في بداية فيلمه The Shining الذي صدر في عام 1980، يستعرض ستانلي كوبريك على لسان البطل جاك تورانس (جاك نيكلسون) وزوجته ويندي (شيلي دوفال) مأساة عائلة دونر؛ وهم مجموعة من المستوطنين الذين خرجوا عام 1846 في قافلة تقطع الطريق من ميسوري إلى كاليفورنيا قبل أن يمنع الشتاء تقدمهم ويحاصرهم في الجبال دون إمداد، ليفقد الكل صوابه وتبدأ موجة من الجنون تجعلهم يلتهمون بعضهم بعضًا.
ستصبح هذه الحكاية الشهيرة في التاريخ الأمريكي، لاحقًا مع أحداث الفيلم، إشارة رمزية لما سيلحق بجاك، الذي سيطارد عائلته حين يُحاصر الجليد مكان عزلتهم الجديد داخل الفندق الذي يرمز إلى الولايات المتحدة، في إسقاط على العنف داخل المجتمع الأمريكي. يضع كوبريك المُشاهد أمام التساؤل الأهم؛ هل ما زال عنف الرجال الأوائل يجري في دماء رجل أمريكا في هذا العصر؟
متلازمة المستوطنين الأوائل مع جاك تورانس قد تصلح لأن تكون مدخلًا لقراءة فيلم The Ballad of Buster Scruggs، آخر أعمال الأخوين جويل وإيثان كوين، اللذين أعادا طرح تساؤل كوبريك حول عنف رجل أمريكا اليوم في أعمالهما السينمائية، باستعارة سمات سينما الغرب الأمريكي لتناول فترات زمنية متباينة، تشترك جميعها في العنف الزائد وغير المبرر، الفوضى والعدائية، البطل اللا مُبالي الذي يدين بمبادئه الخاصة ويتبع أخلاقياته الذاتية، الرجال من حملة السلاح، والحوار الثري الساخر.
أحيانًا تتحول نبرة السخرية في أفلام الأخوين إلى كوميديا سوداء تغلب على الفيلم بأكمله مثلما حدث في Fargo، وفي أحيان أخرى يمكن أن تظهر الخيول كما في فيلم ?O Brother, Where Art Thou، وهناك أفلام لم تستعر سمات سينما الويسترن فقط، بل امتدت كذلك لتشمل البيئة أو الأماكن التي تدور فيها الأحداث كما في فيلم No Country For Old Men؛ فلطالما كانت صناعة ويسترن حقيقي حلمًا يُطارد الأخوين.
ربما تحقق هذا الحلم بشكل نسبي عام 2010 من خلال فيلم True Grit، وهو إعادة إنتاج لفيلم يحمل نفس الاسم عُرض عام 1969، إلا أن التجربة رغم جودتها والنجاح الذي حققته كانت مقيدة بعض الشيء، ولم تعطِ الأخوين مساحة كافية للابتكار، مع اللقطات المستعارة من نسخة الستينيات التي أخرجها هنري هاثاواي، والحوار القادم من رواية تشارلز بورتيس المُقتبس عنها كلا الفيلمين؛ وهو ما يجعل The Ballad of Buster Scruggs تجربة فريدة في عالم الأخوين، قد تصلح كبداية للتعرف على أبرز الموضوعات والأفكار التي تطرقا لها خلال أعمالهما السابقة، بسبب بنية الفيلم القائمة على وجود مجموعة من الأفلام القصيرة المنفصلة المتصلة، التي يُكوّن الرابط بينها صورة عن فلسفة الأخوين والنزعة السوداوية بأعمالهما، والتي عبر عنها كل فيلم من الأفلام الستة تبعًا للونه الخاص.
