شاب عربي يرتدي الحطّة والعقال، تتصدّر صورته غلاف مجلته "ماي كالي" الإقليمية التي تصدر من العاصمة الأردنية عمّان، وتتبنى قضايا المثلية الجنسية، بعد انقضاء عشرة سنوات على إطلاق عددها الأول في 2007، حين كان هذا الشاب وهو مؤسسها، خالد عبد الهادي، فتى يبحث عن منفذ للتعبير عن آرائه وأفكاره، كمواطن عربي مثلي جنسيًا.
مراهق يُريد "بناء جسر" بين هويته الوطنية وميوله الجنسية، فيقرر الخوض في مغامرة كانت محفوفة بالوصم والهجوم الضاري. ففي مجتمع عربي، لم يكن الطريق مُعَبّد لانطلاق مجلته هذه "ماي كالي".
لكن، وعلى مدار عقد كامل، صمدت المجلة، ﻷنها أرادت تقديم شيء ما في مضمار مهجور إلاّ من قِلّة تُشبه مؤسسها، هذا الشاب ذي الهوية البدوية الكُردية الفلسطينية الأردنية، الذي حمل على كتفيه حلمه منذ كان مراهقًا، وحتى صار اﻵن محررًا يخصّ المنصّة بحوار عن مجلته، التي انطلقت من اﻷردن في 2007، لتصبح أول مجلة إقليمية في الوطن العربي معنية بالقضايا الجندرية والنسوية، تفتتح عقدها الثاني في 2018.
عناد وعفوية
كان خالد مراهقًا شديد الاهتمام بمطالعة الصحف والمجلات، حين قرر عام 2007 طرق أبوابها بمقالاته؛ فقابلها المحررون بنظرات تشكيك، ولو أعجبتهم...
"بتذكر مرّة وأنا صغير رحت على مجلة، وكنت كاتب موضوع عن الطلاق والوصم اللي بتعانيه الست، وقتها قعدت معي المحررة وقالتلي حلو المقال، لكن شو فهّم واحد عمره 16 سنة بواحدة مطلقة أو شو بتحس يعني؟".
يرى خالد في كل رفض دليلاً على "نوع من التناقض" ضد ما كان يحمله من "شغف"…
"كان جاي عَ بالي أكتب وأشوف التجارب الإعلامية، لكن كنت أحس بهادا الرفض، فرفض على رفض على رفض؛ وقتها خلاص قررت أفتح المجلة".
هذه هي حكاية ميلاد ماي كالي التي أراد خالد أن يكافح بها رهاب المثلية والصور النمطية عن المثليين والعابرين جنسيًا، وينشر أفكارًا عن التسامح وقبول الآخر كان فيها "نوع من التحدي والتمرد"، وكذلك العفوية...
"المجلة بدأت بطريقة كتير عفوية، ومن منطلق فرد وليس جماعة، المجلة ما بدأت بهيكلة معينة أو بطريقة استراتيجية".
فتى يُصالح اسمه
لم تكن هناك خطة للمجلة، فكل شيء عفويًا، باستثناء أمر واحد فقط…
"الإشي الوحيد اللي بقدر أقوله إنه تم دراسته هو الاسم".
مُراهق لديه مشكلة مع الملكية والخصوصية؛ فقرر إطلاق حلمه بلا شريك...
"كان عندي مشكلة نقص بالملكية الفردية. ماكنتش بقدر أحس إن فيه إشي إلي، وكنت حابب امتلك أي إشي، فمن خلال هاد الشعور كانت my".
كان للمراهق مشكلة أخرى، فهو الذي توترت علاقته منذ الصغر مع "خالد"، اسمه، فقرر التصالح معه...
"كالي اختصار لخالد. اخترته ﻷني كنت بخاف من اسمي وكتير بكرهه، الناس ما كانت تناديه بطريقة عادية، كانت تصرّخه، ماما أو مديرة المدرسة، ﻷني دايمًا كنت بحط حالي في مشاكل، فكنت لما اسمع اسمي؛ بتوتر واحس إنه خلاص فيه مشكلة".
صار للمجلة اسم ذا دلالة، خرجت من وجدان ووعي مؤسسها.
"هو التملّك، وتقبّل الاسم والشخص والهوية. وﻷن كالي بتيجي من خالد، بتقدري تحكي عن فكرة الخلود، إن أي شيء على الإنترنت خالد، أكيد الكمال والخلود لله، لكن أنا بحكي في خلود بالعالم اللي نحنا عايشين فيه".
