في إحدى المساءات اﻷخيرة لصيف 2017 ، كانت ندى تشاهد العرض المباشر لفرقة مشروع ليلى، حين رأت على مقربة منها علم الرينبو يُرفرف عاليًا. حينها امتلأ قلبها سعادة برمز "الفخر" بهويتها كمثلية جنسيًا، والقلق من عواقب غير محمودة. وكان الشعور الثاني صادقًا، فثمن رفع العلم كان هجوم إعلامي وأمني، ليتحول القلق إلى خوف لازمها لشهور من احتمالية القبض عليها، أو على سلمى، العشرينية المرتبطة معها بعلاقة حُب منذ 2014.
كان من أصداء الحفل بالفعل أن قبضت السلطات على عشرات الشباب في القاهرة والمحافظات، في حملة أمنية استمرت حتى الأسبوع الأول من شهر أكتوبر/ تشرين أول 2017، قدّرهم تقرير حقوقي بـ57 شخصًا على الأقل.
لم يكن مُراد خائفًا مثل الصديقتين، بل غاضبًا، وهو شعور ينتابه مع كل هجمة ضد المثليين، ليس فقط ﻷنه واحد منهم، بل ﻷنه شارك في التأهيل النفسي لبعض من طالتهم هجمات سابقة؛ فلمس ما تعرضوا له من أضرار نفسية ومعنوية صعب أن يبرأوا منها ولو برّئهم القضاء.
عام مرّ على حفل مشروع ليلى، ربما كان اﻷسوأ على المثليين. ومن الوارد أن تكون آثار الحفل انمحت من نفوسهم. لكن يتبقى اﻷمر أبعد من حظر فرقة فنية، أو الهجوم على حمام عمومي تغلقه السلطات بالشمع اﻷحمر.. سيتبقى الاتجاه ضد المثليين أشبه ببركان نشط، قد يؤدي في أية لحظة لهجوم مدفوع بما ينتشر عنهم من حكايات يرويها آخرون. لهذا، ولأن الحكايات أدق طالما رواها أصحابها؛ استمعت المنصّة للشباب الثلاثة- الذين تواصلت معهم عبر المبادرة المصرية للحقوق الشخصية- فكانت حكايات وصور من حياتهم، رووها ورسموها بأنفسهم.
عقدة وطيش
حين تّذكر المثلية الجنسية؛ غالبًا ما يتبعها التفسيرات المختلفة لها، وعلى رأسها فكرة "العُقدة" أو العنف الجنسي في الصغر الذي يؤدي لـ "الشذوذ" كما يُسميه البعض، وهو الافتراض الذي يرفضه مُراد "ماتعرضتش لشيء زي ده أصلًا، وده كلام خايب وغير علمي. ﻷن الميول الجنسية ليها عنصر جيني ممكن يكون من وقت ما الإنسان كان جنين".
أفادت دراسة علمية في عام 2014، بأن المثلية الجنسية قد تحدث بسبب تغيرات في الحمض النووي للإنسان، ما يعني أنها صفة بيولوجية وليست عن اختيار.
أدرك مُراد مثليته منذ كان طفلاً حسبما يذكر الآن "كنت بحب الشكل المُذكّر أكتر، وبتعلّق بالولاد والرجّالة أكتر من البنات. أنا فاكر أول قصة حب، كان عندي 8 سنين وكنت مُعجب بواحد قريبي".
بالتوازي مع الصورة النمطية عن الطفل الذي تعرّض لعنف جنسي، تظهر صورة أخرى عن "طيش المراهقة"، وهي فرضية تعرفها سلمى جيدًا "بيشوفوا الحوار كله لعب عيال ما بين البنات، أو إنهم محرومين وعايزين يفرّغوا الكبت ده".
لكنها ترد على هذا اﻷمر بما اكتشفته في مراهقتها "أنا أساسًا bisexual، فعندي أوبشن لعلاقة مع بنات وأولاد. وأنا عندي 12 سنة كانت أول علاقة في حياتي مع بنت، وكان عندي مشاعر تجاه زمايلي البنات، لكن ماكنتش فاهمة إن فيه حاجة اسمها bisexual".
بالمثل تدحض الافتراض صديقتها ندى، التي تحكي عما حدث في عُمر السابعة "اكتشفت ميولي ومشاعري، وكنت مرتاحة ومش شايفاها غلط أو عيب، لكن في المراهقة لقيت كل البنات بتتعرف على ولاد، وأنا الولاد بالنسبة لي كانوا عادي هحبهم كأصدقاء وزملاء مش أكتر. مشاعر الحب كانت أكتر ناحية البنات أصحابي".
