استيقظ العطا متأخرًا يوم 19 يوليو/ تموز 1971 وهو ينوى تنفيذ أمر ما، وعندما أشارت عقارب الساعة إلى الرابعة عصرًا، أمر بتحرك تشكيلات عسكرية من مناطق ارتكازها على أطراف الخرطوم، لتحكم سيطرتها على القصر الجمهوري والمنشآت الاستراتيجية وسط العاصمة المثلثة، وألقت القبض على جعفر نميري رئيس البلاد الذي كان يقضي قيلولته في منزله المجاور لمبنى القيادة العامة للقوات المسلحة.
في تمام السابعة مساءً قطعت الإذاعة برامجها وأعلنت أن "الرائد هاشم العطا سيذيع بيانًا على جماهير الشعب، فترقبوه".
بكلمات قليلة مضطربة، وأداء يشوبه ارتباك ملحوظ، أعلن العطا نبأ استيلائه على السلطة، وقيام حركة 19 يوليو التصحيحية، وذكر أن رئيس النظام الجديد هو المقدم بابكر النور، وأن الرائد فاروق عثمان حمدنا الله هو رئيس وزرائه المرتقب، وأن البلاد تنتظر عودتهما على أول طائرة من لندن حيث يقيمان.
في اليوم التالي لثورة العطا خرجت جماهير غفيرة تجوب شوارع الخرطوم تهتف بحياة الأممية، تحمل أعلامها الحمراء ذات المطرقة والمنجل.
في هذه الأثناء، بينما توجه محمد وردي مطرب السودان الأول، ورفيقه الشاعر ذائع الصيت محجوب شريف، إلى دار الإذاعة لتسجيل تأييدهم لحركة العطا والإطاحة نميري، وأعلنا أنهما بصدد إنتاج مشروع غنائي احتفالاً بثورة 19 يوليو التصحيحية.
ولكن في مساء اليوم الثالث، هرب نميري من محبسه، ليعود في صبيحة اليوم الرابع، 22 يوليو 1971، ووسط دعم شعبي داخلي مطّرد وبمعاونة خارجية ليبية، إلى السلطة، ويعلن دحر الانقلاب وهزيمته تمامًا، ويسدل الستار سريعًا على أحد أكثر الانقلابات سذاجة وإثارة وأقصرها عمرًا في تاريخ المنطقة.
فلاش باك
قبل ثلاث سنين بدأت فصول هذه القصة، مايو/ أيار 1969، في بدايات صيف الخرطوم الحار.
يومها ألقى العقيد جعفر نميري عبر أثير أم درمان بيان قيام ثورته الاشتراكية، معلنًا تدشين "العهد المايوي" ونهاية التجربة الديمقراطية الثانية لسودان ما بعد الاستقلال.
ضم مجلس قيادة ثورة نميري/ مايو عضوين منتظمين في الحزب الشيوعي السوداني هما المقدم بابكر النور والرائد هاشم العطا، ما أربك تقديرات المتابعين وأثار التساؤلات حول ماهية ثورة مايو والجهة الداعمة لها وحجم الدور الحقيقي الذى يلعبه نميري.
مراسل وكالة أسوشيتدبرس خمّن قائلًا "يبدو أن هناك رجلًا غامضًا يملك زمام الموقف ويحرك الأحداث من خلف ستار".
من هو الرجل الأقوى؟
على نافذة يوتيوب صادفت لأول مرة تسجيلًا ثمانيناتيًا متوسط الجودة لأغنية تسمى عريس الحمى من كلمات محجوب شريف، ويؤديها محمد وردي بصدق بالغ.
ربما قرأ البعض اسم محجوب شريف على غلاف ألبوم "قلبي مساكن شعبية" لمنير، فهو صاحب كلمات الأغنية التي غناها منير بعد تمصيرها.
عريس الحمى لُحنت على إيقاع السيرة، أجمل إيقاعات الموسيقى السودانية وأكثرها جاذبية.
المجرتق كلمة نوبية الأصل، تسربت إلى العامية السودانية، وتعنى المُزيّن أو المُحلّى.
وردي يُحدثنا عن عريس/ شهيد مزين بالرصاص، ومحنى بالدم لا الحناء. عريس الحمى رثاء لشهيد سياسي سوداني يدعى عبد الخالق محجوب.
عبد الخالق محجوب أحد مواليد أم درمان في نهايات العقد الثانى من القرن العشرين، خريج كلية الآداب جامعة القاهرة. انضم مع نخبة من زملائه السودانيين للحركة المصرية الديمقراطية للتحرر الوطني حدتو، التي كانت رقمًا مهمًا في النضال ضد الاستعمار الإنجليزي لوادي النيل في الأربعينيات، كما شارك في تأسيس الحركة السودانية للتحرر الوطني "حستو"، التي أنبثق منها فيما بعد الحزب الشيوعي السوداني.
يحتل محجوب مكانة مرموقة في تاريخ السياسة السودانية، ويعد من أبرز رجالات اليسار في العالم الثالث، حيث قاد تجربة حزبية شديدة التفرد في المنطقة تقوم على سودنة النظرية الماركسية والخروج من عباءة التطبيق السوفيتي والصيني بما يوافق السياق الاجتماعي والثقافي لبلاده.
