هذا الترتيب للأرقام ثم الدفع بمعلومة الإبقاء على دعم الخبز تمنح المستمع قشة يتمسك بها ويخشى ضياعها. هي رسالة تحمل له طمأنة وتهديدًا في الآن ذاته.
لأشهر طويلة توليت مهمة تفريغ خطابات وحوارات الرئيس عبد الفتاح السيسي لنشرها بموقع المنصة. خلال تلك الأشهر، استوقفتني ملاحظات عديدة تتصل بإدارة الرئيس للحوارات حول القضايا المثيرة لبعض الاعتراض الشعبي المكتوم، وتظهر تلك المعالم سواء في ردوده على الأسئلة المباشرة، أو في تعليقاته على القرارات خلال كلماته المكتوبة أو المُرتَجَلَة.
يحرص الرئيس دوما على استخدام استمالات عاطفية مختلفة في تعرضه للقضايا المثيرة للاختلاف، سواء بإظهار التعاطف والتفهم بداية من "هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه" مرورا "انتم مش عارفين إنكم نور عينينا ولا إيه" ووصولاً إلى حديثه العاطفي في احتفالية تكريم أسر الشهداء والمصابين في العمليات العسكرية في أول أيام عيد الفطر الماضي.
ليست هذه هي الاستمالات العاطفية الوحيدة التي يلجأ إليها الرئيس فهو يلجأ أحيانًا للحسم أو التهديد الوعيد أو التخويف والتي استعادها السيسي في الكلمات التي ألقاها في السودان أو في ذكرى 23 يوليو. لكن في جعبة الرئيس تقنيات أخرى ناجحة في تهدئة الرأي العام عند التعرض لقضايا قد تثير غضبًا أو اعتراض.
يمكننا الاستدلال على بعض التقنيات التي يلجأ إليها الرئيس في إجاباته وتعليقاته، باستعادة ردوده على سؤالين تلقاهما خلال جلسة اسأل الرئيس الرئيس المنعقدة على هامش مؤتمر الشباب في 16 مايو الماضي. ناقش السؤال الأول فكرة وجود متحدث رسمي للحكومة، يُناط به تفسير وشرح أسباب أي إجراء أو تعديل أو رفع أسعار أو غيرها من الأمور التي تمس الحياة اليومية للمصريين بشكل مباشر. أما السؤال الثاني، فناقش الرؤية المستقبلية للدولة المصرية، وبخاصة بعد انتهاء فترة رئاسة السيسي.
في ردوده على السؤالين، لجأ الرئيس لعدد من تقنيات التشتيت، التي تُجمِلها علوم الإعلام تحت مسمى "الضوضاء المعرفية Cognitive noise" وهو مفهوم ينطوي على العديد من الآليات الدعائية، ما يهمنا منها هنا هو الآليات التي من خلالها يتم تشويش انتباه المتلقي عن اهتمامه الرئيسي، وتوجيهه لاهتمامات أخرى قد تكون ليست بذات القدر من الأهمية لديه، لكن القائم بالاتصال "المتحدث" يجعل المستمع يعتقد أن هذه هي الإجابة التي كان يسعى للحصول عليها.
في إجابته على السؤالين المذكورين، لجأ الرئيس لتوجيه دفة الحوار في اتجاه معين يريد هو للمستمعين أن يهتموا به ويضعوه ضمن أولوياتهم، وفي سبيل ذلك استخدم الرئيس تقنيات يلجأ إليها كثيرا في خطاباته، ابتداء من تحويل الاتهام أو قلب الدفة، مرورًا بالتشتيت بالأرقام، ثم تغيير الموضوع الأساسي، وأخيرًا استخدام المقدس الديني للتأثير العاطفي، واستمالة الجانب الروحاني لدى المواطنين، وأخيرًا خاتمة دراماتيكية، تكون بمثابة أحجية ما، على المستمعين أن يفكوا طلاسمها، وفيها الإجابة الجوهرية الحقيقية للب السؤال.. ولكن دعونا نبدأ أولًا بلغة الجسد.
