نشر هذا التقرير بموقع أوزي للأخبار
المبني المزركش الشبيه بالمستعمرات، في الحارة المحتشدة بالحركة يتناسب مع طراز الحي تمامًا. يمكن للزائرين الدخول دون الحاجة للعبور بنقاط تفتيش أمنية أو حواجز- صار من المألوف رؤيتها حول العالم مع ارتفاع معدلات الهجمات المسلحة. كُنيِّس "موسمياه يشوا" هو الكُنيس اليهودي الوحيد في يانجون ميانمار، أبوابه مفتوحة على الدوام؛ ما يشكل مصدر فخر ليهود المدينة، وأغلبيتها من البوذيين.
هذا الإحساس بالأمن لم يكن دومًا مسلمًا به بالنسبة للمجتمع اليهودي في يانجون. في عام 1910، استطاع المجتمع اليهودي أن يدفع بأحد أعضائه ليصير أول عمدة يهودي في المدينة. لكن بعد الاحتلال الياباني في 1941، حامت شكوك اليابانيين حول اليهود، واعتبروهم يتجسسون لصالح البريطانيين، وتم إرسال بعضهم لمعسكرات اعتقال تشبه معسكرات النازي.
العديد من اليهود فروا وقتها، ومن تبقوا؛ فر أغلبهم لاحقًا بعدما قامت الحكومة الوطنية بتأميم الممتلكات الخاصة في 1960. ولكن مع قرار الحكام العسكريين الانفتاح على العالم منذ سبع سنوات؛ عاد أكثر من 80 يهوديًا مغتربًا كي يساعد في إعادة بناء الدولة والمساعدة في دمجها مع العالم؛ وكذلك إعادة إعمار ذلك المعبد الصغير بعدما كان تعداد اليهود في المدينة قد تقلص إلى 10 أفراد.
ورغم أن عدد هؤلاء اليهود العائدين كان صغيرًا جدًا؛ إلا أنه يمثل جزءًا من ظاهرة باتت تتكرر في العديد من المدن حول العالم.
في الوقت الذي يواجه فيه أبناء المجتمعات اليهودية في باريس ونيويورك ومانشستر تهديدات متزايدة، هناك ميلاد جديد يحدث في يانجون وعدد من المدن الأخرى مثل أوبرتو في البرتغال وباليرمو في إيطاليا وبرايتون في انجلترا وكاركاو في بولندا، وهي أماكن كاد الوجود اليهودي فيها يتلاشى.
العام الماضي، مجتمع يهودي صغير مكون من أقل من 50 شخص افتتحوا أول كنيس في باليرمو منذ أكثر من 500 عام. في برايتون، حيث جاءت العائلات اليهودية الأولى في القرن الـ19، وحيث انهار تعداد المجتمع من 10 آلاف يهودي في التسعينات إلى النصف تقريبًا الآن، فإن الجهود تتواصل لخلق مساحات جديدة للممارسات الدينية والاجتماعية. المجتمع اليهودي في كاراكاو -بولندا- بلغ يومًا 60 ألف شخص ووصل إلى ربع تعداد المدينة، تم تدمير هذا المجتمع خلال الهولوكوست.
فقط 8% منهم نجوا، وقد غادروا جميعهم تقريبًا. ولكن مؤخرًا بدأت حركة إحياء للوجود اليهودي تظهر في البلاد، تضمن هذا إنشاء مركز اجتماعي يهودي، ما يعني أن المدينة بها الآن حوالي 700 ساكن يهودي.
دبلن -أيرلندا- شهدت وجودًا يهوديًا ارتفع من حوالي 1000 شخص في 2006، إلى 1439 وفقًا لآخر إحصاء. وفي أوبورتو البرتغالية، صار قانون الجنسية الذي بدأ العمل به في 2015 حافزًا لكثير من اليهود للعودة، القانون يعطي الحق لأبناء اليهود المنفيين خلال فترة محاكم التفتيش البرتغالية وما قبلها؛ في الحصول على الجنسية، هذا إلى جانب السمعة التي جنتها المدينة في السنوات الأخيرة كواحدة من أفضل الأماكن للعيش، دفعت حوالي 200 يهودي للعودة للمدينة أغلبهم من إسرائيل وفرنسا، جاءوا خلال السنوات الخمس الأخيرة.
يقول جوناثان ريداو "قبل خمس سنوات كان المجتمع اليهودي صغير للغاية حتى أنه كان من الصعب إقامة شعائر الشاباث (السبت المقدس). جوناثان يهودي إيراني انتقل إلى أوبورتو- البرتغال- بعد سنة قضاها هناك للدراسة. "الآن الجو مختلف وعظيم. صار هناك الكثير من الشباب اليهود".
يرى الحاخام مايل بالي أن واحدًا من الأسباب الرئيسة التي تقف خلف هذا التغير هو التكنولوجيا؛ "أعطى الإنترنت للناس الفرصة للانتقال وبدء حياة جديدة في مكان آخر مع الاحتفاظ بوظائفهم والعمل أونلاين". السائحون اليهود صاروا يتوجهون إلى أماكن جديدة للإجازات بعيدًا عن مناطق التهديدات الإرهابية في فرنسا وإسبانيا، ويتركون أثرًا اقتصاديًا يفيد اليهود المقيمين على مدار السنة.