رفض عبد الخالق محجوب الاعتراف بثورة نميري في مايو، رغم أن برنامجها يكاد يطابق برنامج الحزب الذي يقوده. كان عبد الخالق مؤمنًا بأن الديمقراطية هي سبيل الشعوب الوحيد نحو الحرية، لكنه أذعن في النهاية عندما حسمت أغلبية السكرتارية المركزية موقف الحزب، وأيدت ثورة مايو، بعد تعيين نميرى لعدد من أعضائها وزراء في أول حكومة له.
وبالرغم من ذلك، توجهت الجماهير والوفود الخارجية، صوب محجوب لتهنئته بنجاح ثورة مايو.
هل كان مراسل الأسوشيتدبرس يقصد محجوب؟
ربما، ولكن الأكيد أن نميري بدأ يتملل من سيطرة محجوب ورفاقه على المشهد، وضاق بفكرة تبعية مايو للحزب الذي كان مليئًا وقتها بعديد الكوادر المؤثرة، مثل الرمز العمالي الأشهر سكرتير إتحادات نقابات عمال السودان الشفيع أحمد الشيخ، الحائز على وسام النيلين، ثالث أرفع الأوسمة السودانية، بالإضافة إلى جوزيف جارنج المحامي والمناضل الجنوبي، وزير شؤون الجنوب في حكومة نميري.
تنمّر نميري
دبت الخلافات وبدأ الصراع بين جناحي مايو، وتحرك نميرى محاولاً فرض السيطرة، فأعلن التوجه القومي العروبي في مقابل التوجه الاشتراكي العلمي، ليحجم نفوذ الحزب المتصاعد، ثم أصدر قرارًا مفاجئًا باستبعاد الثلاثي بابكر النور وهاشم العطا وفاروق حمدنا الله عثمان من مجلس قيادة الثورة، بدعوى أنهم رجال محجوب داخل المجلس.
بعدها، لم يلبث نميري أن قبض على محجوب نفسه.
لحظتها تخيل نميري أن مايو خرجت أخيرًا من عباءة الحزب الشيوعي، بات بإمكانه تنفس الصعداء، وأن يعلن للجماهير مساء 18 يوليو 1971 انتهاء الخطر الشيوعى.
بعدها بساعات، كان هاشم العطا يذيع نبأ استيلائه على السلطة، والقبض على نميري.
قرار خطير ومنفرد للعطا وضع الحزب وقياداته تحت سيف الأمر الواقع. لم يدر ببالهم أنهم يخطون كلمة النهاية حين قالوا في تعليقهم على تحرك العطا الفردي إنه "تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه".
كان هذا بمثابة إعلان ضمني بمسؤولية الحزب عن 19 يوليو، وهو ما ترجمته قاهرة السادات في سعيها للتعرف على السلطة الجديدة في الخرطوم، فأسرعت بإيفاد أحد رموز اليسار المصري المؤرخ أحمد حمروش، ورئيس بنك مصر أحمد فؤاد إلى الخرطوم، ومقابلة محجوب تحديدًا، بحكم زمالتهم السابقة فى حدتو.
لعب القذافى دورًا محورى تلك الأيام, فاحتجزت السلطات الليبية طائرة بابكر وحمدنا الله القادمة من لندن، ما كان له الأثر الأكبر في فشل الانقلاب، بالإضافة إلى المظاهرات الحمراء التي أثارت المكون العقائدي لعموم السودانيين، فخرجت مظاهرات مضادة تطالب بعودة نميري.
نميري العائد بالفعل بعد ثلاثة أيام فقط، أعدم هاشم العطا وبابكر النور وفاروق حمدنا الله عثمان، وعشرات المتعاونين معهم قبل جلوسه على كرسيه، حتى تصور المتابعون أن الأمر انتهى، لكن هل كان قد انتهى حقًا بالنسبة لنميري؟
سجل نميري فورًا كلمة متلفزة بكل عنفوان العودة إلى السلطة؛ أدان فيها الحزب الشيوعي وقائده "الذي يدعى عبد الخالق وهو لا يعرف الخالق"، ثم بدأ في تعبئة الشعور الجماهيرى ضد الحزب وقياداته، وشنت وسائل الأعلام حملة ضخمة تطعن في الشيوعيين وعقيدتهم ووطنيتهم، وتحث على الإبلاغ عنهم. وأنتشرت فى الشوارع ملصقات تحمل صور بعض القادة المطاردين.
وفي بعث سوداني للمكارثية نشرت إحدى الصحف إعلانًا تجاريًا كبيرًا احتلت نصفه صورة نميرى وكتب فى النصف الآخر "مؤسسة سبتمبر التجارية تقدم التهاني وتعلن للشعب أن مؤسستنا خالية تمامًا من أي عنصر شيوعي هدام".