لغة الجسد
يحرص الرئيس السيسي على الظهور في سياقات مختلفة لإيصال صورة ذهنية ترتبط كلها بكونه "رجل الجيش القوي ورب الأسرة التقي". وفي هذا يستخدم الرئيس وفريقه الملابس واكسسوارات قليلة كالنظارات الشمسية لدعم تلك الصورة.
يستعيد الرئيس أحيانًا زي الجيش في بعض اللقاءات أو الأحداث الكبيرة كافتتاح تفريعة قناة السويس. أو الملابس الرياضية والكاجوال التي تظهره قويًا رياضيًا وقريبا من الشباب. وفي كلماته الرسمية في الأماكن المفتوحة؛ يُبقِي الرئيس خلال قراءة كلماته على النظارة الشمسية التي تضفي عليه هيبة وغموضًا، وتميزه عن الحضور الذين يندر أن تجد بينهم من يرتدي نظارة شمسية كالرئيس.
أما في جلسات الحوار فللرئيس لغة جسد مختلفة. خلال جلسة اسأل الرئيس الأخيرة، كان الرئيس السيسي ينظر لأعلى طوال إلقاء المحاورة لسؤالها الأول، مع تحريك رأسه كدلالة على تفهمه لما يسمع، وإشارة على أنه كان يستغرق في تحضير إجابة قوية للسؤال، أو أن الإجابة حاضرة بالفعل، ولكنه أنزل رأسه فور ما قالت المحاورة على لسان السائل "ثانيًا سيادة الرئيس، أعلم أن الإصلاح أصعب من البناء، لأنك مُطَالَب ببذل مجهود ضعفين.." فكانت انتكاسة الرأس متلازمة مباشرة مع كلمة "مُطالب" مع ابتسامة خفيفة، مشبكًا يدية كعادته.
وفي إجابته على سؤال الرؤية المستقبلية للدولة المصرية، وبينما كانت تقول المحاورة تلك الجملة، استوقفها الرئيس السيسي ليتأكد مما سمعه، مستفهمًا "الرؤية المستقبلية؟" وأدرك الرئيس أن السؤال يقصد حال مصر بعد انتهاء فترة رئاسته الثانية، فالرئيس هو - الوحيد الذي نعرفه - من يملك زمام الدولة المصرية بتنميتها الشاملة ورخاء اقتصادها ورؤيتها المرتقبة في 2030.
حينها ضحك الرئيس مازحًا "مستعجلين؟" في رسالة موجهة بشكل مستتر إلى فئة المواطنين الذين يختلفون مع سياساته، فقاطعوا الانتخابات، أو أبطلوا أصواتهم، أو انتخبوا موسى مصطفى موسى.
تحويل الاتهام
يدافع الرئيس السيسي عن خياراته دومًا، يرفض أي نقد موجه للحكومة التي اختارها، وكل خطأ يقع هو منسوب لكيانات يعرفها الرئيس ولا يفصح عنها هم إما أهل الشر أو الإرهاب الأسود أو "من يريدون بمصر الخراب".
هذا منطقي وقائم في كثير من الدول التي تفتقر لآليات رقابية قوية في المساءلة والمحاسبة. ولكن اللافت في إجابات الرئيس وكلماته، ان التهمة أحيانًا يعاد توجيهها للسائل نفسه. عادة ما يبدأ الرئيس ذلك التكنيك بأسلوب لين في البداية، ثم يتحول بالتدريج إلى الهجوم. ففي إجابته على السؤال المتصل باحتياجات المواطنين ومشاكلهم، تكلم السيسي بلغة سهلة وبسيطة عن متابعة الحكومة لتلك المشاكل، ولكنه لفت إلى أن المواطن لا يهمه بحث الحكومة في المشاكل، بل التأثير الفعلي لحل المشاكل، وفي تلك الإجابة تمهيدًا متوقعًا لتحويل الاتهام إلى المواطنين.
وبالفعل، بدأ الرئيس في سرد قائمة طويلة من التحركات التي يدلل بها على اهتمام الحكومة بالمواطن بدرجة "غير مسبوقة". وبعدما كانت ابتسامة السيسي لا تفارقه؛ اكتسى وجهه بملامح جادة وهو يكرر "مافيش حاجة في مصر الحكومة بتقدمها سعرها هو سعر الخدمة الحقيقي، حتى لو كانت الخدمة مش عاجباك".
