أو مستسلمون، كمشهد نوم والديه المسنين أمام إشارة نهاية إرسال التلفزيون، وهي النشيد الوطني الإسرائيلي، وصورة العلم فهل المقاومة مازالت خبيئة في مكان ما؟
يصف الناقد اللبناني هوفيك حبشيان المشروع الفني لإيليا بـ "العمل السينمائي عنده مرتبط ارتباطًا عميقًا بالتجربة الحياتية التي عاشها. بمعنى أنه لم يبتدع سيرته، بل عاشها على أوسع نطاق".
التجربة الحياتية هي جوهر مشروع سليمان الإبداعي واستخدامه لشخصيته الحقيقية في الحكايات التي يقصّها تعطي باقي التفاصيل الكثير من الواقعية والمصداقية.
طوال مشروعه الإبداعي يشترك إيليا بشكل فاعل في السيناريو والتمثيل. مقدمًا بذلك سردية خاصة لكنها لا تمنع المتلقي من التورط في علاقة مع الفيلم، فيصبح كالذي اطّلع على مذكرات يومية خاصة جدًا، فأصبحت سرّه هو الآخر، وأصبح اطلاعه عليها بمثابة تورط يجعله جزءًا منها وشاهدًا عليها.
فنحن كمشاهدين، نكاد نصدق بأنه ذات يوم خرجت الفدائية الملثمّة من لوح الهدف، وعاركت مجموعة الجنود الإسرائيليين في فيلمه يد إلهية (2002)، الذي يكاد يكون التوأم لفيلم سجل اختفاء، والذي فاز بجائزة التحكيم في مهرجان كان.
لكن حكاية المقاومة هنا تأخذ صورًا أخرى؛ فبعد المشهد الملحمي الخيالي للملثمّة المقاتلة نجده يتمثل في صور أخرى كمشهد طريف مثل الاستماع لأغنية تراثية فلسطينية بصوت عال أمام مستوطن إسرائيلي.
أو عندما يتم استعمالها للهروب من الحاجز، حيث يقوم البطل، إيليا نفسه، الذي يعيش في القدس باستغلال الخوف الذي يعيشه جيش الاحتلال. ففي محاولته الهروب من الحاجز للالتقاء بحبيبته التي تعيش في رام الله، يقوم بنفخ بالون يحمل صورة عرفات الرئيس الفلسطيني السابق فيلتهي جنود الاحتلال في خوفهم أثناء متابعة البالون الذي يصعد في الهواء ويعبر الحواجز.
حق استكمال الحكاية
أدوات سليمان السينمائية لا تتغير كثيرًا، لكن أسلوبه السردي يتحرك باطراد بطيء، مع ابتعاد أكبر عن القصص المتناثرة، وتقليص لدور الحوار الجانبي، واهتمام أكبر بالصورة و تنسيق الحركات والفواصل بين المشاهد.
في فيلمه قبل الأخير الزمن الباقي (2009) تتضح معالم مشروع سليمان السينمائي أكثر؛ إذ يتم سرد القصة بخطوط عامة دون تفاصيل، مستخدمًا في التعبير عن فكرته كادرات واسعة. كما يتصرف الممثلون بحيادية أكبر، وتتقلص اللقطات القريبة في محاولة واضحة لتفادي تصوير أية ردة فعل لوجوه الممثلين، مما يضع المشاهد في حيرة، لكنه أيضًا يمنحه حرية في تخيل مشاعر الممثلين و ردود الفعل والأثر الذي تتركه تلك التفصيلة أو غيرها على العمل كله. وهو بذلك يمنح المشاهد حق استكمال الحكاية. حق إعطاءها تصورًا آخر.
مَن يقاوم؟ المشاهِد أم المخرج؟
إيليا واعٍ لهذا السؤال، وتحدث عن هذه الطريقة في مقابلاته، وحتى في فيلمه الأخير بشكل مباشر. إذ أن واقع ما حدث ويحدث جعل الفكر الجمعي للفلسطينيين يركز على المقاومة: مقاومة الاحتلال، مقاومة تغيير اللغة، مقاومة تغيير الأسماء.
المقاومة كطريقة تفكير و تعامل مع الأحداث. فالطبيعي أن تظهر وبشكل قوي في الأعمال الإبداعية. لكن استمرار الأوضاع دون تقدم واضح ملموس، يجعل تفادي تكرار استعمال الرموز نفسها أمرًا غير هيّن.