في شهادتها على أحداث 19 يوليو 1971 تقول زوجة الشفيع أحمد الشيخ أنه عند سماعه نبأ تحرك العطا صرخ قائلاً "هذه مصيبة.. هذه نهاية الحزب"، لكن الشفيع لم يثبت على موقفه. وقاد مظاهرات ضخمة للنقابيين، ثاني أيام العطا، ودفع ثمن ذلك سريعًا، إذ كان اول قادة الحزب صعودًا إلى منصة الإعدام
ثم أنتظر الجميع سقوط الثمرة الكبرى، رجل يقود نحو 80 ألف سوداني تنظيميًا، ليتأكد نجاح عودة نميري ونظامه المايوي. بدأ تجييش حملة كبيرة للإيقاع برأس الحزب وقائده الملهم محجوب اشتركت فيها قوات من الجيش والمخابرات والمباحث والميليشيات الشعبية التابعة للنظام والمعروفة باسم كتائب مايو، في تلك الأثناء كان محجوب هاربًا يجوب شوارع الخرطوم في سيارته الفولكس باحثًا عن مأوى بعد أن أغلقت في وجهه كل الأبواب.
يقول الصحفي المصري الخبير بالشؤون السودانية يوسف الشريف إن تعليمات سرت فى بيوت شيوعيي الخرطوم تقول صراحة "لا تفتحوا الأبواب لهذا الأصلع".
مجرد التفكير في إيوائه كان كفيلًا ببث الرعب في النفوس تحسباً لإنتقام نميرى، مع تضييق الحصار وقع محجوب مساء 27 يوليو في قبضة أجهزة الأمن.
لحظة تاريخية لم يضيعها نميري، ليبدأ التحقيق بنفسه بنفسه مع عبد الخالق محاولًا إثبات دعوى مسؤولية الحزب عن انقلاب العطا. نفى محجوب التهمة بشكل شخصي وإن لم ينفها عن الحزب، لكنه تحول إلى الهجوم على نميري وأدان سياساته.
نميري: باسم من تتكلم؟
محجوب: باسم الشعب.
نميري: ماذا قدمت للشعب كي تتحدث باسمه؟
محجوب: الوعي ما استطعت.
أعدم محجوب شنقًا صباح الأربعاء 28 يوليو 1971 بعد محاكمة استمرت 10 ساعات فقط، وبعد أن ملأ الممرات المؤدية إلى غرفة الإعدام بهتاف عاش كفاح الشعب السوداني.
كانت خسارة السودان فادحة في رجاله. لم يتخيل أحد أن تصدر أحكام قاسية متعجلة بإعدام نخبة من أخلص مناضلي الحركة الوطنية السودانية طوال تاريخها، بعد محاكمات هزلية انتقامية ترأس بعض جلساتها نميري نفسه.
لم ينس نميري ما فعله وردي ومحجوب شريف ثاني أيام إنقلاب العطا، وإعلانهم الغناء فرحاً برحيله.
اعتقلهم في سجن كوبر سنتين دون محاكمة، حين وصلتهم أنباء إعدام عبد الخالق محجوب ورفاقه، كانت فاجعة كبرى أصابت الجميع بحزن شديد، لتخرج عريس الحمى من سجن كوبر، بمنتهى الصدق.
في ختام عريس الحمى يقسم محجوب شريف على لسان وردي بأن اليد التي قتلت عبد الخالق لن نسالمها أبدًا، وستندم على فعلتها، ورايته لن نسلمها مهما حدث.
النهاية؟
في إبريل/ نيسان 1986 أنتفض الشعب السوداني بكامل أطيافه، وصلت لنميري أنباء الانتفاضة أثناء تحليق طائرته فوق المحيط الأطلنطى عائدًا من واشنطن، وتناقلت وكالات الأنباء أعلان وزير الدفاع الفريق عبد الرحمن سوار الذهب الانحياز للشعب. نميري أو آب عاج كما اشتهر وسط أنصاره أصر على العودة ودحر الإنتفاضة كما اعتاد.
لكنه غير مسار الطائرة إلى منفاه القاهري بعد أن نفذ الأمر.
أصبح لدى وردى ومحجوب شريف الفرصة من جديد لاستئناف مشروعهما الغنائى المتوقف منذ فشل انقلاب العطا، وأن يصدقا الوعد بالغناء لرحيل نميري فيأتى نشيد الإنتفاضة الشهير يحمد سلامة السودان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كلمات أغنية عريس الحمى - تأليف محجوب شريف غناء محمد وردي.
** مطلع أغنية بلى وانجلى - تأليف محجوب شريف غناء محمد وردي.
مصادر أخرى
1 - تاريخ السودان الحديث - تأليف روبرت أو. كولينز
2 - مصر والسودان كفاح مشترك - تأليف أحمد حمروش
3 - السودان وأهل السودان أسرار السياسة وخفايا المجتمع - تأليف يوسف الشريف
4 - الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم أنتحر - تأليف فؤاد مطر
الصور المنشورة بالمقال من أرشيف صور كتاب الحزب الشيوعى السودانى نحروه أم انتحر، ومن انقلاب يوليو 1971 فيلم قصير من إنتاج قناة ام درمان الفضائية السودانية.