وتبع ذلك مقارنات بين ما تقدمه مصر للمواطنين، وبين ما تقدمه الدول الإفريقية لمواطنيها من خدمات، وقال السيسي إنه كان يسأل الدول الإفريقية "إيه إللي بتقدموا له دعم عندكوا؟" سأل الرئيس السؤال بعين مفتوحة وأخرى نصف مغلقة، وبحركة يد تنم عن اختبار الدول بالسؤال، وأنه كان يعلم مسبقًا أن مصر ستكون بلا شك في صدارة الدول الإفريقية من حيث تقديم الدعم، حينها أقسم السيسي أن الدول الإفريقية التي قابلها كلها لا تقدم دعمًا مثل الدعم الذي تقدمه مصر، ثم أكد قسمه بجلال الله، الذي اعتدنا عليه في خطاباته، رغم أنه لا يشكل فارقًا جوهريًا في لغة السياسة.
ولم يفت الرئيس في مقارنته مصر بالدول الأخرى أن يشير إلى الخوف من الوقوع في سيناريو تلك الدول، ففي سياق آخر مكرر من السيسي في خطاباته، وفي نفس الجلسة قال "خاف على بلدك، حافظ عليها، احميها من الضياع اللي موجود في الدول الأخرى" قاصدًا دولًا مثل سوريا وليبيا واليمن، أما بالنسبة للدول الإفريقية، فقال السيسي إنها تُقدِّم "صفر دعم"، في إشارة تحذيرية إلى أن مصر يمكنها أن تقدم صفر دعم هي الأخرى، ولكنها لا تريد، أو لا تستطيع، أيهما أقرب.
اللعب بالأرقام
طالما تعودنا من الرئيس خلال خطاباته أن يتكلم بلغة الأرقام، والمراوغة بالأرقام هي لعبته المفضلة، التي يأتي على ذكرها دائمًا لتوضيح مدى ما تبذله الدولة من جهد وطاقة وأموال، من أجل إسعاد المواطن وإرضائه، ولكن في كثير من الأحيان، يشوب الأرقام غموضًا يصور للمستمع أن هناك تلاعبًا ما - ربما ممن قدموا هذه الأرقام للرئيس-، وفي هذه الحالة، يجد المتلقي نفسه أمام أحجية مثيرة، يمكنه كشفها خلال بعض العمليات البسيطة.
فبدءًا من خطاب الرئيس في مؤتمر حكاية وطن ، قال إنه تم إنجاز 11 ألف مشروع ، بمعدل 3 مشاريع في اليوم الواحد، وقد كانت اللعبة حاضرة هنا بكل معطياتها، ولكن كانت تنقصها الحبكة، فبضرب 3 × 365 يومًا × 4 سنوات، يكون الناتج 4380 مشروعًا، وليس 11 ألف.
هذا، ووصولًا إلى خطابه الأخير في الكلية الحربية ، حيث أفشى الرئيس السر الكبير، قائلًا إن هناك21 ألف شائعة في مصر، تم بثهم خلال 3 أشهر، لإحداث البلبلة وانعدام الاستقرار وإحباط المواطن وضياع الوطن، وبالنظر إلى الرقم المربك، وإذا أردنا اللعب بالأرقام، فستكون هناك 7 آلاف شائعة في الشهر، و233 في اليوم، بمعدل حوالي 10 شائعات في الساعة الواحدة، ومع تلك الأعداد المهولة، ربما يتساءل الكثيرون: أين هي تلك الشائعات، وكيف تم إحصاؤها، على ضخامتها؟ وما هو محل إعراب تلك الشائعات من غلاء البنزين والغاز والمياه والكهرباء والسجائر ومنع زراعة الأرز؟ فهل إحباط المواطنين يعود لهذه الحقائق؟ أم للشائعات المهولة التي تحدث عنها الرئيس؟
أما بالنسبة لجلسة اسأل الرئيس ، ففي نفس سياق الإجابة عن السؤال الخاص باحتياجات المواطنين، تابع الرئيس حملته على المواطن بذكر مشكلة الزيادة السكانية، وقال بتتابع "كنا بندعم بطاقات تموين ل20 مليون نسمة، بقم 30، بقم 40، بقم 50، بقم 70، بقم 90، بقم 100" وقد جاء هذا التتابع الرقمي ليُشعِر المواطن بمدى عِظَم العبء، مشيرًا إلى أن الدولة تحرص رغم الكثافة السكانية على أن تلتزم بدعم الخبز.