صراعات وحيل
لم تدم اﻷمور وردية لفترات طويلة، فبعد اكتشاف المشاعر والميول الجنسية، مرّ ثلاثتهم بالتجربة الصعبة، الصراعات الداخلية التي تُنكر عليهم هذه المشاعر؛ وتدفعهم إلى حيل ومحاولات للتخلّص منها.
تسلل شعور الخزي إلى نفس ندى حين رأت زميلاتها يتّبعن النمط المقبول اجتماعيًا في المشاعر والعلاقات "اللي حسسني بده أكتر أول بنت عملت معاها علاقة، هي ماكنتش متقبلة ده؛ فعززت عندي إحساسي الخزي، وبقى فيه صراعات جوايا بعد أي شيء عاطفي يحصل بيننا".
حاولت ندى التغلب على اﻷمر؛ فاحتالت على ما تشعر به "حاولت ارتبط بشباب، أي حد بقى علشان لازم أبقى زي الناس، ما أنا كده غريبة. لكن في الحقيقة دي ماكنتش علاقات. كلها محاولات فاشلة".
كان الصراع أشد ضراوة على سلمى، حين كانت مُراهقة تميل للجنسين "ماكنتش عارفة لده اسم؛ فكنت بقول إني كده إنسانة جشعة مثلاً أو عندي رغبة كبيرة مش عارفة أشبعها. ماكنتش فاهمة أنا lesbian ولا straight؛ فدخلت في علاقات مع ولاد، لكن لا كنت مرتاحة ولا بقدر أكمّل، لحد ما اتخطبت، وفجأة بعد سنة فوقت واتخضيت، لقيت نفسي مش قادرة استحمل، واتورطت ورطة فظيعة".
علاج المثلية في الجامع
مع مراد، كان للصراع الداخلي مراحل عديدة "عشت في مقاومة طول فترة المراهقة تقريبًا. كنت متزمت دينيًا وبمارس كراهيتي لنفسي على اللي حواليا، لدرجة إني كنت بضغط على أختي تلبس الحجاب. كنت بحس بذنب، وإن اللي أنا فيه ده لعنة، وكنت أوقات أقرر إني مش هعمل كده تاني ولا أبص لواحد عاجبني؛ فاحس إني نضيف، بس من جوايا حاسس إني و**، علشان فيه حاجة جوايا".
في زمن مراهقة مُراد، حيث التسعينيات، لم يكن العالم عرف تطبيقات المواعدة أو الدردشة، وكان معدّل علاقاته مرّة كل بضع سنين، ولا تستمر إلاّ ليومين بعدهما يلجأ الفتى لوسائل "التنضيف" المختلفة "بعدها ببقى فعلاً محتاج أنضف، ويلا نصلي أو نعمل عُمرة ولاّ نروح الجامع نقعد مع شيخ. كنت سلفي لمدة 7 سنين تقريبًا".
لم يكن مُراد ليجروء على مصارحة شيخه بما في نفسه، كان يكتفي بما يغلبه من انفعالات أمامه "دي حاجة ماكنتش بتكلم فيها حتى مع نفسي. كنت أروح للشيخ أعيّط وأقوله أنا عملت حاجة وحشة قوي ربنا مش هيسامحني عليها.. ده أخري يعني. مش هروح لشيخ في جامع وأقول له أنا بحب راجل".
اقرأ أيضًا: مترجم | المسلمون وتاريخ من التسامح مع المثلية الجنسية
علاج المثلية في عيادة
من المساجد إلى العيادات، سارت الرحلة بمُراد "روحت لدكتور نفسي، وعملت علاج بالتنويم، وطبعا ماجبش أي نتيجة". وكلما مرّ الوقت؛ كان الضرر أكبر "اكتشفت إني بعيش علاقات حُب وهمية مع نفسي. مفيش حد gay حواليا، فكنت أحب شاب straight وأتعذب بعلاقة مفيش منها أمل ولا ليها مستقبل، مُجرد أحلام لعلاقة وهمية. وكنت بتعذب أكتر وأنا شايفهم بيرتبطوا، طيب أنا فين؟ فقررت إني أروح لدكتورة مشهورة علشان تعالجني من الشذوذ".
لجأت ندى لما لجأ إليه مراد؛ فكانت النتيجة صادمة لها "روحت لدكتورة نفسية، أول ما عرفت إني مثلية؛ بدأت تقول بطريقة غير مباشرة إن حالتي النفسية السيئة سببها مثليتي، وادتني كتاب لعلاج المثلية الجنسية، ولما قولتلها إنها مش مرض، كان ردها إن فيه منّها كده وفيه كده".