صخب وهدوء
بداية صاخبة للمجلة بسبب طبيعتها، لكنها وللسبب نفسه كانت هادئة على مستوى المتابعة الجماهيرية...
"في فترة معينة كان بيجينا على الويبسايت من ألف لألفين قراءة كل يوم. في البداية كانت صاعقة، خصوصًا وإننا بدأنا قبل ما يكون لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير".
وبعد أعوام من العمل على تطوير المجلة من محتوى "سطحي" إلى اﻷعمق، وبعد تصحيح المسار من أجل أن "تتواصل مع المجتمع"؛ صار لماي كالي قُرّاء باﻵلاف، لكن الحذر والهدوء ما يزالان هنا…
"أغلب متابعي المجلة ظاهريًا على السوشيال ميديا يبدون من غير مجتمع الميم*، ﻷننا للأسف بنعاني في مجتمعاتنا من الوصم؛ فمجتمع الميم بيبعدوا كليًا عن الربط بالمجلة. مثلاً عندنا على إنستجرام 7 أو 8 آلاف متابع، لكن لما بنزل قصة؛ عدد المشاهدات بتكون من 10 آلاف إلى 15 ألف، يعني عندك من 5 لـ7 آلاف بيتابعوها من غير follow".
يُدرك خالد أن متابعة مجلّته أمر محفوف بما قد لا يقدر كثيرون عليه من وصم أو نبذ مجتمعي؛ فلم تغضبه القراءات السرّية من جمهور تنتصر المجلة لقضاياه وحقوقه…
"هاد مش مخيب لأمالي، بالعكس. بالنسبة لي مش مهم عدد المشاهدات مادام الأشخاص بيتابعونا. أهم شيء إن المعلومة توصل".
بل إن خالد وفريق ماي كالي، شرعوا في تبسيط الاطلاع على المجلة وضمان سريّة اﻷمر...
"كل قنواتنا open، وعلى الويبسايت الـsubscribe بينزّل أي موضوع على الإيميل من غير ما حدا يضطر يدخل على مواقع التواصل الاجتماعي".
نقلة صيفية
أمام قرار خالد هذا بإطلاق ماي كالي، قررت صحف أن "تفضحه" وتحاربه، لكنه بقي على مشروعه، ومن البداية العفوية انطلقت "ماي كالي" إلى النقلات النوعية...
"النقلة النوعية بلّشت بصيف 2009، لما قررت أكشف هويتي الجنسية. صرت لابس حطّة عربية على الغلاف، نوعًا ما بحاول ابني جسر تواصل ما بين ميولي وهويتي العربية.. حاولت أجمع بينهم".
https://www.instagram.com/p/BH2dFCGBUkt/?utm_source=ig_embed&utm_medium=loadingمن النقلة الصادمة، كان للمجلة نقلة فنية، وذلك عام 2011 حين اختلفت الأغلفة وصار لها قصصها الخاصة...
"صرنا نحط على الغلاف أشخاص بيعتبروا مشاهير في الفن البديل underground والشباب بتابعهن، وما عندهم خوف يتحدثوا بمشاكل جندرية تتعلق بالجنسانية".
نقد ذاتي
نعم هي حلمه ومشروعه، لكن حين يأتي اﻷمر للتقييم، لا يتهاون خالد في ذكر عيوب شابتها منذ 2007 وحتى 2011...
"للأسف، المواضيع اللي تناولها المنصة كانت سطحية، وما كان عندها لغة دقيقة أو دبلوماسية في الحكي".
لا يُغفل خالد في نقده، وهو الإنسان والصحفي المعني بقضايا جندرية وجنسانية، جانبًا آخر…
"ماكنش فيه تقاطعية بين المنصة والنسوية، وماكنش للست صوت أو دور في المجلة. كمان همّشت كل المواضيع المهمة واﻷساسية اللي كانت تقدر تعبّر بدور كبير فيها، مع إن كنّا بنقدر نحكي عن مواضيع الجندر والتاريخ وهوية أقليات مجتمع الميم في الوطن العربي وتاريخهم".
الآن، ينتقد خالد مجلته بأريحية وقد صار مُحررًا مُتمرّسًا لمجلة معروفة عمرها 11 عامًا، لكن في البدايات كانت الانتقادات تأتيه من آخرين…
"لما المجلة تأسست كانت تلقائية وكل شيء بيتعمل لأول مرّة؛ فكنا دايمًا كبش الفداء، كل شي بنعمله كانت الغلطة على العلن، فكان الناشطين والحقوقيين بينتقدونا، ويقولوا إن المجلة ما بتدخل بمواضيع تهم المجتمع وتحاول تغير أفكار وصور نمطية".