هذا الترتيب للأرقام، ثم الدفع بمعلومة الإبقاء على دعم الخبز تمنح المستمع قشة يتمسك بها ويخشى ضياعها. هي رسالة تحمل له طمأنة وتهديدًا في الآن ذاته. فالدولة تبقي على دعم الخبز وهذا يستحق الامتنان، لكنها تملك أن تسحبه كغيره إن لم يرض المواطن. فالرئيس يحرص في الحديث عن الدعم أن يقدمه لا باعتباره حقًا للمواطن؛ بل كمنحة وهبة من السلطات، مذكرًا المواطنين بأن من يمنح؛ له كل الحق في أن يمنع كذلك.
الدليل يكمن في مواصلة الرئيس للعبته المفضلة بالأرقام: "الرغيف بيكلف 60 قرش، بيتباع ب 5 صاغ" ثم قال باسمًا "ده في ناس مش عارفة يعني إيه 5 صاغ". وبحسبة يعيها الرئيس فالأسرة المكونة من 5 أفراد، الدولة تعطيها 3 جنيهات في اليوم، من أجل الخبز. ثم نظر الرئيس إلى وزير التموين كي يؤمن على كلامه، ولكن الوزير زايد على الرئيس وقال "أكثر والله"، فقال الرئيس إنه من الأفضل لنا أنه لم يترك الوزير يقول لنا الحقيقة الصادمة. ورغم ذلك حسب حسبة أخرى حول فيها 2.5 إلى (10 × 30 = 300) جنيهًا، فلا نعرف من أين جاءت الـ 10 ولا إلم ترمز الـ 30 لكن لا يهم، فالرئيس "بس أنا مش عايز أكسر بخاطر الناس"، مذكرًا المستمعين/ الناس مرة أخرى، بأنه هو من يمنح وبالتالي هو القادر على "كسر الخاطر" بالمنع أو فرض المزيد من القيود على دعم الخبز.
هنا شعر الرئيس أخيرًا أن الإجابة التي اختار أن يعطيها قد أتت أُكلها، حتى لو أنها لم تتطرق إلى موضوع السؤال الأصلي، (هل تتذكر السؤال أصلا؟)
تغيير الموضوع
انتقل الرئيس فجأة خلال إجابته عن السؤال الأول إلى موضوع آخر تمامًا لا يمت لكل ما سبق بصلة، فقال إنه لا يستطيع أن يوصل لنا فكرة أن يكون شخص ما ليس غنيًا، كيف تكون ظروفه؟ وهنا نتوقف لنتساءل؛ هل يقصد الرئيس الدولة المصرية؟ هذا صحيح على الأرجح، لأنه قال كثيرًا في خطابات سابقة "إحنا فقرا".
ولكن أعقب الرئيس تلك الإشكالية بذكر شركة إيني، ثم قال للحضور إنه يجلس معهم الآن كي يتناقش مع المصريين، لا كي يجيب عن أسئلة. وربما وجد الرئيس في ذلك مهربًا من الإجابة عن السؤال الأساسي، فقال إنه يجلس "عشان أدردش معاكوا، أفضفض.. آه أفضفض.. أفضفض.." في تكرار مسرحي للكلمة، كي تجلب التصفيق الحاد الذي ظهر بالفعل وسط الجمهور.