في عام 1973، أعلنت الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين أن المثلية الجنسية ليست مرضًا عقليًا، واتخذت منظمة الصحة العالمية الخطوة نفسها بنفي الاضطراب العقلي عن المثليين، في يوم 17 مايو/ أيّار 1990، والذي حوّلته اﻷمم المتحدة فيما بعد إلى يوم عالمي للتسامح مع المثلية الجنسية.
المصالحة
لم تعاود ندى زيارة تلك الطبيبة، وجدت لها بديلة لم تحدثها أبدًا بلوم أو بتوجيه في أمر مثليتها، ولم يستغرق اﻷمر وقتًا طويلاً حتى تصالحت الشابة مع ميولها. أما شريكتها سلمى، فبعد إنهائها خطبتها كررت محاولاتها للتعرف على شباب، حتى انتهى اﻷمر بعلاقة "مُريحة" مع فتاة.
لكن مُراد بقيت آماله معقودة على الطبيبة الشهيرة لمدة 4 أشهر، هي الفترة بين الحجز وموعد زيارتها. كان يعُوّل عليها في أن "يعيش ويمشي زي ما المجتمع ماشي"، وذلك بعلاج يجذبه للفتيات "قولت لنفسي أمي هتفرح بيا لو اتجوزت وخلّفت. وكنت بالسذاجة إني فاكر لما أروح لدكتور، هيقول لي خُد الحباية دي وهتبقى straight".
كان مراد، في تلك المرحلة، قد تعرف على ميوله لكنه بتصالح منقوص ومشروط "كنت لسه عايز أتغير علشان ماكنش عندي حد يساندني. طبعًا مش قايل لحد، ولما بعرف إن فلان ده gay؛ كان ممكن أقابله مرّة ويحصل بيننا حاجة، بس مش ممكن نبقى صحاب"، قالها مُراد بلهجة مثيرة للتساؤل "هل كنت تنظر لهم نظرة دونية؟"، فكان رده دون تردد "آه طبعا.. ولنفسي".
الحط من الذات أو حتى كراهيتها ليس شعورًا غريبًا على مجتمع المثلية، ومراد ليس الوحيد الذي كان يشعر به، فالأمر ليس جديدًا، بل إن البعض قد يصل به هذا الشعور حدّ إيذاء الآخرين.
قبل حلول موعده مع الطبيبة الشهيرة بأسبوعين فقط، تعرّف مراد على شريك؛ فتبدّلت اﻷحوال "ماروحتش، وبيتهيألي إن دي النقطة اللي فيها وصلت للثقة في قناعاتي وهويتي وميولي الجنسية".
هم والآخرون
انتهى الصراع الداخلي في نفوس الثلاثة، وصاروا متصالحين مع ميولهم. لكن هل سيجدون التصالح نفسه من المحيطين بهم؟ هل من اﻷساس سيغامرون ويفصحوا عن اﻷمر؟
"فيه ناس صحابنا عارفين"، تقول ندى التي كانت حريصة على إخفاء اﻷمر تمامًا "بخاف يتمارس ضدي تمييز. يعني كان بيحصل إن بعد ما أصحاب بيعرفوا؛ بلاقيهم بيقلقوا ولما أسلّم عليهم بيرفضوا يحضنوني أو يبوسوني، وبيتخضوا لو مسكت إيديهم".
ما تعرّضت له ندى يُسمّى رٌهاب المثلية الجنسية أو الهوموفوبيا، والذي يعني في تعريفه البسيط "الخوف من الوجود بالقرب من مثليين"؛ ما قد ينجم عنه تصرفات غير ودّية تجاههم.
اقرأ أيضًا: "قناعات" مصر الراسخة تعارض استحداث منصب أممي يحمي المثليين
وعلى الرغم من ردود الفعل "الحذرة" والمتشككة من البعض، تصف ندى نفسها بـ "المحظوظة"، ولهذا الوصف سببًا "أول واحدة عرفت كانت صديقتي من الإعدادية. لما اكتشفت ودخلت في صراعات مع نفسي هي كانت أكتر حد بيهوّن عليا، ورغم إنها straight، لكن كانت دايمًا تقول لي love is just love. عمرها فعلاً ما قالت لي غلط ولا عيب ولا حرام".
صراع الإعلان والسكوت
تتحسّب ندى من رد الفعل، أما سلمى فلا تُمانع الدخول في "صراع كبير"، انتصارها فيه سيكون رهينة أمر مهم "لازم أكون مستقلة ماديًا وعندي بيت علشان ماكونش مضطرة أفضل مع عيلتي، خصوصًا وإنهم ممكن يعاملوني وحش أو يعملوا فيّا حاجة، يقولوا إني اتجننت مثلاً ويدخّلوني مصحة، خصوصًا إن مصر فيها ما يُسمّى علاج الشذوذ الجنسي، ودكاترة كبار بيشتغلوا فيه".