حكايات من الغرب المتوحش
مجموعة من القصص القصيرة، كتبها الأخوان جويل وإيثان كوين قبل نحو 25 سنة، ولكن التردد والارتباك وقفا حائلًا أمام محاولات خروجها إلى النور، فظلت منسية في أحد الأدراج إلى أن تولت نتفليكس تحويل ذلك المشروع إلى فيلم سينمائي، ووفرت له توزيعًا محدودًا داخل دور العرض قبل أن يصبح متوفرًا على شبكتها منتصف الشهر الماضي. كذلك كان الفيلم ضمن الأفلام الستة التي كانت جزءً من مشاركة نتفليكس التاريخية بمهرجان فينسيا السينمائي الدولى في دورته الـ75، وفاز بجائزة السيناريو.
ستة أفلام قصيرة تدور جميعها في عالم الغرب الأمريكي من تأليف الأخوين كوين، باستثناء قصة "وادي الذهب" All Gold Canyon فهي معالجة لقصة كتبها الروائي جاك لندن، وكذلك قصة "الفتاة التي اضطربت" The Gal Who Got Rattled المستوحاة من قصة للكاتب ستيوارت إدوارد وايت.
يتناول الفيلم الأول من الأفلام الستة، والذي يحمل العنوان الرئيسي للفيلم، حكاية باستر سكراجز راعي البقر والخارج عن القانون الذي لا يوقفه حتى الموت عن الغناء، وفي الفيلم الثاني بعنوان "بجوار ألجدونز" Near Algodones، يلعب جيمس فرانكو دور راعي بقر دائمًا ما يجد نفسه أمام حبل المشنقة، أما الفيلم الثالث "تذكرة لوجبة طعام" Meal Ticket وهو من بطولة ليام نيسون، فيتناول حكاية شاب قعيد من ممثلي الفرق المتجولة يعاني تسلط مدير الفرقة التي لا تضم أي ممثلين سواه، والفيلم دراما حزينة بعكس الفيلمين السابقين اللذين غلب عليهما طابع الكوميديا.
الفيلم الرابع هو All Gold Canyon الذي يتتبع حكاية رجل يُقلق هدوء الطبيعة بحثًا عن الذهب، بينما يتناول الخامس The Gal Who Rattled حكاية فتاة تقع في الحب أثناء ارتحالها مع إحدى القوافل، لينتهي الفيلم مع الحكاية السادسة التي تحمل عنوان "بقايا الموتي" Mortal Remains، وهي حوار ممتد بين خمسة مسافرين داخل عربة تجرها الخيول، يستعرض خلاله كل منهم وجه نظره حول الحياة والموت والأخلاق.
جاءت الأفلام متصلة على مستوى التيمة الرئيسية والمغزى الأخلاقي خلفها، والذي يُشير إلى عبثية الموت وعدم عدالة الحياة بالنسبة للكثيرين، وذلك رغم عدم وجود رابط بين تلك الأفلام من ناحية السرد؛ إذ لا تظهر أي شخصية في أكثر من فيلم أو تتصل شخصيات الأفلام المختلفة ببعضها، كذلك لا تتشابه الحبكة في أي من الأفلام الستة، أو حتى يوجد رمز متكرر ظهوره خلال الأحداث.
شخصيات الأخوين غير العدمية
العنف الفردي وحمل السلاح هما ما يعرفا الشخصيات داخل عالم الأخوين، إلى جانب شيء من الحمق والطيش الذي يدعمه الحظ، وهو ما يضمن لتلك الشخصيات البقاء داخل ذلك العالم، إلا أن الحظ قد يتخلى عن تلك الشخصيات إذا جاوزت حدودها، فهناك دائمًا عواقب، وهو ما تحقق في فيلم The Ballad Of Buster Scruggs، الذي كان فيه السلاح جزءًا من حكايات أبطاله؛ فمن لم يحمل مسدسًا حمل حجرًا، كمدير الفرقة المتجولة في الحكاية الثالثة، وكذلك الحظ الذي ساعد الباحث عن الذهب في الحكاية الرابعة وخذل الفتاة في الحكاية الخامسة.