وفي إجابته على السؤال الثاني، والخاص برؤية مصر السياسية في ظل رئيس آخر، ناقش السيسي أن الدولة تعمل على تطوير ثلاثة ملفات؛ التعليم والصحة والجهاز الإداري للدولة، ولابد أن يكون لهم أساس قوي جدًا، والملف الرابع هو الحياة السياسية، وهو محل السؤال، وذكر الملفات الثلاثة الأولى، التي ليس لها علاقة بموضوع السؤال، قبل ملف الحياة السياسية، هو من باب التشويش على السؤال بضغوطات أخرى، وتحديات، قد تؤدي إلى عرقلة ملف الحياة السياسية القادمة في الدولة المصرية، ولذلك لزم التنويه عليهم في المقام الأول.
استدعاء المُقدَّس
في كثير من الأحيان يأتي المقدس الديني ليُشعر المواطنين بالطمأنينة، فالدولة تراعي الله في شؤونهم، والرئيس لا يخشى إلا من الله، ولا يبحث عن رضاء أي أحد سوى رضاء الله، وفي النهاية سيحاسب الله وحده الرئيس على كل ما فعله، وسيرى المواطنون أن الرئيس كان على حق، وفي ذلك مفارقة غريبة، إذ يطالب السيسي المواطنين في كل مرة أن يتحملوا وينتظروا ليوم الحساب، حتى يتأكدوا من سلامة نيته في خدمة الوطن.
هذه المفاهيم يؤكد عليها الرئيس كثيرًا وظهرت بشكل واضح في حواره مع ساندرا نشأت في إطار حملة إعادة ترشحه لانتخابات الرئاسة. وكذلك في كلمته الأحداث أمام طلاب الكلية الحربية بمناسبة تخرجهم وثورة 23 يوليو. بل إن في اختياره لإلقاء الكلمة الخاصة بذكرى حركة الجيش في حضور طلبة الجيش دلالة واضحة. ولكن ليس محلها هذا التحليل.
في إجابة الرئيس على سؤال احتياجات المواطنين يف آخر جلسات "اسأل الرئيس"، وتحويله لدفة الموضوع إلى الحديث عن شركة إيني وحقل ظهر العملاق، قال إنه يسير كل صباح، في تمام الخامسة صباحًا يدعوا الله قائلا "محووجين إدينا" سائلاً إياه أن يمنح الله مصر عشرة آبار مثل ظهر، ثم واصل الرئيس"إحنا ما سددناش إللي إحنا استلفناه، لا بنسدد فوايده اللي بتعلى علينا، ولا بنسدده هو".
وكما أن الله وحده هو الذي سيحاسب الرئيس، وليس الشعب أو البرلمان؛ فالله وحده هو القادر على إقالة مصر من عثرتها الاقتصادية، لا التخطيط الاقتصادي ولا إعادة النظر في منهج الدولة السياسي وسياساتها الاجتماعية والاقتصادية.
يحرص الرئيس على ربط نفسه بالقدرة العليا طوال الوقت. فالله هو الذي أتى به إلى موقعه، الله هو من يرسل له الرؤى في المنام، وهو الذي اختاره من فوق سماواته العُلى وهو القادر على إنهاء إمرته على البلاد.
وإن كانت زيادة السكان والسياسات الخاطئة لمن سبقوه في الحكم هي ما أوصل مصر لما تعانيه، فإرادة الله وحده ثم إقدام الشعب على خفض الإنجاب والمزيد من العمل، ودعم الله مع كل هذا هو ما سيخرج بمصر من هذه الأزمة.
خاتمة أولى
خاتمة موسيقية مثيرة، استخدمها السيسي ليختتم بها إجابته عن السؤال الأول، وهي الإجابة التي تصلح لأي سؤال مستقبلي سيوَجَّه للرئيس السيسي؛ لأنها الإجابة الإلهية.
فقد قال السيسي إن هناك آية في القرآن، يقول فيها الله "ففهمناها سليمان" وطفق يشرح معنى الآية، وتفسيرها، فقال "ففهمناها سليمان يعني إيه، يعني هو أتى سليمان القدرة على الفهم لموضوعات لا يفهمها الكثير" هنا كان يتكلم السيسي مبتسمًا بلغة جسد تنم عن أنه مقتنع تمامًا بما يقول، وفي نفس الوقت أن هناك دلالة ما وراء ذكره لهذه الآية بالذات، وبخاصة ذكره لها في إحدى المرات في العام السابق، ولكن هذه المرة، كرر الرئيس كلمة "ففهمناها سليمان.. ففهمناها سليمان.." حتى نطقها بنغمة لها دلالة قوية، وكأنها تقول "فليفهم كل واحد منكم ماذا أقصد بتلك الآية".