وهو ربما ما يميز أفلام إيليا الذي لم يتفاد الواقع المعاش لكنه رواه بشهادات حياتية بسيطة: عائلة تهرب من بلدتها بعد دخول الاحتلال تاركة ورائها كل شيء حتى وجبة الطعام غير المنتهي على الطاولة. استيلاء جنود الاحتلال على الجرامافون الخاص بأبيه، واسترخائهم أثناء سماع الأسطوانة، فيتقاسم الضحية والجلاد الذوق الموسيقي نفسه. تأنيب المدير للطفل الذي يردد عبارات مناهضة لسياسات الدولة العبرية.
هذه اليوميات المقلقة لا تتوقف في مربع شيطنة الإسرائيلي؛ بل إنها تروي الألم الذي يسببه "هذا الآخر" بحيادية، تعطي مرة أخرى للمشاهد الاختيار في الحكم على الإرث المخزي للاحتلال.
هذا الأسلوب لا يناسب الجمهور الواسع المعتاد على تلقي رسائل سهلة وجاهزة، مما يجعل متابعيه محصورين في هواة السينما الذين ينتظرون منها تقديم رؤية وتمثيل دور، وليس الترفيه أو توجيه الرسائل المعلبة.
محدودية الجمهور نفسها قد تكون جزءًا من المشروع الفني لإيليا سليمان الذي يركّز على الفرد، ليس أي فرد، بل ذلك الذي لا يطمح لدور ما أو بطولة. الفرد الذي يكتفي بدور الشاهد.. المراقب.. المتأمل.
التأمل هنا هو التدبر والتفكير، وهو ما يبدو أنه قد نجح في الوصول إليه، عندما حاز الزمن الباقي على حفاوة نقدية عالمية بالرغم من أنه فيلم سياسي بامتياز، إذ استطاع تلمس حياة إنسان عادي في فلسطين المحتلة دون الوقوع في فخ تكرار تحميل القصة لأبعاد أيديولوجية تثقل روحها.
هافانا/الناصرة.. والبقاء خارج الزمن
بعد "الزمن الباقي" شارك إيليا في تجربة الإخراج المشترك مع فنانين و مخرجين عالميين؛ كبينيشيو ديل تورو، وأمير كوستوريتسا، بعنوان "سبعة أيام في هافانا" والذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، ولم يفز بأية جائزة.
لكن التجربة نفسها كانت ملهمة و مثيرة، وبحسب الكاتب جوردن مينتزر أحد مؤلفي فيلم "بيتي هيل" فقد كانت قصة إيليا أكثر القصص تماسكًا و أقواها في استعمال المشاهد المركبة دون الحياد عن أسلوبه الذي أصبح علامته الشهيرة.
أو كما قال بينيشيو ديل تورو في حديثه عن الفيلم "أشعر أن قصتي جاسبار نوي، وإيليا سليمان كانتا مثل كرزتين تزينان قطعة الحلوى".
الملفت للانتباه في هذا الفيلم، هو رأي إيليا سليمان نفسه عن الفيلم وعن دولة كوبا، وكيف أنها ذكرته بالناصرة، مدينته، حيث الحياة خارج الزمن بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية التي لا تسمح لمثل هذه المدن باللحاق بركب العولمة فبقيت في فقاعة خارج الزمن.
استطاع إيليا أن ينتقل بحكاياته عن الوطن، والحرية، والاحتلال، والاضطهاد، ويقدمها بسردية سلسة ونظرة واقعية صرفة دون التخلي عن الكوميديا وعن السحر الذي يميز العمل الابداعي.
"فلسطنة" العالم
التحدي الذي ينتظر سليمان في لابد أنها الجنّة (2019) هو قدرته على تطوير أدواته السينمائية وقدرة أفلامه على إدهاشنا مرة أخرى. وهو ما يجعلنا ننتظر بفارغ الصبر الإعلان عن مواعيد العروض العالمية لفيلمه الأخير الذي حصل على أعلى تقييم بين أفلامه، على موقع روتن توماتو.
في مقابلته مع وكالة الأنباء الفرنسية وصف سليمان فيلمه بإنه "نقد للحالة العالمية التي نعيشها. هناك شرطة في كل مكان، هناك عنف. نعيش حالة حرب غير معلنة" وهو شعور لطالما تحدث عنه سليمان منبهًا لـ"تحويل العالم إلى فلسطين كبرى" كما ذكر هوفيك حبشيان.