هناك عوامل فريدة أخرى تقود عودة التواجد اليهودي في كل مدينة من هذه المدن. في حالة يانجون في ميانمار، هناك ذلك الانفتاح السياسي الذي أنتج عودة التدفق اليهودي إلى المدينة، سواء كانوا دبلوماسيين أو عاملين في المهن والخدمات المعاونة، وتدعم احتياجاتهم الغذائية اليومية الاقتصاد المحلي. سامي سامويلز - أحد القادة المحليين ويبلغ عمره 35 عامًا- افتتح السنة الماضية مطعم مشويات على الطريقة الشرق أوسطية. ورغم أنه لا يبيع طعام الكوشير (طعام حلال على الشريعة اليهودية) تخصص في "الأطعمة الإسرائيلية" وهو المورد الرئيسي للطعام في احتفالية الروش حاشانا (رأس السنة اليهودية) وعيد الخروج وغيرها من الأعياد اليهودية.
في كراكاو - بولندا- ساعد تبرع قدمه اﻷمير تشارلز - ولي عهد بريطانيا- منذ عشر سنوات على إقامة المركز الاجتماعي اليهودي في المدينة والذي شكل القلب النابض لإعادة إحياء الوجود اليهودي في المدينة. وتلقى المركز السنة الماضية منحة لا ترد من مؤسسة إريك وإريكا شورتز تبلغ قيمتها 500 ألف دولار. وهي أكبر هبة تلقاها المركز منذ أكثر من 20 عامًا، ما يعني أنه في مركز مالي يسمح له برعاية امتداد المجتمع اليهودي في المدينة. خلال ندوة في باليرمو الإيطالية توافد اليهود الباقين في صقلية ليصطحبوا الحاضرين في رحلة غداء في كُنيس أقاموه في كنيسة مهجورة.
إعادة إحياء المجتمعات اليهودية تظهر تجلياتها في المنشآت والمؤسسات الجديدة التي تظهر في فضاءات تلك المدن كالمعابد اليهودية. فالآن؛ صارت مدينة أوبورتو البرتغالية موطن أكبر معبد يهودي في جنوب غرب أوروبا، بعد تجديد كُنيّس كادوري ميكور حاييم. كما تحتضم أوبرتو متحفًا يهوديًا ومحل ومطعم لبيع الطعام اليهودي الحلال (الكوشير)، وهناك خطة لبناء حضانة أطفال على المنهج اليهودي.
في برايتون البريطانية يبني اليهود معبدًا جديدًا ومقهى يقدم طعام الكوشير وساحة تعليمية وقاعة للمناسبات بالإضافة لمشروعات سكنية تستهدف اجتذاب العائلات اليهودية الشابة.
هذه المجتمعات تدرك أن إعادة الإحياء لا تزال في مهدها، وتواجه مخاطر. فإعادة بناء نمط حياة كامل ليس بالأمر الرخيص. ترميم وإحياء المعبد اليهودي في باليرمو يتطلب حوالي 70 ألف دولار وقد تصل التكلفة لتسعين ألفًا. وينتظر يهود المدينة موافقة الحكومة في الوقت الذي يبحثون فيه عن شخص ماهر في العلاقات العامة ليقوم بمهمة جمع التبرعات اللازمة لتعمير المعبد.
هناك عائق آخر إلى جانب التكلفة، وهو هذا المناخ العالمي المتنامي من كراهية الاختلاف الديني والتشدد، بما فيه تنامي اليمين المحافظ في بلاد متباعدة كإيطاليا وميانمار. واجه اليهود اعتداءات في مارسيليا الفرنسية وفي بروكسل البلجيكية، وبعض المباني اليهودية تعرضت للتفجير العام الماضي في مالمو السويدية، وهذه كلها مدن كان يُنظر إليها باعتبارها آمنة على اليهود.
تقول إيفيلين أوات، رئيسة المؤسسة الصقلية للأبحاث اليهودية وواحدة ممن وقفوا بقوة وراء تعمير المجتمع اليهودي في باليرمو " طبعا نحن الأوروبيين قلقين من تنامي معاداة السامية. لكن حتى الآن لم يواجه يهود باليرمو أي عداوة". وتضيف إن المزيد من اليهود حول العالم يأتون لزيارة المدينة واختبار إمكانية العيش فيها.
هناك سبب آخر في شعور اليهود في هذه المجتمعات -التي تشهد إعادة بعث- بالأمان، على الأقل في الوقت الحالي، يقول سامويلز "نحن مجتمع صغير، لا ينظر إلينا باعتبارنا مصدر تهديد".
لكن هذه المجتمعات قد لا تظل على حالها من الصغر لوقت طويل، فسامويلز بالفعل بدأ في مشروع تجاري يرتبط نجاحه بتزايد اهتمام اليهود بالحياة في يانجون. شركة ميانمار شالوم بدأت 2006 وتم تصميمها بهدف اجتذاب السائحين اليهود للبلد وتوظف 28 عاملاً بدوام كامل في مختلف أنحاء ميانمار. في 2013، تواصلت الشركة بالبريد الإلكتروني مع يهود في مختلف أنحاء العالم يرجح أن لهم جذور عائلية تربطهم بميانمار.
نجحت الشركة فعلا في اجتذاب 50 إلى 70 شخص إلى ميانمار لزيارة مسقط رأس عائلاتهم. سامويلز يقول "آلاف من اليهود الأجانب جاءوا ليقضوا إجازاتهم في ميانمار عبر شركته في العام الماضي.
يواصل سامويلز "كان نجاحًا كبيرًا، ونتمنى أن نكرر ذلك بوتيرة أكثر انتظامًا، مع الفارق أن المرة القادمة لن تضطر الشركة أن تخطط للمبادرة بالتواصل مع زبائنها المحتملين؛ فحركة التعمير اليهودية في المدينة كفيلة بعمل الدعاية اللازمة".