يرمي الرئيس إلى أن الله يُفهِمه كما أفهم سليمان، وكأن الرئيس أوتي الحكمة التي أتاها الله نبيه "سليمان الحكيم"، وهو نموذج آخر لاستدعاء الرئيس للمقدس وربطه لنفسه بالأنبياء الذين اصطفاهم الله واختصهم بحكمته وتأييده وعلمه.
لا يحتاج الناس إلى أن يعرفوا ما يعرفه الرئيس، وبالتالي ليس لهم أن يحاسبوه على قراراته وخياراته. فالرئيس يتخذها وفقًا لحكمة عليا، يعرفها هو بمنحة من الله، وهبها إياه ولم يهبها سواه، فكيف يسائل الناس حكمة الله أو يحاسبوه عليها؟
خاتمة ثانية
في ختام إجابة الرئيس على السؤال الثاني، والخاص برؤية مصر المستقبلية بعد انتهاء فترته الرئاسية، سكت الرئيس للحظة، ثم رفع سبابته اليمنى قائلًا "أقول كلمة أخيرة.. (ثم سكت مرة أخرى مبتسمًا وهو يحك يديه) افهموها كويس.. (رافعًا سبابته اليسرى) في إشارة إلى أن ما هو على وشك قوله في غاية الأهمية، ثم تابع وهو يحك يديه ببعضهما البعض، كفعل ينم عن التربص "مهاتير محمد عنده 90 سنة.. جابوه تاني.. جابوه.. تاني.. بعد 20 سنة".
مهاتير محمد مواليد 1925، تولى منصب رئيس وزراء ماليزيا، من 1981 إلى 2003، وكان سببًا في نهضتها الصناعية، وتحولها من دولة زراعية تعتمد على الإنتاج والتصدير، إلى دولة صناعية متقدمة، يساهم قطاع الصناعة فيها بـ90% من إجمالي الناتج المحلي، وبعد اعتزاله الحياة السياسية، أعلن عن ترشحه لنفس المنصب مرة أخرى، في مايو السابق، وفاز به ليكون سابع رئيسًا للوزراء، وأكبر الحكام عمرًا في العالم، عن عمر 93 سنة.
كانت لغة الجسد أثناء قول الرئيس للجملة، تؤكد أنها نوع ما من الأحجيات، علينا أن نفكها، ولكنها أحجية سهلة من الرئيس، فمهاتير محمد لبلاده، كالرئيس السيسي في مصر، والإشارة هنا واضحة بجلاء كذلك، وهي أن السيسي سيجد طريقه لكرسي الحكم ولو رحل عنه، وبإرادة الناس.
يتكرر هذا في أحاديث الرئيس، هو حريص على تذكير الناس بالتفويض، بأنهم هم من استدعوه للحكم ولم يختره هو. يرى السيسي نفسه، ويحب أن يراه الناس، منقذًا، وسبيلاً وحيدًا لإنقاذ مصر.
قد يلزم الدستور (في صورته الحالية) الرئيس بفترتين رئاسيتين اثنتين فقط. لكنه هذه الإشارة يُفهم منها أن الرئيس عبد الفتاح السيسي واثق أن الناس لن تكتفي بهاتين الفترتين، وأنهم سيعيدونه إلى كرسيه من جديد؛ تمامًا كما عاد مهاتير محمد في إندونيسيا.
وأخيرًا، إذا أردنا اللعب بالأرقام مثل الرئيس، ففترته الحالية ستنتهي في 2022، وقد يأتي غيره للكرسي بعدها، لكني أرجح أن السيسي حتمًا سيعود، ربما في 2026، لينتهي بفترته الثالثة إلى الرؤية المستقبلية للدولة المصرية، مصر 2030.
اقرأ أيضًا: الرئيس يخاطب الرئيس