كان مراد يعاني غياب الدعم، والآن صار لديه داعمين "أصحابي كلهم عارفين دلوقتي وبيدعموني". لكن المصارحة كشفت للشاب اتجاهات أخرى "فيه نوعين من اﻷشخاص، نوع عنده فضول يفهم حتى لو اتصرف معايا بطريقة homophobic عن عدم وعي، دول بناقشهم وبحاول أوصل معاهم لنقطة. والنوع التاني بيبقى فاهم يعني إيه homosexual، لكن بيتكلم ويتصرف بطريقة تهين المثليين، باعتبار إنهم أقل منه. دول ببعد عنهم".
أطلق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في عام 2013، أول حملة توعية عالمية عامة، تهدف إلى رفع مستوى الوعي والاحترام والمساواة للمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية.
أعلن مُراد ميوله لأصدقائه، لكن اﻷمر ما يزال طي الكتمان بالنسبة لأسرته "كل يوم بفكر اصارحهم ﻷني حاسس إني هفهم نفسي أكتر لما يعرفوا، لكن اللي مانعني هو أمي، طبعًا مش هتتقبل والموضوع هيضغطها نفسيًا، وأنا حاسس إنها بتكبر ونفسي إنها تبقى مرتاحة أكتر ماتتحطش في مشاكل، طالما أنا عارف أدير حياتي بطريقة كويسة.
جزء من "حُسن الإدارة" كانت دراسة مراد للجندر؛ والتي جنّبته ووالدته مشقّة المصارحة "ميولي من حاجات قليلة في حياتي مش محتاج فيها دعم أمي. وبصراحة مش هقدر اعلّمها كل اللي اتعلمته، أنا أخدت سنين علشان أحب نفسي، فمش هقدر أروح لحد تاني حتى لو كان أمي اللي هي أكتر حد بيحبني وأدخّلها في دايرة إنك هتكرهيني شوية لحد ما أعلّمك إزاي تحبيني. مش قادر.. مش هعمل معاها كده".
على الحافّة
على الرغم من التصالح مع النفس، والتعامل اليومي مع الآخرين بما لا يُثير أية شكوك، إلاّ أن المخاوف تبقى ضيفًا ثقيلاً على حياة الثلاثة، وبصورة تجعلهم كواقف على الحافة بين منطقتي اﻷمان والخطر، خاصة مع أي هجمة ضد المثليين.
"مع أي خبطة باب بحس بخطر، بخاف لو اتقبض عليّا وروحت قسم. طيب هتعامل إزاي؟ مش قادرة أتخيّل. بيتهيأ لي لو اتقبض عليا هقول إني غلطانة وإن معاهم حق في إني مريضة ولازم أتعالج، بس يفرجوا عني" تقول ندى التي يُشكل قسم الشرطة أكبر هواجسها. أما سلمى فالاحتياط دفعها لاتخاذ قرار يضمن السلامة النسبية "لو حصل هجمة مش هنتضامن، ﻷن حصل وإن ناس تضامنت واتقبض عليهم، مع إنهم straight".
لا يوجد قانون مصري يُجرّم المثلية الجنسية صراحة، لكن مواد قانوني العقوبات ومكافحة الدعارة، بمواد تتحدث عن "الفجور، والأخلاق والآداب العامة"، وفقًا لما ذكره استبيان عالمي تصدره منظمة ILGA المعنية بحقوق المثليين وعابري الجنس.
على العكس من الصديقتين؛ لا يخاف مراد. "بحس بالغضب. كان فيه خوف قبل كده، بس أنا من بعد هجمة باب البحر وأنا عندي غضب وحزن، علشان أنا اشتغلت على إعادة تأهيل ناس ناجين منها. الناس دي اتكسرت هُما وأهلهم، ﻷن معظمهم من مجتمعات بسيطة ماينفعش يبقى فيها كلام في الموضوع ده".
يتعامل مراد مع خوفه، هكذا قال، بل وفعل حين رحل عن مصر، لاجئًا إلى أوروبا "سافرت وانتظمت فترة في برنامج اللجوء، كنت متحمس إني مش هرجع مصر تاني، لكن لما اتقبلت وجه وقت إني أسلّم باسبوري للمسؤولين في بلد اللجوء، قررت اسحب ورقي وأرجع. ليه؟ علشان حاجات كتير قوي منها الحنين لمصر ولأهلي، وإني كنت حاسس إني بهرب من حاجة مش لازم أهرب منها".
يصمت الشاب قليلاً، قبل أن يقول في ختام حكايته "دي حاجة مش لازم أهرب منها.. إحنا ناس زي كل الناس.. إحنا من نفس الكوكب".
*الأسماء الواردة في القصة مستعارة