رغم سوداوية فلسفة الأخوين فيما يتعلق بعبثية الحياة فإن الأمر لا ينزلق للعدمية، وهي التي سخر منها الأخوين من قبل خلال أحداث فيلم The Big Lebowski أيضًا، ففي أحد المشاهد يمر بطل الفيلم لباوسكي/The Dude بالرجل (العدمي) المسترخي فوق مياه حمام السباحة ويعلق ساخرًا "يبدو ذلك مرهقًا!!"، وفي مشهد آخر يصرخ فيه لباوسكي الكبير كي يذهب ويبحث عن معنى لحياته.
باستثناء الحكاية الأخيرة فإن جميع شخصيات عالم The Ballad Of Buster Scruggs تبحث عن معانٍ لحياتها كل تبعًا السياق التي وضعت بداخله؛ فهناك من يبحث عن الثراء، أو الحب، وإن كانت لحظات البداية في قصته مع الموت، أو ليلة عابرة مع إمرأة، أو ضربة حظ تغير مجرى حياته، رغم أن الحكاية الأولى في الفيلم قد توحي عكس ذلك، مع وجود شخصية مثل باستر سكراجز الخارج عن القانون والذي يظهر كمن يتساوى لديه الموت بالحياة، ولكن يتضح خلال الأحداث أنه هو الآخر كان باحثًا عن عالم بلا رجال أوغاد، بل فقط أولئك الذين يلعبون البوكر بنزاهة!
أنشودة الأخوين كوين عن العبث
بعكس الأفلام الخمسة الأولى والتي كان فيها الموت نهاية محتومة، تبدأ الحكاية السادسة Mortal Remains مع جماعة من المسافرين في طريقهم بالفعل إلى العالم الآخر، وهي الحكاية التي قد تحمل بعض العدمية، في ظل وجود ثلاثة موتى من طبقات وخلفيات مختلفة، كل كان يحيا حياته وفقًا لأخلاقياته ومبادئه الخاصة، ويُوضح النقاش الدائر بينهم كيف كانت كلها قناعات تامة بالنسبة لهم، وهو ما يجعل حصد أرواحهم دون تفرقة أو أية اعتبارات ليجد الثلاثة أنفسهم جنبًا إلى جنب في المقعد الخلفي لعربة سائقها الموت دربًا من العبث، فهو يجعل ما كان يحيون به بلا قيمة، وخاصة بعد أن تنتهي الرحلة أمام نُزل هو رمز للعالم الآخر ويبدو المصير حينها مجهولاً؛ فالكل يُبدي تشكك تجاه قناعاته الحياتيه السابقة على أعتاب الآخرة.
يُعيد الأخوان كوين من خلال الحكاية الأخيرة تعريف شخصيات عالم فيلم The Ballad Of Buster Scruggs بأكمله، حيث كان الموت هو الحقيقة الوحيد في حياة الجميع رغم اختلاف المعاني التي كان يبحث عنها كل منهم والتي تنفي شُبهة العدمية، وهو ما أكده حاصد الأرواح (الرجل الأنجليزي) حين حسم الجدل الدائر بين المسافرين الثلاثة داخل العربة قائلاً أن التصنيف الوحيد للناس إما موتى أو أحياء؛ فيمكن إعادة رواية حكايات الأبطال فى الخمسة أفلام الأولى على خلفية تلك الحقيقة من خلال ذلك السؤال "كيف انتهى كل منهم؟".
الحكاية الأخيرة كذلك قد تعود بالمُشاهد إلى بداية الفيلم حيث باستر سكارجز الخارج عن القانون، وهي القصة التي يمكن ألا يتوقف عندها الكثيرين حيث أنها الأبسط والأخف دراميًا، إلا أنها المفتاح لفلسفة الأخوين، فقد كان باستر سكارجز يبحث عن عالم بلا رجال أوغاد وعثر عليه عندما "انتهى".