لكن يبقى لخالد أمام هذه الانتقادات الذاتية والحقوقية، بعض الأعذار…
"لما بدأت المجلة كان عمري 17 أو 16 سنة، ما بعرف يعني إيش جندر أو جنسانية. كل هذه المصطلحات اتعلمتها بالست سبع سنين الماضيين مش أكتر، وبالتالي كانت معلوماتي محدودة وماكنش فيه مصادر أو أشخاص أقدر أخد بنصيحتهم".
بالعربية
في 2016، كان للمجلة نقلة صيفية أخرى مهمة، وذلك حين قرر خالد إطلاق نسختها العربية، في خطوة يعترف الآن بتأخرها...
"100% نحنا متأخرين. ومرّات بفكر إنو المجلة بدأت فعلاً تعمل تغيير بآخر 2015 مش من 2007، الطريقة في طرح المواضيع والتصويرات اللي نحنا بننزلها، الأعمار اللي بنكتب معها، نحنا عادة المجلة بيتابعوها من سن 18، هلأ صارت من 16 لـ40 سنة".
https://www.instagram.com/p/BedabzWjjlS/?utm_source=ig_embed&utm_medium=loadingكانت ماي كالي على وعي بأهمية مخاطبة المجتمع بصورة عامة، بمثلييه ومغاييريه…
"نحنا بنخاطب المجتمع ككل، والمحتوي تبعي مش لازم يحسس القارئ إنه دخل على مجلة لا تعنيه أو تمثله، نحنا بنحكي بفن بديل وبقضايا مجتمعية ومعاصرة وتاريخ بالفن وقضايا نسوية".
كُرة الثلج
ككرة ثلجية صغيرة، بدأت مجلة ماي كالي بمحرر وحيد هو خالد، الذي كان يعتمد في إصدارها على ما يتعلمه في جامعة البتراء اﻷردنية عن الفنون الجميلة والجرافيك. لكن بمرور الوقت وكلما تحركت الكرة؛ كانت تكبر تدريجيًا…
"بدأت المجلة لحالي، وبعدين صار فيه كذا إعلان؛ فالناس بدأت تبعت إيميلات، بنحب نكتب ونشارك. ولما دخلت الجامعة، صرت اتعرف على مصورين، وهيك بلّش الفريق وصار للمجلة صيت".
من جديد ظهرت العفوية، لكن لم تدم لفترة طويلة…
"الآن عندنا فريق كتابي، ومرّات بنعلن على السوشيال ميديا theme العدد المقبل للي بدهن يساهموا بمقالات وصور؛ والناس بتبعت، لدرجة إننا بطلنا نخرج أمور تصويرية كتير، وحاليًا بدل ما نعمل 4 تصويرات بالشهر بنعمل تصوير واحد فقط مع قصة الغلاف؛ فصفّى (أصبح) تركيزنا على المحتوى".
يقرأ "ماي كالي" جمهور أكبر من الذي يُجاهر بمتابعتها على السوشيال ميديا. وبالمثل، يضم فريق تحريرها مَن يكشفون هويتهم ومَن يؤثرون البقاء في الظل...
"فيه ناس بتكتب وبتصور under cover، وفيه اللي بيستخدموا اسمهم بالكامل، إما ﻷنه بدهم visibility (ظهور) ومشاهدات لشغلهم، أو ﻷنهم بيكتبوا بمواضيع مادخلهاش في مجتمع الميم. ومرات نفس الكاتب يستخدم اسمه الحقيقي أو مستعار، حسب الموضوع. نحنا بنعطي الحرية للأشخاص".
بعد الجمهور والفريق، يأتي الدور على ضيوف ماي كالي، التي لم تعد في الأعوام اﻷخيرة مجلة مقتصرة على قضايا المثلية ،وعلى الرغم من أنها استضافت شخصيات عامة وفنية مثل اللبنانية ياسمين حمدان واﻷردني عزيز مرقة والسعودي الإيراني علاء وردي، إلا أن الأمر صعب بالنسبة لبعض البلدان…
"نحنا على حوار دايمًا مع فنانين علشان نصورهم أو نحاورهم، ولكن هي حسب الدولة كمان، يعني مصر كتير صعب ننزل حدا منها.. من تونس أو السودان ممكن، لكن بمصر فكرة الأجندة اﻷجنبية ونظرية المؤامرة واقعها كتير أسوأ".
أحد عشر سنةً من العمل، كان خالد حريصًا خلالهم على أمرين، اللامركزية والاستقلال بكافة صوره…
"الحدود والمركزية كانت من اﻷشياء اللي المجلة بدها تكسرها. نحنا إلنا فريق باﻷردن ومصر وتونس ولبنان. كان البعض بيعكس عليها هويتي اﻷردنية، لكن هي مجلة إقليمية وليست أردنية. شيء آخر، المجلة بدأت بـzero budget (ميزانية صفرية)، كل الموضوع تطوعي ومازال، ﻷنه كان بدنا نبعدها عن فكرة الأجندة الأجنبية".
حجب وتشويه
كان خالد حريصًا على استقلال ماي كالي وإبعاد اسمها عن الأجندات، لكن طبيعتها فرضت عليها المعارك…
"لما المنصة نزلت بالعربي، أجريت حوار مع أحد الهيئات الإعلامية، لكنه اتفبرك واﻹعلام لعبها ضدي وحرّض، فكان أن مدير هيئة الإعلام ردّ بإننا في مجتمع عربي ومسلم لا نتبنى ولا نتقبل هاد الأمر، وتم حجب المجلة في 14 يوليو/ تموز 2016. وقتها سكتنا وكملّنا شغل، وكانت المجلة موجودة والناس بتقدر توصل لها".
ظن خالد أنها معركة تنهيها حلول تكنولوجية، لكن معركة أكبر وقعت بين ماي كالي ونائبة برلمانية تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين…
"في2017، النائبة ديما طهبوب أدلت بتصريحات- خلال حوار- عن رأيها في المثليين. الناس هاجمتها بسبب ردّها؛ فنشرت صورة على صفحتها لشابين بيتزوجوا، وحكيت وقتيها إنو: هاد اللي بدكن تشوفوه باﻷردن".
لم تصمت المجلة أمام "صورة نمطية عن المثليين" حاولت النائبة تصديرها للمجتمع؛ فتصاعدت حدّة المواجهة…
"ردينا عليها بإن الصورة اللي حطيتيها لا تمثل نضال حقوق مجتمع الميم في الأردن أو الوطن العربي. وأنا لا أعتقد أن الزواج أصلا من أولويات حقوق مجتمع الميم؛ فكان ردّها إنها عملتلنا block ورفعت علينا شكوى بهيئة الإعلام، ووقتيها اﻷخبار وصارت تحكي إن ديمة طهبوب هي اللي أغلقت ماي كالي. ولما شوفنا إنها بتحاول تعمل نفسها البطلة اللي قفلت مجلة الشواذ؛ كتبنالها رسالة مفتوحة، وقدمنا ما يُثبت إننا محجوبين من 2016".
تعرضت ماي كالي لحجب وهجوم، لكن صاحبها دفع ثمنًا أكبر مقابل تحقيق حلمه...
"ماعنديش حياة شخصية خالص، ﻷنها صارت نوعًا ما في العلن، فكل خطوة باخدها بحذر. وماليش حضور شخصي على مواقع التواصل الاجتماعي، ﻷن أي شيء ممكن اعبر عنه كشخص قد ينعكس بطريقة سلبية على المجلة. ويمكن الفاتورة كمان إنه صار فيه جفا بيني وبين أهلي، ولفترات كتير طويلة ما كُنا على وئام أو اتصال".
.. ونظرة للأمام
مع كل خطوة تتقدم بماي كالي للأمام؛ ينسى خالد جزء مما مضى من مصاعب؛ ويوجه تفكيره للمستقبل، كما بدا في سعي ماي كالي لتعزيز المفاهيم الجندرية، عبر موقعها العربي…
"عندنا صفحة تسمى أ ب ميم، بداخلها إجابات للأسئلة الأكتر طرحا حول مجتمع الميم. وممكن بالمستقبل نطلق فيديو وبودكاست".
يُفكر خالد في مستقبل مجلته، لكنه في النهاية أيضًا يُفكر في اﻷهم على الإطلاق، عالم أكثر تسامحًا...
"نحنا مهتمين بالحرية والتقبّل، بدنا إن الواحد يعيش، يضلو عايش، ما ينسجن، ما يتم التعدي عليه، ما يكون فيه زواج قسري، ما يكون فيه اختفاء قسري، ما يكون فيه كل هاي الشغلات".